وفي سياق النقاش ذاته أنشر الفقرات التالية إسهاما في تسليط الضوء على بعض ملامح الحل المنشود لقضية “المعلمين” والشرائح الأخرى.
بدأت مجموعات من أهلنا من شريحة ” المعلمين” منذ بعض الوقت حراكا مشروعا بل ومطلوبا للتنبيه على بعض الاختلالات الاجتماعية التي عرفها المجتمع خلال قرون من الزمن وكان من نتائجها وقوع ظلم على عدة شرائح من نسيجنا الاجتماعي حظي أهلنا من ” المعلمين” – الصناع بنصيب وافر منه.
وقد اخترت عبارة” المعلمين” (بإضافة الألف) لأن هذه الفئة الغالية كانت تعلم الجميع ، علمتنا العطاء والجد والاجتهاد والمثابرة والصبر وعلمتنا كيف نبني حضارة وعلمتنا كيف نكتفي ذاتيا ونوفر احتياجاتنا في صحراء ومناطق معزولة عن مراكز الحضارة وعلمتنا القدرة على تحمل الأذى وعلمتنا البساطة والتواضع وعلمتنا طرائق الاعتماد على النفس ومناهج الإبداع والتطوير وأساليب صقل المهارات. وعلمتنا الجمع بين الحرفة وعمل اليد وكسبها وبين طلب العلم والنبوغ فيه والاستقامة على شرائع الدين.. وعلمتنا التميز في الإنتاج الأدبي ، خاصة الأدب الحساني حيث كان لهذه الفئة من النبوغ فيه ما لا تخفى شواهده.
قام مجتمع “البيظان” كغيره من المجتمعات البشرية على “تراتبية” وظيفية تداخلت فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فاصطلح المجتمع بعفوية ، ابتداء، على تخصص وظيفي أفرز في مراحل أخرى طبقات اجتماعية كانت في أصلها وظائف وحرفا وتخصصات تخدم فيها كل فئة الفئات الأخرى وكانت المسألة في الغالب على سبيل الاختيار لا الجبر والقهر باستثناء حالة (العبيد- الحراطين) التي كانت ظلما واضحا بغض النظر عن الجدل المتعلق بالسياقات التاريخية لتفسير تلك الظاهرة وتحديد كيف بدأت ولماذ؟
ولمحاولة وضع الأمور في نصابها لا بد من التذكير بأن هذا المجتمع المعروف بمجتمع ” البيظان” عاش في ظروف استثنائية مقارنة مع جيرانه في الشمال والجنوب فلم تخل أحوال الجيران من وجود سلطة مركزية تقوى شوكتها تارة أو تضعف أحيانا لكن التاريخ لم يسجل ، على حسب علمي، فراغا كبيرا في السلطة خاصة عند جيراننا في الشمال..
أما في بلاد (السيبة) أو صحراء الملثمين ، فكان وجود سلطة مركزية هو الاستثناء قبل ظهور المستعمر الفرنسي وسيطرته على البلد ليمهد بعد ذلك لكيان الدولة المعروف اليوم بموريتانيا.
نعم ظهرت بعض الإمارات وكان لها نوع سيطرة في مراحل تاريخية لكنها لم تتمكن من بناء مجتمع متماسك يتوفر على الحد الأدنى من مقومات الحياة المدنية المنظمة .. هذه الحالة أفسحت المجال أمام الفئات الموجودة لإدارة الشأن العام بطريقتها وكان العامل الأساسي للبناء الاجتماعي والسياسي هو عامل القوة فكلما كانت فئة معينة أقوى كان بإمكانها أن تضع بصماتها لتحدد الاتجاه العام للعلاقة بين مختلف طبقات المجتمع.
ونتيجة لهذا الوضع الذي لم يكن فيه سلطان مركزي غالبا، كانت الفوضى هي سيدة الموقف فقام المجتمع على ركيزتين أساسيتين إحداهما الفوضى الشاملة والأخرى هي أن البقاء أو الكلمة العليا إنما هي للأقوى ، أما الفوضى فكان الجميع ضحايا لها حتى أولئك الذين كانوا يملكون القوة بشقيها المادي ( السلاح ) أو المعنوي ( العلم)..
