كل عام والأمة الأزوادية
بألف خير من الله رب البرية …
لقد ترددت كثيراً عن الكتابة هذا العام الهزيل،
في ذكرى إستقلال أزواد ( السادس من إبريل )
وسبب هذا التردد ليس عجزا عن نظم الكلمات، ولا جهلاً عن الخبايا والواقعات…
إنما كوني مللت كثرة العويل، والتعليم والتجهيل…
فآثرت الإلتفات لنفسي، علني أستدرك ما اضعت في أمسي…
فبينما أنا في سهادي ، محروم من لذة الرقاد.
إذ هيجني نسيم عليل، بعد غيث وبيل.
فارسلت معه الخيال، الى حيث الروح والجمال.
فسمعت خرير فيض النهر والوادي، فطفقت ملحنا شادي.
وسمعت هفيف الغاب والأعشاب ، فدمعت عيني بذكري لأحبابي .
وزقزقت فوقي مئات العصافير ، فأمسيت معها حزين أسير.
ونعق الغراب بعيداً، فتذكرت الأضحى عيدا.
وخارت العجول يمنة، فاجابتهم الأمهات يسرة.
وشدني حنين نوق ، يجيبه رغاء فحل عقوق.
ونبح الكلب أسفل السنين، ومعه ثغاء المعز السمين.
وإذا بسلام خجول، اتاني من رجل مرحول.
فرددت عليه السلام ، ممسكا من رحله الزمام.
ثم انزلته مهللا، وبسطت الفرش مستعجلا.
فامرت لنا بالماعون، وانتقيت شاة لبون.
وكلها لحظات ، حيث انهينا الشاي والوجبات.
وبعد ان صلينا العشاء ، جلسنا للسمر والصفاء.
فبادرته السؤال، عن المال والعيال…
فطاطا رأسه الدنيا ، ثم نظر إلى الثريا.
فرفع اللثام قائلا، ودمع العين مهللا.
لاتسل عن حالي ولا عن عيالي.
ولا تسل عن مالي، ونحن في حكم ” مالي “.
قد كنت ذا خير كثير ، وعيالي يلبسون الحرير
وقومي الو باس شديد، وأنا فيهم مكين عتيد
وقد رزقني الله ولودا ودودا ، رزقت منها مريم ومحمودا.
وكنا في رغد وهناء، يأتينا رزقنا صباحا ومساء.
وقد كنا نعيش في حينا، متحابين وجيراننا
فشمالنا حي من الأعراب، معنا جيئة وذهاب
وقرية ” آمدو “و”همبابو”، لم نسمع منهم إلا ” وركسابو “.
وجوارنا ” فلان ” أوفياء، نقاسمهم المرعى والماء.
وداخل حينا عشرة ” ايبرجنن”، نحسبهم فينا ” ايغويلن “.
وكذا بيت لأقيان ، يصنعون لنا باثمان.
وشيخ تعهد الصبيان ، يعلمهم الهجاء والقرآن
وامنا ” ذات الدين ” ، تعلم بناتها الطهارة والدين.
ولدينا يوم في الأسبوع ، نذهب فيه لسوق الجموع.
ونبيع بعض المواشي ، لنشتري الطعام والشاي.
ولاأنس بعض العطور والصابون ، لزوم حرمنا المصون.
وبالنسبة للأطفال ، فلا بد من ” آكس ” ونعال.
وهكذا تجري الأيام سريعة ، حتى اتتني أخبار مريعة.
منطقتنا تفشت فيها الحصبة ، فبحثنا عن النصل عند الصحبة.
وبعد أسبوعين كاملين ، وجدت النصل بالفين.
فاحضرنا صاحب التجارة ، فحقن الجميع حقن ضارة.
نالت منا سريعاً ، وامرضتنا جميعاً.
وكان نصيب الصغار ، استفراغ واسهال وصفار.
وبعد أيام معدودة ، سقطت مريم ممدودة.
فلم تفلح الأدوية التي عندنا، ولا مساحيق أمنا.
فحملتها إلى اقرب قرية بها طبيب ، يومان من السير بجمل نجيب.
وبعد الكشف طوال يوم ، أعطاها ” توباهي ” و ” سيروم “.
