عبدول: البرج منحت أرضه للخواص رغم أنه يتسع لأكثر من 500 طن؛ كما أنه إرث لكل سكان كيديماغا
سيلبابي – الرجل بن عمر
إن قدرت لك زيارة مدينة سيلبابي، فلن تتكلف عناء البحث عن الحي الذي يوجد فيه مضيفوك لأنه ـ على أية حال ـ يقع في إحدى النواحي الأربع لبرج “سيلو” الذي تحول إلى معلم بارز ينغرس بين الأحياء الشعبية.
“سيلو” لم يكن مجرد معلم يهتدي به داخل سيلبابي التي تتمدد بشكل عشوائي، بل كان صمام أمان للمدينة يقيها من الجوع خلال سنوات الجفاف التي عرفتها البلاد إبان الحقبة الاستعمارية؛ بحسب شهادة عبدول جاه وهو أحد معارضي فكرة كونه برج مراقبة صممه المستعمر الفرنسي ليطل من خلاله على أطراف مستعمرته؛ كما يدعي بعض سكان المدينة.
جاه؛ يعرب عن قلقه بشأن منح السلطات المتعاقبة أجزاء من حوزته التربية لبعض الخواص، لتحاصره المباني إلى أن ضاق عليه الخناق فأصبح وصول الشاحنات إليه أشبه بعملية مخاطرة؛ بحسب قوله.
يقول عبدول الرجل المسن الذي سبق وان كان واليا لعدد من ولايات الشرق والجنوب الموريتاني: “لقد كان (سيلو)، والكلمة تعني المخزن؛ بنك حبوب كثيرا ما فك أزمات السكان من الفئات الأكثر هشاشة أثناء سنوات الجفاف”.
قبل أن يضيف: “حبوب الشعير والذرة الصفراء والصوفيا والقمح، التي يتم جلبها من السنغال والوسط الموريتاني؛ كانت تخزن هنا قبل أن توزع بالمجان فنادرا ما تباع”، حسب تعبيره.
ورغم الجدل الذي يفجره برج “سيلو” سواء كرمز لحقبة استعمارية بائدة أو كبنك حبوب بناه المستعمر الفرنسي عام 1952 للحد من تأثيرات الجفاف، التي كثيرا ما عصفت بالأمن الغذائي لسكان المستعمرة الصغيرة؛ إلا أنه يبقى إحدى حسنات المستعمر الذي بناه عندما شعر بقرب ساعة رحيله؛ كما يعلق جاجا كامرا.
المسن جاجا كمرا واحد من القلائل الذين تشكل البرج أمام أعينهم في سن الحادية عشر، حين كان الفضول يدفعه وأترابه الصغار في أولى المدارس الابتدائية بالولاية، وحين أوكل إليهم وهم أطفال مهمة البحث عن أحد الحدادين لإحداث ثقب بالمولد الكهربائي، الذي كان يستخدمه المعماريون؛ بحسب شهادته لصحراء ميديا.
براعة المرحوم الحداد؛ ممادو سلا؛ في إعادة ماكينات المولد الكهربائي إلى هديرها الفريد من نوعه حينها استحق تصفيق الجميع، وجاجا كمرا كان حاضرا حينذاك ليصفق له؛ قبل أن يقفر ممادو سلا “من الفرح حين أشاد الغربيون بدوره”، يقول كمرا.
كانت مشاهدة ورشة البرج وهي تكبر يوما بعد يوم جزء من الدرس الذي يأخذه جاجا وأقرانه خارج مقاعد الدراسة، ويقطعون في سبيله مسافة الـ 2.000 متر للوصول إلى الورشة التي ستتحول إلى أكبر خزان حبوب في شبه المنطقة.
ولم يكن المكان أكثر من مربط لعربات الخيول التي تنقل النساء من وإلى السوق الوحيد وسط “بنباردوغو”؛ أعرق أحياء سيلبابي، لتتشكل حول “البرج” نوات لحي سكني جديد سيأخذ منه اسمه، إضافة إلى واحد من أشهر شوارع المدينة.
تعود فكرة البرج الذي لم يعرفه السكان المحليون إلا كبنك حبوب، إلى تقاليد زراعية في أحد الأقاليم الفرنسية التي ينحدر منها الحاكم الفرنسي “أنطوان”؛ الذي أمر ببنائه.
كان الفرنسي الحالم؛ يخطط حينها لزراعة أرض كاركورو، بعد أن أدرك أنه يقف على هبة النهر ويملك أكثر العضلات صلابة وقدرة على إخصابها.
وكان برج “سيلو” ـ حينها ـ جيلا متطورا من مخازن الحبوب التي لم تنتشر بعد في العالم الثالث لذا كانت بها تقنيات متقدمة، كما تحتوي على رافعات آلية بإمكانها تعبئة البراميل الأربعة التي تزيد حمولتها على 500 طن وتنتهي بخراطيم مجوفة تسمح بتوفر درجة معينة من الهواء والرطوبة تضمن صلاحية المواد المحفوظة لـ 10 سنين؛ وفق جاجا كمرا.
يقف تصميم الخزان بشكل أسطواني، ويتناغم طوله مع شكله الأنيق الذي يندفع إلى الأعلى كما لو أنه رمح يزداد حدة كلما ارتفع، حيث عليك صعود أكثر من أربعة طوابق طول كل منها أربعة أمتار، بعدها تصل إلى القمة التي تبدو كنهاية برج مراقبة عسكرية صمم بمعايير مناخية دقيقة.
ورث سكان سيلبابي تقنية “سيلو” التي خلفها المستعمر وظلوا يستغلونها لغاية الثمانينات؛ حيث تعطلت بفعل غياب الصيانة ومن ثم لجأت السلطات الموريتانية إلى استخدام قاعدته المجوفة التي لم تكن أكثر من مخزن احتياطي بسعة 120 طن؛ بحسب حارسه؛ والذي استغلته مفوضية الأمن الغذائي وبرنامج الكفالات المدرسية لغاية ديسمبر 2010.
والآن يرفض “سيلو ـ البرج”؛ عملية التقاعد القسرية التي يفرضها عليه نهاية دوره كبنك حبوب لم يعد بإمكانه التجاوب مع العصر، ويمضي في لعب دور جمالي آخر كمنارة مسجد تقع بين كماشتي أمن، طرفاها ثكنة قوات عسكرية ومفوضية شرطة؛ ليشهد على حساسيتها الزائدة تجاه شاحنات كانت تعوده؛ بسبب نازلة الإرهاب.