ونتيجة لهذه الفوضى كانت الحروب هي الأصل– غالبا- في العلاقة بين جميع الأطراف بل حتى بين أهل الشريحة الواحدة ، فالزوايا الذين كانوا هم حملة لواء العلم وحماة الدين عاشوا حروبا طاحنة فيما بينهم تكون أسبابها في كثير من الأحيان عصبيات أو صراعا على أرض أو ماء..أما الحروب بين الإمارات أو بين أمراء الإمارة الواحدة فأكثر من أن تعد وتحصى.
إن أرضية كهذه لا يستغرب أن تنتج بعض المخالفات الخطيرة والبعد عن تعاليم الإسلام أحيانا بناء على اجتهادات تقبل أو ترفض في سياقات تاريخية معينة..
كان من نتائج هذه الفوضى أن رسخت العصبيات والافتخار بالنسب حتى أن أبناء الشريحة الواحدة كالزوايا كان بعضهم يرى أن قبيلته أعظم شأنا من القبائل الأخرى وكذلك الحال بالنسبة لأبناء القبيلة الواحدة إذ كان بعضهم لا يزوج بعض أبناء قبيلته لأنهم أقل شأنا منه في نظره، فما بالك بنظرته للقبائل الأخرى أحرى لبني حسان بله الفئات الأخرى من ” المعلمين” والحراطين وغيرهما.
ومع أن مجتمع الزوايا مجتمع علم نذر أهله أنفسهم لنشر الدين وتبيان الحلال والحرام إلا أنهم وقعوا في بعض المخالفات الشرعية التي يصعب تفسيرها بسهولة ، ومن أمثلة ذلك بعض العادات المتعلقة بالزواج التي ليس لها أصل من شرع الله وغير ذلك من العادات التي ربما جاءت ثمرة تلاقح العادات العربية والإفريقية والبربرية.
ولذلك قد نجد بعض الفهم ، وليس التبرير، لما لحق ب”المعلمين” من ظلم اجتماعي وهنا لا بد من التوقف قليلا عند بعض القضايا التي شكلت إساءة لأهلنا من شريحة “المعلمين”:
قضية الأصل
سادت في المجتمع الموريتاني على مر عصور طويلة ثقافة الافتخار بالنسب كما ذكرنا آنفا، واختار الناس لأنفسهم من الأصول ، حقيقة أو توهما ، ما يعلي من شأنهم ، فوظف النسب لرفع قوم أو منح آخرين درجات متدنية في السلم الاجتماعي بغض النظر عن الصواب والخطأ في كل ذلك..
ونال أهلنا “المعلمين “نصيبهم من هذا الظلم الاجتماعي والمعنوي ، لكن هذه المسألة في تقديري، لا تقدم ولا تؤخر فالإنسان لا يختار أبويه ولا جنسه أو لونه ، والعبرة إنما هي بما شرعه لنا ديننا الحنيف قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ) وبذلك تسقط كل الاعتبارات التي تواضع عليها الناس لتحديد قيمة الإنسان اعتمادا على نسبه أو ماله أو شكله أو نحو ذلك . ثم إنه لو كان الأصل مذمة لكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس انتباها لهذا الموضوع وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فكان الرجل يسلم ويبقى أبوه على الكفر فهل ينقص ذلك منهم؟.
وعلى أية حال فليس لأحد أن يحدد للناس أصولهم ، فالناس مصدقون في أنسابهم كما قيل قديما، والعبرة إنما هي بالهدف من تحديد هذا الأصل فإذا كان على سبيل الذم والاستهزاء عندها ندخل في طور الغيبة وأكل الأعراض وذلك ممنوع شرعا ومن الآثام الكبيرة.
