نشر : مؤسسة الانتشار العربي – بيروت ، الطبعة الأولى 2008
أحمد ولد نافع
باحث و أستاذ جامعي موريتاني
عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية صدر هذا الكتاب ” الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة ” لمؤلفه الباحث و الكاتب الليبي الدكتور سالم القمودي ..
و من أجل دراسة موضوعه فقد قام الكاتب بتقسيمه إلى ستة أجزاء احتوت على حوالي ستة عشر فصلا ، وقد ركز الجزء الأول على موضوعات ” الإسلام والفلسفة والعلم “ ، تم فيه استعراض كافة الإشكاليات المرتبطة بعلاقة هذه الموضوعات ببعضها البعض ، حيث يخلص المؤلف إلى أن الدين هو الذي يملك مفاتيح معرفية نهائية للحقيقة ، وبالتالي فهو القادر على إنهاء حيرة الأسئلة الوجودية التي يثيرها الإنسان منذ القدم . لأن الفلسفة – بحسب كانط – يجب عليها التخفيف من ادعاءاتها لمعرفة الحقيقة النهائية . كما أن النص ( الإسلام) من عند الله ، وهو متعال و مجاوز فوق الإنسان وعقله . وبالتالي فالعداء بين الإسلام والفلسفة أو بين الإسلام والعلم لا مبرر له إطلاقا .
أما في الجزء الثاني فناقش الكتاب مفهوم ” الحداثة و ما بعد الحداثة ” ، ويري المؤلف أن البدايات المؤسسة للحداثة كرؤية فلسفية بدأت ، ربما ، مع ديكارت 1596-1650 ، حيث غدت الذاتية هي الأساس الفلسفي للحداثة وأعيد اكتشاف بروتاجوراس اليوناني لتأكيد هذه النزعة الإنسانية النسبية ، ثم بعد ذلك أشعلت أفكار ” عصر الأنوار” في القرن الثامن عشر المفرطة في تمجيد العقل ، وسرعان ما تم تجاوز ذلك مع الفلاسفة الألمان ” إيمانويل كانط 1724 -1804 “ ، ثم بلغت الذاتية قمتها مع هيغل 1770-1831 الذي اعتبر الذات هي المبدأ المطلق لكل معرفة ، وسرعان ما اعتبر ” هيغل ” أن الدولة البروسية هي نهاية التاريخ ، وكان ذلك هو المهاد الفلسفي الذي ولدت فيه فكرة ” نهاية التاريخ”!
ويجزم المؤلف ، بتحليل معمق ، أن الذاتية أطاحت بحياد العقل ، و الإيمان ، و قطعت الصلة بالماضي ، و فصلت بين الدين والدولة ، كانت تلك هي ملامح الحداثة المنقلبة على الميتافيزيقا ، غير أن التقدم العلمي أكسب الحداثة وهجا و ألقًا غطيا على كل سلبياتها و اختلالاتها .
وجاء فكر ” ما بعد الحداثة ” ( أول من استخدمها المؤرخ البريطاني توينبي في سنة 1959) كردة فعل في الإفراط في ذاتية الحداثة التي فشلت بشكل مريع على المستويات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية ، وبالتالي تم رفع شعار ” نسبية المعرفة و عدم قبول تعميمات تنطبق على كل الثقافات ..” ، بل إن البعض ” نيتشه” ذهب بعيدا في رد الفعل على مشروع الحداثة و نادي بـ” الفوضى”! ..إن جماع مشروع ما بعد الحداثة يرفض نقديا الصروح الفكرية الفلسفية الكبرى ويتبني الدعوة الحاسمة لتفكيكها كمناهج وأشياء وأفكار وقضايا ..وهكذا ولدت مدارس ” الوجودية ” و ” البنيوية ” و ” التفكيكية ” ..و بالرغم من ذلك لم تستطع ” ما بعد الحداثة ” إنهاء أزمة الاطمئنان النفسي الاجتماعي ، وكذا القلق والتوتر! مما جعل البعض يصفها بأنها إيديولوجية عدمية تزرع اليباب في كل مظاهر الكينونة الإنسانية وتنذر بالموت .
ويركز الجزء الثالث على مفهوم ” اعتبار الإنسان “ ، وذلك من خلال تتبع موقف الحداثة وما بعد الحداثة من الإنسان ، فالأولى جعلت الإنسان مركز الكون والعقل مصدرا لكل حقيقة ويقين معرفي ، أما الثانية فقد نقدت ” إنسان الحداثة “ ، وانقسمت إلى تيارين :
– الأول عبثي منغمس في اللاعقلية و الفوضوية لا يعترف بمعايير أو قيم إنسانية أو أخلاق موضوعية .. ومن أمثلته “ الألماني : فردريك نتشه 1844-1900 ” ، و ” مارتن هايدجر 1889-1976 “ الذي قاد خطابا تفكيكيا للميتافيزيقا لا هو فلسفي عقلاني و لا هو مقتدي بالخطاب العلمي .
