يثير عمل الحالة المدنية في شقه المتعلق بالقضاء جدلا كبيرا بين العاملين في هذا الحقل منذ مدة وهو جدل قديم جديد؛ لأن الإشكال لا زال قائما، وإن تجاوزه البعض غاضّا الطرف عما درج عليه العمل القضائي قديما وحديثا، محليا ودوليا من عدم وضع الصور على الأحكام، وفقا لما هو مسطر في النصوص القانونية من جهة، ومقدما الاستجابة لِلَجَجِ المواطن إثر سد الأبواب في وجهه من جهة أخرى.
*- وهذا أمر ينبغي أن يلتمس فيه العذر لمن استجاب له منطلقا من مبدإ الملاءمة، كما يجب أن ينصف فيه- أكثر من ذلك- من تمسك بالقانون متشبثا بقناعة مستندة لنصوص صريحة وعرف محلي ودولي ضارب في القدم.
وعلى الرغم من قناعتي بالأهمية القصوى لضبط الحالة المدنية بشكل متطور ــ وهو أمر لا جدال فيه- فإنني أرى أن تلك الأهمية تتضاءل وتتلاشى كلما انحرفت عن سكة القانون، وانتهكت حرمة القضاء، وكانت على حساب مبدأي: استقلالية القضاء، وفصل السلطات، وحماية القاضي من الضغط طبقا لمقتضيات الدستور(في مادتيه: 89، و90) ، والنظام الأساسي للقضاء(الماد: 7).
واعتبارا لهذا كله أستعرض: الإشكالات المثارة الملاحظات، والحلول الملائمة في نظري بخصوص هذا الأمر:
أو لا: إشكالا ت
ومنها:
أـ مدى المسؤولية في الامتناع عن وضع الصورة علي الحكم؟
1- أن المواد: 42، و46، و47 من مدونة الحالة المدنية ، والمادة 81 من ق.إ.م.ت.إ. (التي أحالت إليها المادة 42 من مدونة الحالة المدنية) قد شكلت عناصر الحكم، ولم تذكر أي منها وضع الصورة على الحكم والختم عليها، وما دام الأمر كذلك؛ فإن إضافة أي عنصر آخر في شكل الحكم يحتاج إلى تعديل هذه الترتيبات، وإدراجه في تلك المواد؛ حتى يكون الأمر ملزما ويمكن التظلم من عدم امتثاله، وهذا ما لم يقع حتى الآن.
*- ويعني هذا بالجملة: أن لا سبيل إلي تحميل القضاء أي مسؤولية في تعطيل أو عرقلة الحالة المدنية إلا إذا امتنع من تطبيق نص صريح واجب الامتثال كأي قضية أخرى من القضايا التي تعرض عليه.
2- ثم إن أحكام الحالة المدنية ليست أخطر ولا أكبر أهمية من الأحكام التي تصد رعن المحاكم: الجنائية، والمدنية، والتجارية…في: الدماء، والحقوق، والأموال الجزيلة؛ فلا توضع على أي منها صور الأطراف.
*- ومن هنا فلا يحق لأي كان أن يوجه اللوم إلى المحاكم وكأنها هي التي تتمنــع وتعرقل عمل الحالة المدنية (رمتني بدائها وانسلت ) !؟!
كَلاَّ إن الأولى أن تساءل وكالة الحالة المدنية، وتحمّل المسؤولية في هذه الشأن كله- بدل القضاء- وتؤمر بامتثال قرارات القضاء مهما كانت، واستخدام مبدإ الملاءمة الذي هو من مبادئ الإدارة عموما، ويترك للقاضي نهجه الذي هو تطبيق القانون بتجرد وبدون أي ضغط أو تأثير..
3- ومؤدى هذا كله: أن المانع من وضع الصورة والختم موجود وهو غرابة هذا النمط على الأحكام، مع انعدام نص به، كما أن المقتضى أيضا موجود وهو رفض الوكالة لقبول الأحكام القضائية إلا بتوفر هذا النمط، وشرط تأثير المقتضى انتفاء المانع كما هو معلوم. والمانع هنا قائم.