فالإنسان لن يحاسب يوم القيامة لأنه ابن فلان أو فلانة أو من هذا البلد أو من هذه القارة أو من هذا الجيل أو ذاك فقد ورد في الحديث (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم .ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم( فالإنسان سيحاسب على امتثاله واجتنابه وعلى عطائه ونفعه لخلق الله .
وهذه هي الجاهلية بعينها أن يعير الإنسان بأصله ونسبه أو تحدد قيمته على ذلك الأساس..
قضية الأحاديث والفتاوى حول شريحة ” المعلمين”
تداول الناس في المجتمع الموريتاني قديما مقولات يظنونها أحاديث والحال أنه لا أثر لها في الصحاح، بل لعلها أحاديث موضوعة ، تصف فئة المعلمين بصفات سلبية ودون الدخول في تفاصيل تلك المقولات ، لنتذكر أن حرفة “المعلمين” هي أشرف الحرف والمهن ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي اللـه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) ويكفي ” المعلمين” شرفا أنهم كانوا من أكثر الفئات اشتغالا بعمل اليد وإنتاجا وكسبا للحلال بعرق جبينهم، وأنهم كانوا باشتغالهم بإلانة الحديد ورثة لنبي اللـه داود عليه السلام في صنعته.
أما الفتاوى التي نشرت مؤخرا – والحمد لله أنها ليست حديثة – حول عدم جواز الصلاة خلف “المعلمين” فقد كفانا أهل العلم مؤنة الرد عليها والذي أؤكد هنا أنني أصلي دون شك أو تردد خلف “المعلم”- وخلف الحرطاني وخلف كل مسلم بغض النظر عن لونه أو فئته (صلوا خلف من يقول لا إله إلا الله).
والحمد لله أنني لم أسمع في المجتمع الذي تربيت وعشت فيه مثل هذا النوع من الفتاوى بل الذي أعرفه أن شريحة “المعلمين” كانت تحظى في مجتمعنا بقدر من الاحترام ولا أدعى هنا أن مجتمعنا كان خاليا من بعض الأساطير التي نسجت حول أهلنا ” المعلمين” . ومن أمثلة ذلك التكريم أن السيد الفاضل أحمدو ولد جريفين رحمه الله كان أحد أركان مجتمعنا وكان أحد سادته وجمع بين إتقانه لعمله وخدمته للمجتمع واستقامته ، فقد كان مواظبا على المسجد مع الخلق الكريم وهكذا أبناؤه من بعده وكذلك السيد الفاضل محمد الأمين ولد خي رحمة الله عليه الذي كان “سيف” – (مندوب الفخذ لدى الجماعة)-أحد أفخاذ القبيلة في قريتنا (برينة) في الجنوب الموريتاني وهذا منصب عادة لا يمنح إلا للمتميزين من أبناء المجتمع.
وأذكر أن زميلنا وصديقنا العزيز محمد ولد لكويري الذي اشتركنا معه بعض المراحل الدراسية كان يحظى بكل التقدير والاحترام بين الطلاب والأساتذة وكان متميزا متفوقا في الدراسة وكذلك حظي كل أفراد هذه الشريحة في مجتمعنا بالاحترام والتقدير.
قضية المصاهرة
تعتبر قضية الروابط الاجتماعية ، من زاوية الزواج والمصاهرة ، من إشكالات العلاقة بين فئات المجتمع الموريتاني كغيره من المجتمعات القبلية البدوية وهي أمر غيبت فيه مقاصد الشارع في حالات كثيرة ولذلك قد يكون من المناسب مناقشة قضية الكفاءة وهل المعتبر فيها النسب أو الصلاح والاستقامة.؟
الكفاءة في النسب
الكفاءة لغة هي المماثلة والمساواة والكفء : المثيل والنظير
الذي عليه كثير من أهل العلم أن الأساس في الكفاءة إنما هو الاستقامة والخلق وقيمة هذه لا تقارن بالنسب والصناعة والغنى أو نحو ذلك..