– الثاني يؤمن أن العلم هو مصدر إلهام للنزعة الإنسانية .. ومن أمثلته ، رائد البنيوية ” ليفي ستورس “ ، وهي مدرسة تلغي مفهوم الذات ومكوناته ، الوعي و الإرادة . بل إن البنيات اللاشعورية هي التي تتحكم في جميع فعالياته .
و قد ظهر مفهوم ” اختفاء الإنسان ” لدى الفيلسوف الفرنسي ” ميشيل فوكو ” في سنة 1984 ، حيث ذاعت مقولته :” إن الإنسان اختراع حديث العهد ، صورة لا يتجاوز عمرها مائتي سنة ، إنه مجرد انعطاف في معرفتنا ، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلا آخر جديد..”!
أما الإسلام ، كدين سماوي ، فقد أنزل الإنسان مكانه الأنسب ، وفي القرآن الكريم آيات بينات تعكس التكريم الذي حظي به الإنسان الذي فضله الله سبحانه على جميع مخلوقاته وأمر الملائكة بالسجود له ، وحفظ له نفسه و حرّم عليه قتل نفسه أو غيره إلا بالحق ، وحفظ له دينه وعقله و ماله ونسبه ، وحرّم عليه الظلم والاستبداد والطغيان وأمره بالإحسان وإقامة العدل والقسط .ووضّح له سبيل الرشاد والهدى وزكاه وألهمه الفجور والتقوى وأعطاه أدوات المعرفة ويسّر له سبل الإدراك ، وعلّمه ما لم يكن يعلم ، وأجاب عن تساؤلاته وحيرته ، وحمّله مسؤولية عمله وكسبه ، وجعل بينه وبين غيره من بني آدم المساواة.
وإذا كانت دعوى الحداثة أنها أعادت الاعتبار للإنسان من سطوة الكنيسة و ظلم البابوات وصكوك الغفران ، فإن الإنسان في الإسلام لم يفقد يوما اعتباره كإنسان ولم يفقد حريته وقدرته على المبادرة والاختيار ، لأن ذلك كان اختيارا من الله سبحانه وتعالي .
أما الجزء الرابع فقد تناول ” حقوق الإنسان : آراء وملاحظات” ، حيث إن الموضوع كان من ضمن أهم شواغل الفكر الليبرالي الأوروبي في العصر الحديث ، وكانت بدايتها مع إعلان الاستقلال الأمريكي 1776 ، ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي بعد سقوط الباستيل 1789 ، ودستور الثورة الفرنسية 1793 ، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة 1948 ، وحزمة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ..و يجدر بالذكر أن كل ذلك كان وليدا خاصا للثقافة الأوروبية والأوضاع المحلية ، وهي بذلك غير قابلة للتعميم و ” العالمية ” لعدم إدماج تراث باقي الثقافات الأخرى فيها ..!
أما في الإسلام فحقوق الإنسان مستمدة في شرعيتها من الله سبحانه وتعالى وليست منة أو تكريما إلا منه عز وجل ، ومنها حرية المعتقد فـ” لا إكراه في الدين “( البقرة – أية 256). ولكنها لا تعني حرية الخروج من الإسلام بعد اعتناقه باعتبار ذلك خيانة للمجتمع المسلم .
وكذا حقوق المرأة في ممارسة دورها في المجتمع بما يكرمها ويحفظ لها مكانتها ، عكسا للفلسفات الأخرى التي تاجرت بالمرأة و ” رجّلتها” ( حولتها إلى رجل )! وامتهنت إنسانيتها وحولتها إلى سلعة وإعلان ودعاية!
الجزء الخامس انحصر فيه الجهد على مناقشة علاقة ” الإسلام والغرب” ، ويري المؤلف أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام على حقيقته ( بشهادة الأب روبير كاسبار) ، بل إنه أكثر من ذلك يخوض ضده حربا تحت شعارات تبطن غير ما تظهر هي : الديمقراطية و حقوق الإنسان ، والإصلاح وحقوق المرأة ، ومقاومة الإرهاب ..الخ ، ولم ينحصر الجهل بالإسلام في أوساط المثقفين والسياسيين ، بل إن رجال الدين غدوا مثالا على ذلك ، كما هو شأن البابا الحالي للمسيحيين ” بنديكت السادس عشر ” في محاضرته العدائية الشهيرة في جامعة ” ريجينس برغ ” في ألمانيا يوم 12/9/2006 .. ويري المؤلف أن أحداث سبتمبر 2001 هي أخطاء بحسب البعض ، وهي أخطاء لدفع أخطاء حسب آخرين !
