1- الواقع.
أريد لهذه المداخلة أن تشكل إطارا لتأمل واقع إتحاد المغرب العربي و تقييم أدائه بعد 23 سنة مضت على قيامه. هذا إضافة إلى استشراف مستقبله في ضوء التحولات المتعددة الأبعاد التي يعرفها المشهد العربي بشكل خاص و السياق الدولي بوجه عام..وذلك سعيا إلى استخلاص العبر من إخفاقات الماضي و إلى تحديد معالم الطريق لأقوم المؤدي إلى رفع التحديات التي تواجه الشعوب المغاربية و إلى كسب الرهانات الكفيلة بتحقيق مطامحها و بلوغ أهدافها و إحلالها المكانة اللائقة بها ضمن التكتلات و الفضاءات المماثلة لفضائها عبر العالم.
إن انتظام شعوب الشمال الإفريقي الخمسة، موريتانيا و المغرب و الجزائر و تونس وليبيا في كيان واحد و جامع ، هو حلم قد راود هذه الشعوب منذ تحررها من ربقة الاستعمار. و لم يكن هذا الحلم وهما صعب المنال بل هو في واقع الأمر مشروع قابل للإنجاز ووجيه و ذو جدوائية أكيدة . حيث أن المجال المغاربي يشكل حيزا جغرافيا متصلا تزيد مساحته على 6 ملايين كلم2 و تناهز ساكنته 90 مليون نسمة. و هذه الكتلة البشرية المعتبرة متواشجة إجتماعيا و متماهية من حيث الثقافة و الدين و التقاليد و القيم و أنماط الحياة ، كما أن الموارد التي تتوفر عليها متكاملة في تنوعها و تغايرها، أضف إلى ذلك أن المجال الذي يكتنفها هو مجال ذو أهمية جيواستراتيجية غاية في الأهمية ، إذ أنه يتاخم إفرقيا السوداء ويطل على كل من البحر الأبيض المتوسط و المحيط الأطلسي و يقابل الشواطئ الأوروبية
و الأ مركية في آن واحد.
كل هذه المقومات الموضوعية من شأنها أن تؤهل اتحاد المغرب العربي أن يصبح فضاء عتيدا يحسب له حسابه على الصعيد الاقتصادي و السوسيو ثقافي و السياسي، لو أن الأنظمة السياسية التي كانت تحكمه كانت تضع مصالح شعوبها الحيوية على رأس أولوياتها.
لكن و لكامل الأسف لم يكن الأمر كذلك. فكل الأحكام التي كانت تسيطر على البلدان المغاربية كانت أحكاما تنزع إلى الشمولية و السلطوية وكان هاجسها الأساسي هو تابيد بقائها في السلطة مهما كان الثمن.
ومن ثم كان الإتحاد الذي أقامته تلك الأنظمة عملا صوريا يراد به في المقام الأول التمويه و التعمية وتغطية ما هو قائم بين الأنظمة من تنافر و تدابر و توترات مريرة و مهاترات لا مجال معها لبناء كيان منسجم و متماسك و منافس قمين بتحقيق آمال الشعوب المغاربية وكفيل بالإستجابة لتطلعاتها المشروعة.
وبا النتيجة كان و ما زال اتحاد المغرب العربي كيانا أجوفا و عقيما و كانت مؤسساته و آلياته تراوح مكانها ، تسمع لها جعجعة مدوية و لا يرى لها طحين.
و ذلك نتيجة لغياب الإرادة السياسية لدى القادة المغاربيين للعمل المشترك البناء.
فالتبادل الاقتصادي و الثقافي و العلمي بين البلدان المغاربية كان ضئيلا . و التعاون السياسي و التنسيق الدبلوماسي كانا معدومين . أما التواصل الاجتماعي فكان محل مراقبة شديدة و تضييق خانق ، نتيجة لفرض التاشيرات و إغلاق الحدود.
هذه باختصار هي الأوضاع التي كانت تعاني منها الشعوب المغاربية ضمن فضاء الإتحاد المغاربي قبل أن يؤدي نفاذ صبرها إلى تفجر الثورة المباركة في تونس في 14 فبراير 2011 مؤذنة باشتعال الثورات الكاسحة التي طالت إضافة إلى جل البلدان العربية، ليبيا في 17 فبراير 2011 ،علما أنها كانت قد مست كلا من موريتانيا في 17 يناير 2011 و المغرب في 30 يناير 2011 و الجزائر في 28 دجنبر 2010.
و قد تفاوت تأثير و مفعول هذه الثورات من بلد مغاربي إلى آخر تبعا للظروف الخاصة لكل بلد و للأشكال التي اكتستها الثورة فيه. فكانت الثورتان التونسية و الليبية عنيفتين و دمويتين بينما قد أفضى الحراك الثوري في المغرب إلى قيام ملكية دستورية و نظام برلماني تعددي، وذلك على أنقاض النظام الفردي الذي كان قائما من قيل.
و في حين أدت رياح التغيير إلى تعميق و توسيع الحريات السياسية و إلى بدء نوع من الحوار و التشاور بين الفرقاء السياسيين بموريتانيا، لم تكلل جهود القوى الحية الساعية إلى إحداث التغيير بالجزائر بالنجاح المطلوب حيث استعصى عليها تحقيق تغيير ذي بال في المشهد السياسي، إذا ما استثنينا بعض الإصلاحات الجانبية المتمثلة في بعض الزيادات في الرواتب إضافة إلى الوعد الذي قطعه مؤخرا النظام الجزائري على نفسه بتنظيم انتخابات تشريعية خلال شهر مايو القادم.
