دخلت مالي العام الجديد (2017) وهي ترتدي زي الحداد على 77 جندياً قتلوا في هجوم شنته (كتيبة المرابطون) التابعة للجزائري مختار بلمختار، استهدف معسكراً في مدينة غاو، كبرى مدن شمال مالي؛ ولكن الهجوم الأكثر دموية في مالي، أكد أن الحرب التي انتصرت فيها قوات فرنسية وأفريقية على الجماعات الإسلامية المسلحة، فشلت في تحقيق السلام والاستقرار في مالي، إذ أن مالي تعيش على وقع هجمات يومية وصل عدد ضحاياها إلى المئات.
في عام 2012 سيطرت جماعات إسلامية مسلحة، يتقدمها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، على مناطق واسعة من شمال مالي، ولكن الفرنسيين تدخلوا يناير 2013 وتمكنوا من طرد هذه الجماعات من المدن الكبيرة، لتبدأ حرب أخرى طويلة الأمد، تعتمد فيها هذه الجماعات على الخفة وسرعة الحركة واستنزاف الخصم، بينما يراهن الفرنسيون على تنسيق الجهود إقليمياً لضرب هذه الجماعات في العمق.
الجيش الفرنسي قال إن الجماعات الإسلامية المسلحة النشطة في مالي شنت 118 هجوماً خلال عام (2016) المنصرم، كان أغلبها في شمال البلاد ووسطها، بينما وصلت للمرة الأولى بعض الهجمات إلى الجنوب حيث تقع العاصمة باماكو، لقد أصبحت البلاد كلها في مرمى الهجمات التي تستهدف وحدات الجيش والأمن المالي، وعناصر قوات حفظ السلام الأممية والقوات الفرنسية “بركان”، بالإضافة إلى جماعات مسلحة متمردة وأخرى موالية للحكومة.
ويؤكد المتحدث باسم الجيش الفرنسي أن “هذه الهجمات أدت إلى مقتل 15 جندياً من الجيش المالي، 24 من القوات الأممية، و4 جنود فرنسيين”، يضيف المتحدث باسم قيادة الأركان الفرنسية العقيد باتريك ستيجير، خلال مؤتمر صحفي روتيني في باريس أن هذه الهجمات تمت باستخدام “عبوات ناسفة، سيارات مفخخة، ألغام، قذائف مدفعية ثقيلة، بالإضافة إلى انتحاريين”.
حرب “بركان”
فرنسا التي دخلت مالي تحت غطاء عملية “سيرفال” عام (2013)، تنشر اليوم قرابة 4 آلاف جندي في منطقة الساحل الأفريقي تحت غطاء عملية “بركان”، والتي تسعى إلى محاربة الجماعات “الإرهابية” في منطقة الساحل بالتنسيق مع جيوش بلدان المنطقة (مالي، النيجر، موريتانيا، تشاد وبوركينافاسو).
الشهر الماضي أعلن الجيش الفرنسي أن قوات “بركان” نفذت 125 عملية خلال عام (2016) المنصرم، فوق أراضي خمس بلدان في الساحل الأفريقي (مالي، النيجر، موريتانيا، تشاد وبوركينافاسو)، وهي عمليات قام بها جنود فرنسيون بصحبة جيوش هذه البلدان أو منفردين، وفق ما أعلن عنه الجيش الفرنسي.
تؤكد المصادر العسكرية الفرنسية أن عملية “بركان” تمكنت من توجيه ضربات قوية إلى الجماعات الإسلامية المسلحة، إذ قتلت خلال العام الماضي حوالي 150 من عناصر تصفها بأنها “إرهابية”، واعتقال عدة أشخاص سلمتهم للسلطات المحلية، بالإضافة إلى مصادرة أكثر من ستة أطنان من الذخيرة والمتفجرات ومنتجات أخرى.
على الرغم من حصيلة القوات الفرنسية التي تعدها “إيجابية”، إلا أنها لم تنجح في الحد من الهجمات التي تشهدها مالي، وبلدان مجاورة من منطقة الساحل الأفريقي.