وإذا كان لا بد من محاكمة من قاموا بتلك الأحداث في نيويورك أو لندن أو مدريد ، فلابد بنفس الأهمية والحرص من مقاومة من احتل فلسطين وغزا العراق وأفغانستان واحتلهما ودمرهما وأعادهما إلى العصر الحجري!.
أما الجزء الأخير ، فقد حاول أن يتصّور ” النهوض الحضاري الإسلامي” ، وذلك من خلال التأكيد على أهمية البعد الديني الأخلاقي الإنساني الذي يصنع التقدم دون الفساد في الأرض أو العدوان والبغي و الظلم على الآخرين . ولا بد من التفريق بين الحداثة كفلسفة ورؤية للكون والحياة والتحديث كمنجز علمي وتقني يسهم في التقدم الإنساني .
وأشار المؤلف إلى أهمية ” تصحيح ” القراءة الخاطئة للإسلام ، وهي قراءته من خلال مناهج وآليات الآخرين و إيديولوجياتهم ، أو قراءته من خلال التحريف اللاحق بالمسيحية واليهودية ومساواة الإسلام بذلك و افتراض نفس الشيء عليه ، أو قراءة الإسلام من خلال سلوك المسلمين السياسي وما فيه من ملك عضوض وجور وظلم ! ، أو القراءات البدعية للقرآن الهادفة إلى ممارسة النقد ضد آياته ، أو تطبيق مناهج ” الأنسنة” أو ” العقلنة ” أو ” الأرخنة ” عليه .. ومن أمثال القراءات والتأويلات الخاطئة ما جاء به مصطفي كمال أتاتورك في تركيا منذ 1924 ، وقراءة الغرب للإسلام التي أنتجت غزوه واحتلاله في فلسطين والعراق و أفغانستان ، وقراءة بعض المسلمين أنفسهم للإسلام مما حوّله إلى طوائف ومذاهب وأحزاب ..
ويضع المؤلف أسسا وقواعد لقراءة الإسلام بشكل صحيح ، وهي الإيمان والتسليم به وبما جاء فيه ، وأنه من عند الله , ومرتبط ببعضه البعض ، ومطلق في الزمان والمكان ، ونقرأه لذاته وليس لدواعي إيديولوجية أو مذهبية .. وربما قراءة بتلك الملامح تحتاج إلى ثروة ( وربما ثورة ) معرفية كبرى ، تسهم في معرفة الواقع والقدرة على تغييره فرديا وجماعيا ، بالإرادة والعلم من أجل تحول الأفكار المجردة لإنجازات واقعية ملموسة ، فتتحقق غايات الفكر و أهدافه ومقاصده في الواقع .
ويناقش المؤلف شروط النهضة ويحددها في أن ينبع المشروع النهضوي من ذات الأمة الفكرية والثقافية ، وفكر إسلامي معاصر يؤسس على الثروة الفقهية وينفتح على متغيرات العصر ، ويقدم رؤية للعالم ولمكانة الإنسان فيه ، ويفهم حقيقة جوهر الدين وأهميته للمؤمن ، و تجذير الشورى كأصل ثابت للحكم في الإسلام ، وانتهاج التفكير النقدي ، والاعتراف بالرأي الأخر ، وتحقيق العدل ، والارتقاء بمستوى التطبيق ، والمحافظة على حياد العقل ، والانطلاق نحو البناء .. وبذلك يكون المؤلف قد أجاب بثقة علمية على العنوان والافتراض الأساسي لكتابه حول إمكانية أن يكون الإسلام فعلا ” مجاوزاً للحداثة و مابعد الحداثة”!!
ويمكن اعتبار هذا الكتاب العاشر في سلسلة من الإصدارات التي بدأها صاحبها منذ أزيد من عقد ونصف إضافة كبرى للمكتبة العربية ، علاوة على أنه يسهم في تكوين العقل العربي والإسلامي بهذه المطارحات النقدية للإشكالات المفاهيمية التي يتصدي لها والتي أثارت الكثير من اللغط في الزمن العربي والإسلامي الراهن ، فإنه أيضا يقدم جهدا علميا ثريا وأصيلا ، لا يكتفي فيه بعرض آراء الفلاسفة والمفكرين ، بل إنه يناقشهم ، ويقدم رأيه بوضوح لا لبس فيه ولا تردد .
ولذلك فإن “سالم القمودي” يضيف حجرا جديدا في مشروعه الفكري والثقافي المتميز عن مشاريع ومحاولات عربية جريئة شغلت الساحة الفكرية العربية في القرن الماضي .
وقد يكون من الظلم الكبير للكتاب وصاحبه أن يكتفي المرء بقراءة واحدة مستعجلة للوقوف على مضامين الرسالة التي يبغي توصيلها ، بل إن الإنصاف والموضوعية يقتضيان أن تعاد القراءة أكثر من مرة من أجل استكناه الغموض وتوضيح كافة زوايا الحقيقة التي سعي إلى رسمها في هذا الجهد العلمي الكبير .