و على وجه العموم يمكن القول في هذا السياق أن الحراك الثوري الذي عرفته البلدان المغاربية قد أوجد ديناميكبة ذات عنفوان كبير من شأنها في المديين القصير و المتوسط أن تغير ملامح المشهد السياسي في كل من هذه البلدان و تعيد رسم الخارطة السياسية فيه.
وقد يواكب ذلك كما شهدنا وما زلنا نشاهد في كل من تونس و ليبيا انحرافات و انزلاقات و انفلات أمني و صدامات فئوية و قبلية و جهوية، قد تلقي بظلالها على الأهداف النبيلة لثورتي البلدين. بل قد تعرقل مسيرتهما وتنحرف بهما عن مسارهما إذا لم تتخذ كل الإجراءات اللازمة لتفادي ذلك و يصار إلى توخي الحذر للحيلولة دون استمراره و استفحاله.
2- الآفاق
وفي ما يتصل باستشراف آفاق اتحاد المغرب العربي فإنه يجدر التذكير بأن ضواغط العولمة و تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية و نزوع البلدان المتجاورة إلى الانتظام ضمن كيانات اقتصادية واسعة و متكاملة، كل ذلك يجعل توطيد بناء و رفع تنافسية اتحاد المغرب العربي هدفا استراتيجيا حيويا بالنسبة لبلدان المنطقة.
بل يجعل منه لبنة من كيان أوسع و أهم قابل للإنجاز، ألا و هو وحدة شاملة للأقطار العربية و لو على مراحل و بشكل تدريجي.
إن إقامة اتحاد مغاربي ناجع وفعال و تنافسي يستدعي مقاربة جديدة تبتعد عما كان سائدا من المزايدات و الإسفاف و الديماغوجية و الهروب إلى الأمام و الرومنطقية السياسية ، و تعتمد بالمقابل الواقعية و الحذر وتتبنى سياسة خطوة خطوة و البدأ بالأسهل و إرجاء القضايا الدقيقة و الحساسة إلى أن تنضج الظروف و تتهيأ الأرضية الملائمة و يتوفر الإستعداد النفسي المواتي.
فأول خطوة في نظري ن ينبغي البدا بها بهذا الصدد ، تتمثل في تكثيف التبادل الإقتصادي و إلغاء الرسوم الجمركية و إقامة المناطق الحرة و تسهيل تنقل الأشخاص و البضائع و الرساميل داخل الفضاء المغاربي تمهيدا للاندماج الاقتصادي و الاجتماعي و الفكري المرحلي داخل الإتحاد.د، وصولا إلى تكامل مؤسسي و تنسيق سياسي تصاعدي.
و هذا التوجه يجب أن يتم الإعداد له بدون اندفاع و لا تسرع، بل يجب إعطاؤه ما يستحق من وقت و من عمل توعوي تنهض به الأحزاب السياسية و مؤسسات المجتمع المدني والفاعلون الاقتصاديون و المثقفون و قادة الرأي و السلطات الدينية و غيرها من الفعاليات الناشطة الأخرى القادرة على التأثير عبر مختلف وسائل الإعلام و التواصل.
كما يجب إشراك كل الفعاليات الوطنية مغاربيا في التفكير في إبراز فوائد و إيجابيات تفعيل اتحاد المغرب العربي و جعل الجماهير و النخب المغاربية تتملك ذلك التوجه و تقتنع بجدوائيته و تنخرط فيه عن قناعة و تبصر.
و الأمل كبير في أن تتفهم كل بلدان و شعوب المغرب الكبير أن مصلحة كل منها إنما سوف تتحقق على الوجه المطلوب داخل كيان مغاربي متماسك و متكامل و منسجم.
و أن تعي أن كل من يقف جحر عثرة في وجه تفعيل و توطيد هذا الكيان فإنما يظلم تسعين مليون مغاربي و يعمل عن قصد أو عن غير قصد على ضرب مصالحهم العليا و إضعاف موقعهم إقليميا و دو ليا.
ولقد أضحى من المؤكد في هذا السياق أن كل المغاربيين الواعين لمصالحهم الحيوية جماهيرا و نخبا ، باتوا يتمنون من كل قلوبهم اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يتوصل الأخوة في المغرب و الجزائر إلى تخطي خلافاتهم و حل نزاعهم الذي شكل لعقود متوالية عقبة كأداء في طريق بناء و تفعيل الإتحاد المغاربي المجمد وتحريك آلياته المعطلة و ذلك من خلال إيجاد حل توافقي وواقعي لمعضلة الصحراء الغربية ، يكون من شأنه إرضاء كل الأطراف و إعطاء كل ذي حق حقه.
و لعل الإيمان العميق بضرورة تفعيل اتحاد المغرب العربي إن وجد، هو أقوى حافز للتحلي بالمرونة و الاستعداد للقيام بالتنازلات المتبادلة و تحمل التضحيات المفضية إلى التفاهم و التوافق و التلاقي . و لا شك في أن تفعيل اتحاد المغرب العربي على الوجه الأكمل هو رهان يستوجب كسبه كل التضحيات حيث أن منافعه الجمة و فوائده الكبيرة ستعوض كل التضحيات مهما عظم شأنها.
وإنما يذكر أولو الألباب.
نواكشوط 17 فبراير2012.
محمد الأمين ولد الكتاب