ب- الطبيعة القانونية لأعمال القضاء في الحلة المدنية؟
يختلف أحيانا في طبيعة بعض أعمال القضاء هل هي قضائية أم ولا ئية إدارية ؟ فيلجأ- عند ئذ- إلي معايير التفرقة بينهما ، وهذا ما لم ينطق القانون بقول فصل في الموضوع.
أما إذا حدد القانون طبيعة عمل ما بأنها قضائية أو ولائية ؛ فلا مجال للتردد في طبيعة ذالك العمل تماما كما فعلت مدونة الحالة المدنية في المواد السابقة حيث جعلت عمل القاضي فيها عملا قضائيا صرفا عندما أفصحت بأنه: “..قرار قضائي حائز على قوة الشيء المقضي به..”؛ فجعلته قضائيا ووصفته بما هو من خصائص الأعمال القضائية ، ومن ثم حسمت الموقف في تحديد طبيعة هذا العمل بشكل قاطع.
ج ـ أداء المحاكم في الحالة المدنية
إن عمل الحالة المدنية ما هو إلا جزء بسيط من اختصاص محكمة المقاطعة ذات الاختصاص العام ذلك الاختصاص الملون بمختلف النزاعات من: أحوال شخصية وما يحيط بها، وعقار، وديون، وترائك…الخ، وليس من الإنصاف- والحالة هذه- أن تحاسب المحكمة في أدائها بجزئية بسيطة ليست في صميم عملها في الأصل البعيد.
ومع هذا فإنني لا أعلم أي مواطن تقدم للمحكمة بطلب مستكمل الشروط في الحالة المدنية إلا استجابت له على الفور وسلمت له الحكم وفقا للإجراءات المعمول بها؛ ومن ثم تكون المحكمة قد قامت بما هو مطلوب منها.
*- وهكذا ينجلي أن من يعرقل انسياب عمل الحالة المدنية ليست المحاكم التي تتمسك بالنصوص وتطبق محتواها، وإنما الذي يعرقلها هي الجهة التي تلزم المواطنين والقضاء بالخضوع لإجراءات لا وجود لها في القانون !؟.
د- مظاهر الإشكال
إن الإشكال يتجلى في محاولة إخضاع القاضي في صميم حكمه لما يراه البعض ملائما لشكل الحكم- وربما مضمونه- حتى يكون على مقاس معين !
والأحكام القضائية عموما إنما يرجع في تحديد أشكالها ومضامينها إلى القانون، لا غير؛ فلا يحق لأي سلطة أن تتدخل في ذلك، ولا أن تخترع فيه شكلا معينا من تلقاء نقسها حتى ولو كان القاضي نفسه .
ولا معنى لأن تخاطب أي جهة- مهما كانت- المحاكم بصفة الأمر الذي يقتضي العلو والاستعلاء بأن تكون أحكامها وفق الإجراءات التي ترغب هي فيها.
*- وأوضح فيما يلي بعض مظاهر هذا النهج المتطاول على حرمة القضاء واستقلاله حيث:
1ـ يلزم القاضي بوضع صور الأطراف على الأحكام والختم عليها، ويختلف عدد الصور بحسب المراكز، وهو إجراء لم يقل به نص في القانون، ومخالف للأعراف الوطنية والدولية من جهة، ومكلف للمواطن ماديا من جهة أخرى !؟!
2ـ تحديد حيز مكاني لا يتجاوزه سريان الحكم القضائي بما يمثل فرضا لاختصاص ترابي ممنوع حتى على القاضي نفسه بنص المادة 48 ق: إ.م.ت.إ؛ فالحكم الصادر مثلا عن محكمة لكصر عديم الحجية أمام أي محكمة أخرى من محاكم انواكشوط، خلافا لنص م: 302 من ق: إ.م.ت.إ من أن الأحكام تكون نافذة في عموم التراب الوطني.