والذي عليه مذهب السادة المالكية أن الكفاءة معتبرة فقط بالاستقامة والصلاح ، والغريب هنا أن يكون مجتمعنا الذي هو من أكثر المجتمعات الإسلامية تمسكا بالمذهب المالكي ، يناقض في السلوك الاجتماعي موقف السادة من المالكية من قضية الكفاءة.
قال سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه عن حكم زواج الأكفاء : الناس بعضهم أكفاء لبعض ، عربيهم وعجميهم ، قرشيهم وهاشميهم إذا أسلموا وآمنوا..
وهذا ما رجحه ابن القيم حيث يقول في زاد المعاد : فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الكفاءة في الدين أصلا وكمالا ، فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر. ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك ..
وذهب ابن حزم إلى عدم اعتبار هذه الكفاءة فقال : ( أي مسلم – ما لم يكن زانيا- فله الحق في أن يتزوج أية مسلمة ما لم تكن زانية) وقال : وأهل الإسلام كلهم إخوة لا يحرم على أي زنجية لغية نكاح لابنة الخليفة الهاشمي .. والفاسق المسلم الذي بلغ الغاية من الفسق – ما لم يكن زانيا – كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية) وقال : والحجة قوله تعالى : (( إنما المؤمنون إخوة)).
ثم إنه لو كانت الكفاءة بالنسب ، لما أنكح النبي صلى الله عليه وسلم زينب من زيد ولما أنكح صلى الله عليه وسلم المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب.
وأين نحن من تزويج أبي حذيفة سالما من هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار وكذلك تزويج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف.
هذه أمثلة سريعة من القرآن والسنة وأقوال أهل العلم فيما يتعلق بقضية الكفاءة وهذا النهج الذي يعتمد الاستقامة والصلاح في الكفاءة، أقرب إلى العدل وتعزيز الروابط بين أبناء المجتمع وأبناء البلد الواحد فكيف إذا كان استبعاد الكفاءة بالنسب يعزز الأخوة ويبعد الفتن عن المجتمع الذي لا تخفى هشاشته وما يتهدده من مخاطر بسبب عدم التوازن في العلاقات الاجتماعية..؟
آن لنا أن نخرج من مرحلة الشرائح المغلقة وننظر للإنسان باعتبارات كبرى ثلاث : أنه إنسان وأنه مسلم وأنه مواطن.
ولنتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
أم نريد أن نذكي نعرات الفتنة والفرقة في مجتمعنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ” إذا أتاكم من ترضون دينه و خلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرضوفساد كبير . قالوا : يا رسول الله و إن كان فيه ? قال : إذا جاءكم من ترضوندينه و خلقه فأنكحوه … ثلاث مرات “.
ومع هذا فهذه المسألة من حقوق الإنسان الشخصية ، فالشرع لا يفرض على الناس أن يزوجوا بناتهم ممن لا يرضونه، إنما القضية أن هذه المسألة تصادم ظاهر النصوص الصريحة فلا يعقل أن نتمسك بتقاليد اجتماعية بالية لم يأمرنا بها ديننا الحنيف بل قد نرتكب مخالفة عن قصد أو من غير قصد بتمسكنا بهذه العادات والتقاليد فرفض أبناء الشرائح الأخرى لاعتبارات خارج سياق الصلاح والاستقامة لا يوافق سلوك التواضع وغيره من الأخلاق الحميدة..
مسالة المنافسة
يطرح بعض النخبة من أهلنا من “المعلمين” أن الزوايا لم يرغبوا في التحاق ” المعلمين ” بركب العلم مخافة أن ينافسوهم على مصدر عيشهم ، ولا أستبعد أن يكون حصل بعض هذا ، لكن يصعب تعميم هذه الصورة التي لا أراها دقيقة لعدة أسباب منها : أولا : أن هناك أسرا من “المعلمين ” اشتغلت بالعلم وأنجبت علماء أجلاء لا يجهلون، ثانيا : أن المجتمع تواضع في تلك الحقب على تخصص وظيفي فأصبحت كل فئة تهتم بوظيفتها دون التدخل في تخصص الفئات الأخرى ، ثالثا : أن الزوايا لم يشتغلوا بالعلم من أجل التكسب بل كانت لهم أغراض أسمى من ذلك بكثير..
