عرف الموريتانيون الفكر الماركسي خلال ستينيات القرن الماضي، وبدأ يحضر بقوة في الساحة السياسية مع مطلع السبعينيات، خلال الصعود القوي لحركة “الكادحين”، التي اخترقت أعماق الريف الموريتاني، وتردد صدى شعاراتها في أرجاء البلاد، فمن أدخلَ هذا الفكر إلى البلد؟
يقولُ الدكتور السيد ولد اباه، أستاذ الفلسفة في جامعة نواكشوط العصرية، إن دراسة الفلسفة في الثانوية في سبعينيات القرن الماضي، كان لها تأثير كبير جدًا على العمل السياسي في موريتانيا، خاصة وأنها ارتبطت بشكل أساسي بحركة اليسار، واليسار يستند إلى الفلسفة الماركسية.
ويشير ولد اباه إلى أنه “قبل الجامعة كان الأساس هو الثانوية، وخصوصا الثانوية الوطنية التي كانت مركز تدريس الفلسفة في البلد”.
وأوضح ولد اباه في حلقة من بودكاست “تكملة”، التي تبثها “صحراء ميديا”، أن “هنالك أستاذ فلسفة معروف في الثانوية الوطنية، اسمه فرانسيس دو شاسي، كان دوره أساسيًا في نشر الفكر الماركسي في هذه البلاد، لأنه كان ماركسيا وتأثر به طلبته كثيرًا، وكان ذلك في حقبة ما عُرف بـ(الكدحة) واليسار”.
هذا الأستاذ الفرنسي تحول فيما بعد إلى علم الأنثروبولوجيا، ثم كتب عدة مؤلفات مهمة عن موريتانيا، و”كان له تأثير في تكوين أول جيل من الطلبة الذين فيما بعد تخصصوا في الفلسفة”.
خمس سنوات
فرانسيس دو شاسي من مواليد العاصمة الفرنسية باريس، عام 1934، وهو ينحدر من عائلة فرنسية عريقة ومتدينة، درس في البداية الأدب الكلاسيكي الاسباني ثم الفلسفة.
وصل “دو شاسي” إلى نواكشوط عام 1964، وهو يبلغُ من العمر ثلاثين سنة، ليعمل أستاذًا للفلسفة في الثانوية الوطنية، بالعاصمة نواكشوط.
درس “دو شاسي” في الثانوية لخمس سنوات، تخرج على يده خلالها عشرات الطلبة الموريتانيين، الذين اتخرط العديد منهم في النضال السياسي، فيما توجه أستاذهم عام 1969 إلى الجزائر، قبل أن يغير تخصصه نحو الأنثروبولوجيا.
الوزير السابق والمثقف الموريتاني عبد القادر ولد محمد، قال إن “دو شاسي” في إحدى زياراته الأخيرة لموريتانيا حدثه عن أول يوم عمل له في الثانوية الوطنية عام 1964، وهو اليوم الذي زارها فيه الرئيس المختار ولد داداه لتدشينها بشكل رسمي.
يضيف الوزير السابق نقلًا عن الأستاذ الفرنسي أنه “انبهر من ذلك الفتى الموريتاني الصغير، الذي قفز من طاولته برشاقة، ليسائل الرئيس حول ضرورة ترسيم وتدريس اللغة العربية، من أجل تأكيد الاستقلال التام للبلد”.
كان ذلك الفتى هو سيدي محمد ولد سميدع، واحد من أشهر وجوه اليسار في تاريخ موريتانيا، وتؤكد القصة أنه درس على “دو شاسي”.
كتب “دو شاسي” كثيرًا عن موريتانيا، حتى أنه أصدر عام 1979 كتابًا عنوانه: “تطور البنيات المجتمعية في موريتانيا منذ الاستعمار وحتى اليوم”، كان عبارة عن دراسة لتلاشي وظهور البنيات المجتمعية، وكيف كان تأثير الاستعمار على هذه البنيات الاجتماعية.
كما صدر له عام 1977 كتابا صغيرًا، كان عبارة عن مقابلة مطولة مع السياسي والدبلوماسي الموريتاني الراحل أحمد بابا مسكه، ولكن كتابه الأهم صدر سنة 1984، وكان بعنوان: “موريتانيا 1900 – 1975”.
ما بين جيلين
لم يكن “دو شاسي” هو الأستاذ الوحيد الذي لديه توجه إيديولوجي، ونقل هذا التوجه إلى طلبته، وإنما كان هنالك العديد من الأساتذة الأجانب الذين فعلوا ذلك.
يقول الدكتور السيد ولد اباه إنه إبان فترة السبعينيات “كان هنالك أستاذ فلسفة مغربي اسمه (زكي)، يدرس باللغة العربية، وهو ماركسي التوجه، كما أن الكتاب المقرر على الثانويات من تأليف محمد عابد الجابري ومحمد سطاتي، وكان يسمى هنا من طرف الطلاب بـ (كتاب الفلسفة الأصفر)، وهو كتاب ممتاز ولكنه كتب من منظور ماركسي”.
ويضيف ولد اباه: “في المقابل، كان هنالك أستاذ فرنسي اسمه (جان أرنولد)، وهو أستاذ كبير ودرس لسنوات طويلة في موريتانيا، لكنه كان يدرس باللغة الفرنسية ويركز على فلسفة العلوم أو الابستمولوجيا، وكان بعيدا جدا من الماركسية، وهكذا صار عندنا جيل درس بالفرنسية ارتكز تكوينه على فلسفة العلوم، وجيل درس باللغة العربية كان أغلب أفراده منخرطون في التفكير الماركسي والسياسة”.
الجيل الأول
في حديثه خلال بودكاست “تكملة”، قال الدكتور السيد ولد اباه: “أظن أن أول من تخصص في الفلسفة من الموريتانيين كانوا اثنين، أحدهما معروف جدًا هو عبد الودود ولد الشيخ الذي تخرج في الفلسفة، ونقل تخصصه فيما بعد إلى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا”.
ويضيف متحدثا عن عبد الودود ولد الشيخ: “ظل دائمًا فيلسوفًا في نظرته، كل ما كتب من مقالات وكتب كانت دائما تحضر فيها الفلسفة”.
أما الشخص الثاني فقال ولد اباه إنه من النادر أن يعرف الناس أن تخصصه الفلسفة، وأضاف أنه “تخرج من الفلسفة وأعد رسالة حول فيلسوف مهم اسمه سبينوزا، هذا الرجل اسمه سيداتي ولد بنحميده، ولكن بعد تخرجه من الفلسفة أصبح مفتش دولة ثم محافظًا للبنك المركزي”.
وأضاف: “رغم أنه غير الاتجاه كاملا من الفلسفة إلى المالية والاقتصاد، لكن تكوينه الفلسفي قوي جدًا”.