3ـ تسجيل الأرقام الوطنية والتواريخ في أماكن معينة من نسخة الحكم تارة في الأسفل وتارة أخرى في الأعلى بحسب المراكز كشرط لقبول الحكم !
4ـ إلزام القاضي عن طريق ضغط المواطنين بإصدار أحكام غير جادة وتدعو إلى السخرية، كأحكام النسب لشخص معلوم النسب ويحمل بيده مستخرجا أو بطاقة تعريف من الوكالة ذاتها بعد أن تم إحصاؤه لديها، وكتصحيح الأخطاء المادية البسيطة الصادرة منها أيضا !؟!
5ـ عدم سريان الحكم القضائي المثبت لميلاد الطفل إذا لم يكن مصحوبا بإفادة من ممرضة، مما يجعل الحكم القضائي وحده غير مفيد للحجية !؟ (لدى بعض المراكز).
6ـ يكون منطوق الحكم بصيغة محددة من أخطأها من القضاة اعتبر حكمه “موقوف التنفيذ” ! (لدى بعض المراكز أيضا).
7- الأحكام القضائية تنتهي صلاحيتها بحسب التاريخ الذي يراه مركز الحالة المدنية المدلى بها أمامه، خلافا لترتيبات المادة 296 من ق: إ. م.ت. من أن الأحكام لا تتقادم .
8- وضع الختم في أعلى نسخة الحكم، أو أسفلها، أو هما معا بحسب المواضع التي تحبذ الوكالة، وإلا أصبح الحكم “غير صالح للاستخدام ” !
وهكذا أصبح الحكم القضائي الذي كان يجد قوته في القانون محل سنده ويكتسي هيبته من قوة إلزامه في واد والقانون في واد؛ فطالما رأيت جمعا من الناس تنوء أياديهم برُزمٍ من الأحكام القضائية التي كثيرا ما يكون مآلها الرفض والازدراء!!.
هـ- ما يترتب على هذا النهج
أدى سلوك الحالة المدنية وتصرفاتها إزاء الأعمال القضائية إلى واقع عملي أنتج ما يلي:
– وجود جهة رقابة من خارج القضاء تمارس صلاحيات القبول والرفض لقرارات القضاء.
ـ انتحال صفة محكمة الاستئناف بتعقب أعمال محاكم الدرجة الأولى.
ـ إهانة القضاء والحط من هيبته بامتهانه وازدراء أعماله.
– التقليل من أهمية القرارات القضائية (وهي جرائم منصوصة ومعاقب على ارتكابها).
*- إن رفض الأحكام القضائية وتقدير مدى انسجامها مع الواقع والقانون منوط على وجه الحصر بالمحاكم الأعلى درجة ووفق إجراءات وضوابط محددة، وإلقاء الحبل فيها على الغارب لأي جهة مهما كانت يعد من أكبر المخاطر على القضاء والدولة؛ فلا يمكن لأي جهة غير قضائية أن تُنَصِّب نفسها كرقيب فتستدرك على بعض الأحكام وترفض الانصياع لبعضها إلا عن طريق الطعن بالطرق القانونية فقط.
*- ثم إن الحكم القضائي يعرف بأنه عنوان الحقيقة والإخبار بها على وجه الإلزام، وإلا كان كلاما كغيره من الكلام، وذهبت قداسته وهيبته.
ومراعاة لهذا كله واستدراكا للموقف؛ أقدم للجميع ولمن يهمهم الأمر خصوصا بعض المقترحات والحلول التي أحسبها مفيدة في هذا الشأن.
ثانيا: الحلول القانونية المقترحة، وتتمثل في:
1ـ استصدار فتوى عاجلة من المحكمة العليا تذلل الصعوبة القانونية المثارة في هذا الأمر(المادة: 12من التنظيم القضائي)؛ كي يمكن مخاطبة القضاة والوكالة من خلال ما نطقت به تلك الفتوى.