أما اليوم فقد تغيرت الصورة تماما ، أو بدأت تتغير، وذلك مع وجود المدرسة الحديثة التي تستوعب “المعلم” والحرطاني والزاوي والكوري ويتخرج فيها الجميع يحمل شهادات علمية ليست مختومة بختم هذا من الشريحة الفلانية أو من تلك ، فالأصل أن الفرصة متاحة للجميع بغض النظر عن عجز الدولة عن تنفيذ ما يقتضيه الحال من التمييز الإيجابي في حق بعض الشرائح المغبونة.
أما المحضرة، فمع أنها تراجعت إلى حد معين فلا أعتقد أنها تفرق بين ابن شريحة وأخرى فالمسألة تعود إلى همة طالب العلم فالباب ، في تقديري، مفتوح ومن شق لنفسه طريقا من علم وإبداع فلا تضره بعد ذلك كلمة من جاهل اشتغل بالناس بينما اشتغل هو بالعلم والإبداع وشتان ما بين الاثنين.
هل نحاكم التاريخ؟
من حق “المعلمين ” أن يرفعوا الصوت ويطالبوا برفع الظلم عنهم ومنحهم ما يستحقون من فرص ورد الاعتبار وبناء كرامتهم المخدوشة ، بل من واجبنا جميعا أن نسبقهم إلى ذلك الحراك ، وكلما كان الخطاب عادلا وحكيما ومتعقلا وسديدا كان أقرب إلى تحقيق الهدف وكلما كان الأمر عكس ذلك ابتعدنا عن الهدف وأصبحت المسألة محاكمة للتاريخ وزرعا لبذور الشقاق . أجل ، لا باس بالعودة للتاريخ لتحديد ملامح الصورة من زواياها الكاملة ، لكن صفحة الماضي انطوت وما حصل فيه لا تتحمل مسؤوليته الأجيال الحالية (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (.إنما الذي يتعين علينا هو استلهام الدروس من الماضي لإحكام تدابير المستقبل لبناء جيل متجانس في مجتمع مكتمل الانتماء لوطنه معتز بدينه لا غل فيه ولا حسد ولا ظلم فيه ولا غبن ولا تهميش ولا إقصاء ، جيل تتحدد فيه قيمة الإنسان على أساس استقامته وصلاحه وعطائه لا على أساس شريحته أو أصله..
وأرجو أن لايترك هذا الحراك للمتحمسين من الشباب الذين بلغ ببعضهم الحماس أن أدخل “المعلمين” الجنة وهذا ما نسال الله أن يحققه بينما كانت النار من نصيب الزوايا أو بعضهم وفقا لما عبر عنه خيال هذا لأخ الكريم ، إلا إن فضل الله واسع يسع الجميع ، نسأل الله أن ينجينا جميعا وأن لا يكون منا أهل شقاء ولا حرمان والغيب أمره إلى الله .
نعم رد الظلم مطلوب والصدع بالحق واجب شرعي تمليه مصلحة الوطن ، لكن القاعدة في ذلك ( لا ضرر ولا ضرار) وقوله تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وعموما يمكن إجمال الموضوع في النقاط التالية:
- الاعتراف بأن شريحة أهلنا من الصناع أو لمعلمين تعرضت لظلم معنوي على فترات من تاريخ مجتمعنا يعتبر من المنكرات العظيمة التي يجب تغييرها حسب الحال وفق ما ورد في الحديث النبوي الشريف المعروف في هذا المعنى.
