ولد مولود: الانتصار على الأيدز
نواكشوط ـ محمد ناجي ولد أحمدو
يجلس محمد ولد مولود ذو الثلاثة والاربعين عاما أمام مكتبه في الأمانة التنفيذية لمحاربة السيدا، بوسط العاصمة الموريتانية شرق أسوار القصر الرئاسي مباشرة.
محمد أبرز الموريتانيين الحاملين لفيروس نقص المناعة المكتسب “السيدا”، نذر حياته لمحاربة هذا الفيروس، وسافر من أجل ذلك الهدف إلى زوايا الدنيا الاربع، مرافعا عن حاملي الفيروس وحقوقهم المهضومة.
قبل أسبوع كان محمد في مراكش مشاركا في مؤتمر دولي ضم ممثلين عن بلدان المغرب العربي الخمس ومصر، وقف أمام الجميع وقال لهم بأعلى صوته: “أنا مصاب بالفيروس، وهذا لا يعني نهاية العالم، ولكنني قررت أن أحمل شمعة تضيء طريق أخرين كي لا يصابوا بهذا المرض”.
صفق الحاضرون، ومن بينهم حاملون للفيروس لا يجدون في أنفسهم شجاعة للاعتراف بالحقيقة، لم يتحدث أي من الحاضرين سوى جزائرية واحدة اقتدت بولد مولود.
تعود بداية إصابة ولد مولود بالفيروس إلى أواخر عام 2002، لدى علمه بالخبر.. أصيب بصدمة، وظن أيامه المتبقية على هذا الكوكب معدودة، توقع الموت في أية لحظة، كان لا يعرف شيئا عن المرض.
كان رد فعل غالبية أفراد عائلته على الخبر سلبيا، رفض الكثيرون حتى مصافحته، وأبعد آخرون أطفالهم عنه، ل”كي لا ينتقل إليهم المرض عن طريق مداعبته”.. وحدها إحدى شقيقاته رفضت أن تتخلى عنه في تلك الظروف الصعبة.
كلمات الطبيب الذي أجرى له الفحص التأكيدي للدم كانت كلمات مثبطة، تزرع اليأس حتى في قلوب غير المرضى، قال له “هذا المرض خطير جدا، وعلاجاته لا تتوفر إلا في فرنسا أوجنوب إفريقيا”.. وأين جنوب افريقيا وفرنسا من ولد مولود الذي لفظه أهله، وهو في أمس الحاجة إليهم؟
اتصلت شقيقته التي لم تتخل عنه بالدكتور الحاج ولد عبد الله، الذي أخبره أن الامر بسيط، ثم دخلت الدكتورة فاطمة بنت محم على الخط، كانت تعمل حينها في منظمة “استوب سيدا” “توقف أيها السيدا”، التي يرأسها رجل الدين البارز العلامة حمدن ولد التاه، وشحنته بـ”فولتات” من الامل، حدثته كم هو بسيط أن يتعالج، وان العلاج متوفر في السنغال القريبة جدا.
لا ينسى ولد مولود أن الدكتورين ولد عبد الله وبنت محم كانا أول من طمأنه، وأعاد إليه الامل بحياة عادية.. وكيف ينسى ذلك.. الانسان يذكر دائما من يؤازره في المواقف الصعبة، ولا شيء أصعب من هذا الموقف.
سافر ولد مولود إلى داكار خامس رفقة تضم إلى جانبه أربعة من حاملي الفيروس الموريتانيين لتلقي العلاج هناك,
لم يقو الرجل على الصبر على نظرات المجتمع المشمئزة، والتي تقرنه مع الخطيئة نفسها، أو تجعله مرادفا لها، ولا تلك الاصابع التي تغرس في التراب عند مرءاه، فرجا شقيقته أن تؤجر له شقة في حي آخر من العاصمة، وهو ما فعلت، حيث أقام سنتين في عزلة إجبارية فرضها عليه المجتمع بأحكامه المسبقة القاسية.