مناطق النفوذ
على الرغم من وجود عدة جماعات إسلامية تنشط في مالي، إلا أنها تتقاسم الأدوار ومناطق النفوذ، ولفهم ما يجري على الأرض علينا العودة إلى عام 2012 عندما سيطرت هذه الجماعات على منطقة شمال مالي، فتقريباً نفس المناطق التي كانت تسيطر عليها هي التي تشن فيها الهجمات اليوم.
بالنسبة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (كتيبة الفرقان) فكان نفوذها في منطقة تمبكتو، غير بعيد من الحدود الشرقية لموريتانيا، أما (كتيبة المرابطون) التي يقودها الجزائري مختار بلمختار، والمرتبطة بتنظيم القاعدة، فيتركز نفوذها في منطقة غاو، شمال شرقي مالي، في مثلث حدودي بين (مالي، النيجر وبوركينافاسو).
ولكن التنسيق القوي بين (كتيبة المرابطون) و(كتيبة الفرقان) التابعة لإمارة الصحراء بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، مكن من شن هجمات غير مسبوقة خلال العامين الماضيين، استهدفت عواصم مهمة في غرب أفريقيا، وأوقعت ضحايا غربيين كثر، بدأت بهجوم على فندق “راديسون بلو” في باماكو، وفندق “سبلانديد” في واغادوغو، ثم منتجع “بسام الكبير” في أبيدجان.
جماعة (أنصار الدين) التي أسسها القائد الطارقي إياد أغ غالي، كان نفوذها في منطقة كيدال، معقل قبائل الإيفوغاس في أقصى الشمال الشرقي لمالي، ولكنها في الفترة الأخيرة من عام (2012) وسعت نفوذها ليشمل قبائل الفلان في الجزء الغربي من منطقتي تمبكتو ومبتي، ويمتد حتى وسط مالي، اعتماداً على “جماعة ماسينا” الفلانية التي أسسها فيما بعد القائد الفلاني أمدو كوفا.
بقي في المشهد جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا (موجاو)، التي يقودها أبو الوليد الصحراوي، وعانت من انقسامات كبيرة، إذ انسحب عنه الجزائري مختار بلمختار بكتيبته القوية (المرابطون)، وتحول أغلب مقاتليه إلى جماعة (بلات فورم) التي أصبحت ميليشيا موالية للحكومة المالية، ليبقى الصحراوي وحيداً فقرر مبايعة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولكنها بيعة بقيت حبراً على ورق ولم تسفر عن دعم حقيقي للرجل؛ يتحرك الصحراوي في مجال جغرافي ضيق في الشريط الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، ويشن بين الفينة والأخرى عمليات للفت الانتباه، أغلبها كلل بالفشل.
جحيم مالي
لقد تحولت مالي خلال عام 2016، إلى الجحيم التي لا يرغب الجنود الأمميون في دخولها، إذ أصبحت المنطقة الأخطر على جنود الأمم المتحدة في العالم، وتم تصنيف البعثة الأممية لحفظ السلام في مالي “ميونيسما” على أنها الأكثر تضرراً من بين جميع البعثات الأممية النشطة في العالم.
تشير إحصائيات الجيش الفرنسي إلى أن ضحايا الهجمات في صفوف قوات حفظ السلام الأممية العام الماضي (2016) وصلت إلى 24 قتيلاً وعشرات الجرحى، أغلبهم جنود من دول غرب أفريقية عبرت عن استعدادها لدخول الأراضي المالية بعد الحرب التي شنها الجيش الفرنسي في شمال مالي عام (2013) وانتهت بطرد المقاتلين الإسلاميين من كبريات المدن.
دخلت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إلى شمال مالي، 11 ألف جندي يتحركون في سيارات رباعية الدفع، بقبعاتهم الزرق وأعلام الأمم المتحدة تحفهم، إلا أن ذلك لم يمنع تعرضهم لهجمات بمختلف الأساليب، أغلبها قذائف هاون ومدفعية، فلا يكاد يمر يوم من دون قذيفة تشق سكون الصحراء لتستقر في المعسكر المحفوف بالخوف، في مدينة كيدال، أقصى شمال شرقي مالي.