واجلسنا في الفناء للملاحظة، والزمنا بمبالغ باهضة.
فساء حالها بعد يوم ، فحقنها “بالاستانصيوم”.
فما لبثت أن فارقت الحياة ، فدفناها في الفلاة.
مؤمنين بالله والقضاء ، شاكا في الطبيب والدواء.
وما وصلت للحي بعد مجهود ، حتى الفيت ابني محمود.
طريح الفراش على العتبة ، وقد بلغت به الحصبة.
وقد كانت حالته شديدة ، منذ أيام عديدة.
فطلبت من إبن عمي سوق الرؤوس ، لبيعها باي مال ملموس.
إذ عزمت على نقل بني للعاصمة ، وقد كانت هي القاصمة.
وبعد رحلة دامت لأسبوع ، تخللها مركوب من كل نوع.
وصلت لمشفى في ” كتي” ، يملكه طبيب من أمتي.
فبدأت رحلة الفحوص والعلاج ، علي كطول الفجاج.
لكن توكلت على الله الشافي ، آخذا بأسباب المشافي.
فبدأ الفتى يستفيق ، ثم يخلد لنوم عميق.
وذات صباح لا أنساه ، فوجئت بأكبر ما أخشاه.
آلاف من البمبارا الهائجون ، دخلوا علينا المشفى يحطمون.
وبعض الشرطة مبصرون ، وآخرون مشاركون.
فوقفت أحمي ولدي ، ارشيهم بكل ذات يدي.
وكل محاولاتي بائت بالفشل ، فبدأ الضرب واشتعل.
فلم أفق إلا في السجون ، يدعونني بالكلب الملعون.
اجهش ضيفي بالبكاء ، فاعطيته طاسة ماء.
وبعد أن هدأ قليلا ، أكمل القصة ثقيلا.
قال ؛ فلبثت في السجن بضع سنين ، في ظلمة كظلمة الجنين.
وعذبوني بكل الألوان ، مالا تتصوره عقول واذهان.
فتارة يعلقوني بكل الأطراف ، واخرى يقتلونني بالجفاف.
وجلسات الصعق دائمة ، والضرب شيء من النافلة.
وكنت كثير التفكير والهلوسة ، اتذكر بني في وسوسة.
اين هو الآن هل قتلوه ، وإن عاش فأين وضعوه.
وذات يوم دون مقدمات ، دخلن علي ” تيكوفار ” شقراوات.
ومعهما رجل يتحدث ” تماشق” ، ففرحت به فرحة عاشق.
وبعد طول حوار ، اطلقوني وارسلوني إلى دولة في الجوار.
فوصلت إلى مخيمات اللاجئين، وأنا لا أعرف ما حدث من سنين.
فوجدت هناك بعض أهلي ، حيث اخبروني بوفات ” أهلي” .
فسألته عن ابني هل من أخبار ، فبشرني أنه في يد أخيار.
وجدوه بعدي ملقا على الطريق، فرعوه حتى بدأ يستفيق.
فاخبرهم بنفسه وحيث كان، فهربوه معهم إلى موريتان.
وتواصلوا معنا واعلمونا هاتفياً، فتركناه معهم إجبارياً.
فسألته عن مالي وحلالي ، لقد ضاع كل شيء في ” مالي “.
وهربنا برقابنا فقط ، إلا من في يد اللصوص سقط.
وبعد أن عاد بعض العائدين ، استلفت هذا البعير من الاقربين.
عازما على الوصول به حيث ابني ، وحيث شاء الله نعمر ونبني.
أما أنا فليست هذه لي دار، مادامت ” مالي ” في الجوار.
وإن وجدت رجالاً مثلي عازمين ، كنا لهم من أرضنا طاردين.
وهكذا حل علينا الفجر ، ثم ركب جمله وغادر.
فايقنت الاستقلال لا محالة ، إذ أن مالي صنعت أمثاله
فهناك رجال يشترون بفراطة ، وآخرون لاتساوي ” مالي ” عندهم مخاطة.
اذا أردتم فخذوا مني الخلاصة.
إما أن تساهم بجد واستماتة ، أو تترك الأرض بلا التفاتة ، متيقنا أنك لاتساوي قصاصة.
وأن هناك من يكمل المسير ولو كان قصاصة…