2- الشروع في تعديل المواد المشكلة للحكم بإضافة فقرة جديدة تتضمن وجوب وضع صور الأطراف على كافة الأحكام أو على بعضها فقط؛ من أجل حسم ما يتعلق بهذا الموضوع حسما قانونيا حضاريا.
3ـ متابعة كل من يعرقل إنفاذ الأحكام القضائية بلا صفة، أو يقلل من شأنها أو يزدريها أو يهز ثقة المواطنين فيها، وأذكر هنا ببعض النصوص التي تتضمن بعض المقتضيات الجزائية كالمادة: 208،و 179، و 240 من القانون الجنائي.
4ـ الحث على احترام مبدإ استقلالية القاضي الجالس، وعدم ممارسة الضغط عليه والتأثير على قناعته بأي نوع كان، ومن أي جهة.
5ـ عقد ملتقيات تجمع كافة المعنيين والمهتمين بالموضوع لنقاش الإشكال والخروج بتصور موحد (وقد سبق للوكالة أن تعهدت بهذا للسيد رئيس المحكمة العليا كما أشار إليه التعميم الصادر عنه برقم: 01/2014).
6- تخليص القضاء من أسْر الحالة المدنية؛ ليتفرغ لمهامه الأصلية (فض المنازعات)، وترك الاختصاص في شؤون الحالة المدنية كلها للوكالة والأجهزة الأخرى.
وفي هذا المقام أؤمل من الغيورين على احترام القانون وهيبة القضاء أن يكونوا ظهيرا للقاضي المتمسك بمنطق القانون، ومؤازرين له فيما يحدوه من استقلالية وحياد، وتجرد عن المؤثرات الخارجية ما دام متمسكا بتطبيق النصوص فقط (فلا يُحمَّل أوزار غيره، ولا يزج به فيما لا يعنيه)؛ حتى نصل جميعا إلى الهدف المنشود ألا وهو: إقامة العدل.
وختاما أعتقد أن على الجميع أن يكونوا جادين في السعي إلى إنفاذ القانون وجعله هو الفيصل الوحيد بين الجميع: إدارات، وأجهزة، وأفراد، بدل أساليب الضغط والإكراه، وابتداع الطرق المجانبة للقانون.
*- وهذا أمر ينبغي أن يلتمس فيه العذر لمن استجاب له منطلقا من مبدإ الملاءمة، كما يجب أن ينصف فيه- أكثر من ذلك- من تمسك بالقانون متشبثا بقناعة مستندة لنصوص صريحة وعرف محلي ودولي ضارب في القدم.
وعلى الرغم من قناعتي بالأهمية القصوى لضبط الحالة المدنية بشكل متطور ــ وهو أمر لا جدال فيه- فإنني أرى أن تلك الأهمية تتضاءل وتتلاشى كلما انحرفت عن سكة القانون، وانتهكت حرمة القضاء، وكانت على حساب مبدأي: استقلالية القضاء، وفصل السلطات، وحماية القاضي من الضغط طبقا لمقتضيات الدستور(في مادتيه: 89، و90) ، والنظام الأساسي للقضاء(الماد: 7).
واعتبارا لهذا كله أستعرض: الإشكالات المثارة الملاحظات، والحلول الملائمة في نظري بخصوص هذا الأمر:
أو لا: إشكالا ت
ومنها:
أـ مدى المسؤولية في الامتناع عن وضع الصورة علي الحكم؟
1- أن المواد: 42، و46، و47 من مدونة الحالة المدنية ، والمادة 81 من ق.إ.م.ت.إ. (التي أحالت إليها المادة 42 من مدونة الحالة المدنية) قد شكلت عناصر الحكم، ولم تذكر أي منها وضع الصورة على الحكم والختم عليها، وما دام الأمر كذلك؛ فإن إضافة أي عنصر آخر في شكل الحكم يحتاج إلى تعديل هذه الترتيبات، وإدراجه في تلك المواد؛ حتى يكون الأمر ملزما ويمكن التظلم من عدم امتثاله، وهذا ما لم يقع حتى الآن.