اليوم أدرك قادة دول الساحل ضعف هذه القوات، فارتفعت مطالب في شبه المنطقة، خاصة لدى رئيس النيجر محمدو يوسفو ورئيس تشاد إدريس ديبي، تدعو إلى منح هذه القوات وسائل لوجستية وعسكرية وتحويلها إلى “قوة هجوم”، وهو ما يواجه رفضاً دولياً خشية دخول هذه القوات في توازنات المشهد المعقد في شمال مالي، فلا يمكن لقوة عسكرية أن تقف على الحياد في منطقة تحولت إلى فسيفساء من الخصوم والأعداء والأصدقاء.
اتفاق السلام
في يونيو 2015 جلست الحركات الأزوادية المسلحة على طاولة واحدة مع الحكومة المالية، وتم توقيع اتفاق للمصالحة واستعادة الاستقرار، عرف فيما بعد باسم “اتفاق الجزائر”، ولكن هذا الاتفاق واجه عراقيل عديدة وبقي حبراً على ورق، بل إنه في بعض الأحيان صب الزيت على نار الخلافات المشتعلة منذ عدة عقود.
وكانت الصحف المالية قد تحدثت العام الماضي عن “فشل” اتفاق الجزائر في تحقيق المرجو منه، إذ أنه في الذكرى الأولى لتوقيعه (يونيو 2016) كانت البلاد قد شهدت 198 هجوماً مسلحاً، سقط خلالها قرابة 400 قتيل.
تكشف هذه الأرقام القياسية عن حجم التحدي الماثل أمام تطبيق بنود اتفاق مصالحة تم برعاية المجموعة الدولية والأمم المتحدة، ينص على دمج الحركات الأزوادية المسلحة في الجيش والشرطة، ومنح الشمال نوعاً من اللامركزية واستقلالية اقتصادية من خلال إنشاء “منطقة تنموية”، بالإضافة إلى اعتراف بهوية اجتماعية وثقافية للشمال، مع السعي نحو طي صفحة الماضي المليئة بالانتهاكات والمجازر.
إلا أن الاتفاق الذي تتبادل الأطراف الاتهامات بشأن التأخر في تطبيقه، أطال عمر الأزمة والحرب في مالي، في ظل اتهام فرنسا التي تعد اللاعب الأبرز في المنقطة الأفريقية عموماً، ومنطقة الساحل على وجه الخصوص، بأنها لا تضغط بقوة من أجل تطبيق اتفاق المصالحة الموقع في الجزائر.
الواقع المالي
يتحدث الواقع في مالي عن صورة قاتمة، تظهر أن التحديات أمام باماكو ليست مجرد جماعات مسلحة تسعى لإقامة قانونها الخاص في مناطق من البلاد، وترفض الخضوع للحكومة الضعيفة والغير مسلحة بما يكفي، فالتحديات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية هي الأبرز في بلد يعد من بين الدول العشر الأكثر فقراً في العالم.
وتشير الإحصائيات إلى أن مالي تقع في المرتبة 175 عالمياً من أصل 182 دولة، وفق مؤشر التنمية البشرية، مع تقديرات تقول إن 60 في المائة من سكان البلاد (16 مليون نسمة) يعيشون تحت خط الفقر.
إنها بيئة خصبة لانتشار الإحساس بالظلم الاجتماعي والحنق على الجهات الحكومية، ما قد يؤدي بالكثير من الشباب إلى الانخراط في أعمال عنف، خاصة المنحدرين من قبائل وأعراق تحس منذ عقود بأنها “مهمشة ومظلومة”، على غرار الطوارق والعرب والفلان، التي ينحدر منها أغلب مقاتلي الجماعات الإسلامية المسلحة.
هذا بالإضافة إلى عدم التجانس الثقافي والاجتماعي بين شمال مالي وجنوبها، وتاريخ طويل من التمرد والسعي لإقامة دولة مستقلة في إقليم “أزواد”، ما خلف إرثاً من انتهاكات حقوق الإنسان وملفات الجرائم التي تلقي بظلالها على أي مساع من أجل تحقيق “المصالحة الوطنية” في مالي.