- أنه يحق للناشطين من هذه الفئة العزيزة أن يعبروا بالوسائل المشروعة عن حجم الظلم ويسعوا لرفعه
- أن اهتمام طليعة مثقفي ومتعلمي لمعلمين لا يعفي الفئات الأخرى من هذه المسؤولية – مسوؤلية إنصاف هذه الشريحة ورفع الظلم عنها وتضميد جراحها التي خلفها تاريخ طويل من التخلف والجهل
- مع التأكيد على استنكار ما لحق هذه الشريحة من ظلم متعدد الأشكال وتوظيف بعض النصوص الدينية لتكريسه فإن الأمر ، في تقديري، يدخل ضمن مرحلة من عدم الوعي عاشها المجتمع في فترات معينة وظلمت فيها أكثر من شريحة بل وبنيت فيها عادات اجتماعية على أعراف أو فهوم ما أنزل الله بها من سلطان ولم يكن هذا الجانب خاصا بفئة المعلمين دون سواها.
- أن التعميم في إلباس جميع الزوايا نفس الأخطاء وتحميلهم جميعا تلك المسؤولية غير سليم
- أنه ليس من الحكمة أن نجعل “المعلمين ” مجتمعا منفصلا مستقلا عن مجتمعهم فهم في جزء من المجتمع الموريتاني وليس من مصلحة أحد أن يعتبرهم مجتمعا مستقلا.
- أن يكون الهدف من النضال هو الإنصاف وإحقاق الحق وليس تحويل الزوايا إلى ظلمة ، فمهما كانت أخطاء بعض أبناء الزوايا فلا يمكن أن ننكر أنهم نشروا العلم والدين في ربوع هذه البلاد وخارجها فلا أقل من أن نعطيهم الدرجة التي حددتها الآية الكريمة ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم).
وهذه جملة مقترحات أرجو أن تسهم في وضع ملامح عامة لحل المشاكل الفئوية في بلادنا وفي إنصاف شريحة “المعلمين” وغيرها من الشرائح المغبونة :
أولا : على العلماء والدعاة والمشايخ تبيين رأي ديننا الحنيف فيما تعرضت له الشرائح الاجتماعية من ظلم وممارسات خاطئة، وليس الأمر خاصا بشريحة “المعلمين”، بل يشمل معها شرائح أخرى، في مقدمتها الحراطين، وعلى العلماء والمشايخ والدعاة بيان الحق في ذلك وتوعية الناس فيما يتعلق بقضية الكفاءة في الزواج ونقلها من الكفاءة في النسب إلى الكفاءة في الدين والصلاح والاستقامة والعطاء للمجتمع.
ثانيا : على النخبة المثقفة المشاركة بفعالية في توعية المجتمع والتنبيه إلى ضرورة نبذ وتجاوز ذلك الإرث الاجتماعي الذي يكرس الظلم ضد أهلنا ” المعلمين” والحراطين وينتقص من كرامتهم
ثالثا : تشجيع التمييز الإيجابي لصالح الشرائح المظلومة عموما
رابعا : على الدولة أن تضطلع بمسؤوليتها في إنصاف هذه الفئة، وغيرها من الفئات المهتضمة، وأن تسن القوانين المطلوبة التي تجرم الإقصاء المعنوي والاستهزاء والانتقاص من كرامة المواطنين والشرائح المهمشة ..
هذه ملامح عامة أحببت أن أعرضها لعل الله ينفع بها في سبيل حل مسألة أهلنا من”المعلمين ” وغيرهم من الشرائح المغبونة ، فالأمر جد ومجتمعنا بحاجة إلى وسائل تعزيز التآلف والمحبة والوفاق وذلك يقتضي تكاتف الجهود لإنصاف كل مظلوم لكن بالطرق الحكيمة العادلة لا بطرق زرع الفتنة والأحقاد فشتان بين من يريد أن يبني ويصلح ويؤسس لمجتمع متراحم ودولة عدل وبين من يسعى للهدم والفتنة وإقامة دولة الإقصاء والفوضى ، فبلدنا بحاجة للجميع وديننا هو الملاذ في كل ذلك إن فهمناه على وجهه الصحيح وطبقناه التطبيق السليم (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بن الناس).
وصلى الله وسلم على حبيبنا وقرة أعيننا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[email protected]