*- ويعني هذا بالجملة: أن لا سبيل إلي تحميل القضاء أي مسؤولية في تعطيل أو عرقلة الحالة المدنية إلا إذا امتنع من تطبيق نص صريح واجب الامتثال كأي قضية أخرى من القضايا التي تعرض عليه.
2- ثم إن أحكام الحالة المدنية ليست أخطر ولا أكبر أهمية من الأحكام التي تصد رعن المحاكم: الجنائية، والمدنية، والتجارية…في: الدماء، والحقوق، والأموال الجزيلة؛ فلا توضع على أي منها صور الأطراف.
*- ومن هنا فلا يحق لأي كان أن يوجه اللوم إلى المحاكم وكأنها هي التي تتمنــع وتعرقل عمل الحالة المدنية (رمتني بدائها وانسلت ) !؟!
كَلاَّ إن الأولى أن تساءل وكالة الحالة المدنية، وتحمّل المسؤولية في هذه الشأن كله- بدل القضاء- وتؤمر بامتثال قرارات القضاء مهما كانت، واستخدام مبدإ الملاءمة الذي هو من مبادئ الإدارة عموما، ويترك للقاضي نهجه الذي هو تطبيق القانون بتجرد وبدون أي ضغط أو تأثير..
3- ومؤدى هذا كله: أن المانع من وضع الصورة والختم موجود وهو غرابة هذا النمط على الأحكام، مع انعدام نص به، كما أن المقتضى أيضا موجود وهو رفض الوكالة لقبول الأحكام القضائية إلا بتوفر هذا النمط، وشرط تأثير المقتضى انتفاء المانع كما هو معلوم. والمانع هنا قائم.
ب- الطبيعة القانونية لأعمال القضاء في الحلة المدنية؟
يختلف أحيانا في طبيعة بعض أعمال القضاء هل هي قضائية أم ولا ئية إدارية ؟ فيلجأ- عند ئذ- إلي معايير التفرقة بينهما ، وهذا ما لم ينطق القانون بقول فصل في الموضوع.
أما إذا حدد القانون طبيعة عمل ما بأنها قضائية أو ولائية ؛ فلا مجال للتردد في طبيعة ذالك العمل تماما كما فعلت مدونة الحالة المدنية في المواد السابقة حيث جعلت عمل القاضي فيها عملا قضائيا صرفا عندما أفصحت بأنه: “..قرار قضائي حائز على قوة الشيء المقضي به..”؛ فجعلته قضائيا ووصفته بما هو من خصائص الأعمال القضائية ، ومن ثم حسمت الموقف في تحديد طبيعة هذا العمل بشكل قاطع.
ج ـ أداء المحاكم في الحالة المدنية
إن عمل الحالة المدنية ما هو إلا جزء بسيط من اختصاص محكمة المقاطعة ذات الاختصاص العام ذلك الاختصاص الملون بمختلف النزاعات من: أحوال شخصية وما يحيط بها، وعقار، وديون، وترائك…الخ، وليس من الإنصاف- والحالة هذه- أن تحاسب المحكمة في أدائها بجزئية بسيطة ليست في صميم عملها في الأصل البعيد.
ومع هذا فإنني لا أعلم أي مواطن تقدم للمحكمة بطلب مستكمل الشروط في الحالة المدنية إلا استجابت له على الفور وسلمت له الحكم وفقا للإجراءات المعمول بها؛ ومن ثم تكون المحكمة قد قامت بما هو مطلوب منها.
*- وهكذا ينجلي أن من يعرقل انسياب عمل الحالة المدنية ليست المحاكم التي تتمسك بالنصوص وتطبق محتواها، وإنما الذي يعرقلها هي الجهة التي تلزم المواطنين والقضاء بالخضوع لإجراءات لا وجود لها في القانون !؟.