بعد ارتفاع عدد الحاملين للفيروس في البلد صار المعنيون يتلقون العلاجات هنا في نواكشوط، وبعد ذلك، ونتيجة نشاط ولد مولود وحيوته في حربه مع عدوه اللدود السيدا، اكتتبه المدير السابق للبرنامج الوطني لمحاربة السيدا الدكتور عبد الله ولد حرمه، الموجود الان خلف قضبان سجن دار النعيم، موظفا في البرنامج.
يذكر محمد ولد مولود لولد حرمه أنه هو من جعله شخصا ذا استقلالية وذا قدرة على العمل، فـ”لكي تتابع أدويتك وتتزود باحتياجاتك يلزمك مرتب واستقلال مالي”.
ركز ولد مولود في حديثه لي على أهمية أن يكون لحامل الفيروس استقلال مالي يمكنه من عيش حياته، فهو كشخص مريض لا بد له من نمط غذائي جيد، وتلقي الاودية باستمرار، يواصل الرجل
لماذا لم ينضم الرجل الى طابور المتكتمين على الايدز الطويل في البلد؟ يرفض ولد مولود التكتم في التعامل مع المرض، ويقول “من يرفضني وأنا مصاب بالسيدا أرفضه، وأنا لا أملك تغيير الواقع فمن الأفضل لي أن أحاول الحد من الاصابات المقبلة”.
أزمة الصمت المطبق حيال السيدا، وعد الحديث عن الاصابة به من قبيل التابوهات، ألقت بظلالها على وضعية الفيروس في موريتانيا، فمن بين آلاف الحالات الموجودة لا يتابع العلاج بانتظام غير 2700 حامل للفيروس.
وفي حالات عديدة يمكن أن ينتقل الفيروس في ما يشابه سريان النار في الهشيم، خصوصا مع علمنا ان الغالبية الساحقة من الزيجات التي تتم في البلد لا تسبقها فحوصات لمعرفة مدى سلامة الزوجين من الفيروس، في حين “يحج” العديد من الموريتانيين الى إفريقيا حيث يصول ال HIV ويجول.
في طريقنا من مباني الامانة الدائمة لمكافحة السيدا إلى منزله في ضاحية المشروع شمال العاصمة كان يعب من سيجار المالبورو ويحدثني ضاحكا عن حياته وأحلامه وكونه لا يشعر باختلاف مع أي من البشر.
عاش محمد ولد مولود حياته هادئة رغم الاصابة بالفيروس، وتزوج كما يتزوج الناس العاديون، لكن مع فارق أن المدام مصابة هي الاخرى، ويحلم بأبناء يملئون عليه منزله ككل الناس، حيث أجهضت زوجته في حملها الاول قبل أن تضع طفلا.
السيدة التي قبلت بالزواج منه لا تمتلك شجاعته، ولا تتحدث علنا عن إصابتها بالفيروس، ولكن محمد يحترم لها خيارها.
يقول محمد انه من بين السياسيين الموريتانيين لم يتعاطف مع قضية حاملي الفيروس في البلد غير الوزير الاول الاسبق سيدي محمد ولد بو بكر السفير حاليا في مدريد، الذي استقبله وزملائه مرات.
اما المؤسسة الدينية فيعد من اصدقاء حاملي الفيروس من افرادها العالمين حمدن ولد التاه وباب ولد معط، الذين قال انهما يحضران ويحاضران في الانشطة التحسيسية حول ضرورة التكفل بمرضى السيدا.
في بيته يمسك ولد مولود الابريق، ويصر على تحضير الشاي لنا.. كثيرون من أصدقائي، رغم “ثقافتهم” سيرفضون مصافحتي إذا علموا أني عائد من مقابلة مع مصاب بالسيدا، وسوف يبتعدون أكثر إذا عرفوا أني شربت الشاي الذي أعده بيديه.