د- مظاهر الإشكال
إن الإشكال يتجلى في محاولة إخضاع القاضي في صميم حكمه لما يراه البعض ملائما لشكل الحكم- وربما مضمونه- حتى يكون على مقاس معين !
والأحكام القضائية عموما إنما يرجع في تحديد أشكالها ومضامينها إلى القانون، لا غير؛ فلا يحق لأي سلطة أن تتدخل في ذلك، ولا أن تخترع فيه شكلا معينا من تلقاء نقسها حتى ولو كان القاضي نفسه .
ولا معنى لأن تخاطب أي جهة- مهما كانت- المحاكم بصفة الأمر الذي يقتضي العلو والاستعلاء بأن تكون أحكامها وفق الإجراءات التي ترغب هي فيها.
*- وأوضح فيما يلي بعض مظاهر هذا النهج المتطاول على حرمة القضاء واستقلاله حيث:
1ـ يلزم القاضي بوضع صور الأطراف على الأحكام والختم عليها، ويختلف عدد الصور بحسب المراكز، وهو إجراء لم يقل به نص في القانون، ومخالف للأعراف الوطنية والدولية من جهة، ومكلف للمواطن ماديا من جهة أخرى !؟!
2ـ تحديد حيز مكاني لا يتجاوزه سريان الحكم القضائي بما يمثل فرضا لاختصاص ترابي ممنوع حتى على القاضي نفسه بنص المادة 48 ق: إ.م.ت.إ؛ فالحكم الصادر مثلا عن محكمة لكصر عديم الحجية أمام أي محكمة أخرى من محاكم انواكشوط، خلافا لنص م: 302 من ق: إ.م.ت.إ من أن الأحكام تكون نافذة في عموم التراب الوطني.
3ـ تسجيل الأرقام الوطنية والتواريخ في أماكن معينة من نسخة الحكم تارة في الأسفل وتارة أخرى في الأعلى بحسب المراكز كشرط لقبول الحكم !
4ـ إلزام القاضي عن طريق ضغط المواطنين بإصدار أحكام غير جادة وتدعو إلى السخرية، كأحكام النسب لشخص معلوم النسب ويحمل بيده مستخرجا أو بطاقة تعريف من الوكالة ذاتها بعد أن تم إحصاؤه لديها، وكتصحيح الأخطاء المادية البسيطة الصادرة منها أيضا !؟!
5ـ عدم سريان الحكم القضائي المثبت لميلاد الطفل إذا لم يكن مصحوبا بإفادة من ممرضة، مما يجعل الحكم القضائي وحده غير مفيد للحجية !؟ (لدى بعض المراكز).
6ـ يكون منطوق الحكم بصيغة محددة من أخطأها من القضاة اعتبر حكمه “موقوف التنفيذ” ! (لدى بعض المراكز أيضا).
7- الأحكام القضائية تنتهي صلاحيتها بحسب التاريخ الذي يراه مركز الحالة المدنية المدلى بها أمامه، خلافا لترتيبات المادة 296 من ق: إ. م.ت. من أن الأحكام لا تتقادم .
8- وضع الختم في أعلى نسخة الحكم، أو أسفلها، أو هما معا بحسب المواضع التي تحبذ الوكالة، وإلا أصبح الحكم “غير صالح للاستخدام ” !
وهكذا أصبح الحكم القضائي الذي كان يجد قوته في القانون محل سنده ويكتسي هيبته من قوة إلزامه في واد والقانون في واد؛ فطالما رأيت جمعا من الناس تنوء أياديهم برُزمٍ من الأحكام القضائية التي كثيرا ما يكون مآلها الرفض والازدراء!!.
هـ- ما يترتب على هذا النهج
أدى سلوك الحالة المدنية وتصرفاتها إزاء الأعمال القضائية إلى واقع عملي أنتج ما يلي:
– وجود جهة رقابة من خارج القضاء تمارس صلاحيات القبول والرفض لقرارات القضاء.
ـ انتحال صفة محكمة الاستئناف بتعقب أعمال محاكم الدرجة الأولى.
ـ إهانة القضاء والحط من هيبته بامتهانه وازدراء أعماله.
– التقليل من أهمية القرارات القضائية (وهي جرائم منصوصة ومعاقب على ارتكابها).
*- إن رفض الأحكام القضائية وتقدير مدى انسجامها مع الواقع والقانون منوط على وجه الحصر بالمحاكم الأعلى درجة ووفق إجراءات وضوابط محددة، وإلقاء الحبل فيها على الغارب لأي جهة مهما كانت يعد من أكبر المخاطر على القضاء والدولة؛ فلا يمكن لأي جهة غير قضائية أن تُنَصِّب نفسها كرقيب فتستدرك على بعض الأحكام وترفض الانصياع لبعضها إلا عن طريق الطعن بالطرق القانونية فقط.
*- ثم إن الحكم القضائي يعرف بأنه عنوان الحقيقة والإخبار بها على وجه الإلزام، وإلا كان كلاما كغيره من الكلام، وذهبت قداسته وهيبته.
ومراعاة لهذا كله واستدراكا للموقف؛ أقدم للجميع ولمن يهمهم الأمر خصوصا بعض المقترحات والحلول التي أحسبها مفيدة في هذا الشأن.
ثانيا: الحلول القانونية المقترحة، وتتمثل في:
1ـ استصدار فتوى عاجلة من المحكمة العليا تذلل الصعوبة القانونية المثارة في هذا الأمر(المادة: 12من التنظيم القضائي)؛ كي يمكن مخاطبة القضاة والوكالة من خلال ما نطقت به تلك الفتوى.
2- الشروع في تعديل المواد المشكلة للحكم بإضافة فقرة جديدة تتضمن وجوب وضع صور الأطراف على كافة الأحكام أو على بعضها فقط؛ من أجل حسم ما يتعلق بهذا الموضوع حسما قانونيا حضاريا.
3ـ متابعة كل من يعرقل إنفاذ الأحكام القضائية بلا صفة، أو يقلل من شأنها أو يزدريها أو يهز ثقة المواطنين فيها، وأذكر هنا ببعض النصوص التي تتضمن بعض المقتضيات الجزائية كالمادة: 208،و 179، و 240 من القانون الجنائي.
4ـ الحث على احترام مبدإ استقلالية القاضي الجالس، وعدم ممارسة الضغط عليه والتأثير على قناعته بأي نوع كان، ومن أي جهة.
5ـ عقد ملتقيات تجمع كافة المعنيين والمهتمين بالموضوع لنقاش الإشكال والخروج بتصور موحد (وقد سبق للوكالة أن تعهدت بهذا للسيد رئيس المحكمة العليا كما أشار إليه التعميم الصادر عنه برقم: 01/2014).
6- تخليص القضاء من أسْر الحالة المدنية؛ ليتفرغ لمهامه الأصلية (فض المنازعات)، وترك الاختصاص في شؤون الحالة المدنية كلها للوكالة والأجهزة الأخرى.
وفي هذا المقام أؤمل من الغيورين على احترام القانون وهيبة القضاء أن يكونوا ظهيرا للقاضي المتمسك بمنطق القانون، ومؤازرين له فيما يحدوه من استقلالية وحياد، وتجرد عن المؤثرات الخارجية ما دام متمسكا بتطبيق النصوص فقط (فلا يُحمَّل أوزار غيره، ولا يزج به فيما لا يعنيه)؛ حتى نصل جميعا إلى الهدف المنشود ألا وهو: إقامة العدل.
وختاما أعتقد أن على الجميع أن يكونوا جادين في السعي إلى إنفاذ القانون وجعله هو الفيصل الوحيد بين الجميع: إدارات، وأجهزة، وأفراد، بدل أساليب الضغط والإكراه، وابتداع الطرق المجانبة للقانون.
بقلم: القاضي د.محمد محمود بن أحمد بن السعيد، رئيس محكمة مقاطعة أمرج