القاسم ولد أبنو (معلم)
تلفون 6310404
جميل أن تبيت الليالي تلو الليالي معلقا بين السماء والأرض, مناجيا الله عز وجل, راجيا رضاه , وشفاء مريضك.
وجميل كذالك والحمد لله أن تري مريضك في عافية مهداة من الرب . فتهتز نشوة وفرحا , ليس معك من نصب الدنيا وسهر الليالي الخوالي شيء,فترفع بصرك إلي السماء حامدا الله , وتخر إلي الأرض ساجدا شكرا له علي عطائه ورحمته لأنات المريض ولقلبك المتقطع حزنا وحسرة .
كان الوقت وقت الأصيل والمكان مستشفي العيون عاصمة الحوض الغربي . تركت المريض يزدرد عطية الله وعافيته , والزوار حول سريره يباركون له وليسوا أقل مني سرورا والحمد لله.
فتقدمت بخطي وئيدة نحو الباب الخلفي للمستشفي , فوجدت المطر نازلا , فتراجعت قليلا إلي الوراء , وطلبت من أحد العاملين بالمستشفي مقعدا . للاستمتاع بالنظر إلي ما يسميه بعض الأدباء بكاء السماء وأسميه أنا الرحمة وسر الحياة .
فكان جميل حقا رؤية القطر وحبات البرد الأبيض الناصع , في سباق للهبوط علي أديم الأرض , مكونة جداول صغيرة من الماء , يلتقي بعضها مع بعض , لترسو في منحدرات مكونة بركة ماء, كان أطفال الحي المجاور للمستشفي وغيرهم من أطفال المدينة ينتظرونها بفارغ الصبر, بعد شهور من فحيح الرياح ولهيب الشمس الحارق وجو المدينة الصخرية الساخن , ليسبحوا فيها , بعد ما كانوا يرقبونها غيمة في سمائهم وفوق رؤوسهم .
وإن اختلاط ضحكاتهم البريئة , بنقنقة الضفادع التي خرجت للتو من الأرض , ليشنف ألأذان حقا ويحرك المشاعر ويطرب النفوس.
وبعدما انتهي المطر, ولم يبق إلا الرذاذ الناعم . خرجت من ضيق الجدران إلي رحابة العراء , لاستقبل النسيم العليل والهواء الطلق بصدر لا يقل رحابة عنه ما شاء الله .
وبينما المخيلة جامحة , وقدماي علي الركاب تستحثها , استوقفني مشهد غريب , يبعث علي التأمل والاستنباط , والتأويل وتفسير الظواهر الكونية , جليلة كانت أم صغيرة .
رأيت علما يرفرف فوق بناية الإدارة العامة للمستشفي , حركته أوتار الطبيعة الخلابة , تماما مثلما فعلت بمشاعري. فقلت آمين !!
فقالت نفسي لنفسي : ويحك يا هذا علي ماذا تؤمن ؟
فقلت يا نفس لا تحسبي هذه القطعة القماشية التي ترفرف فوقك مجرد قماش , بل هي شرف وعز لك ولوطنك الغالي .
مكونة من لونين , فيهما الفأل الحسن , وهما الأخضر والأصفر فالأخضر للعشب وما يرمز له من أمل الحياة , والأصفر يرمز للذهب وما يعني من سعة في الرزق .
ناهيك يا نفس عن النجم الخماسي, الذي هو عند الأمة المحمدية اختصار للبسملة , والهلال هلال رشد وبركة كما في دعاء الأهلة والأغنية التي تحركه يمينا ويسارا( أعليك !! أعليك !! أمبارك الاستقلال )
كان العلم مثبتا علي عمود مكون من قضيبين , متفاوتين في السمك . القضيب العلوي دقيق , رقيق , والسفلي أكثر سمكا , وفي هذه الأثناء التأملية الوجدانية جاء عصفوران من الشمال وسبق أحدهما الآخر إلي النزول علي النتوء البارز من العمود السفلي تحت العلم , وأراد الأخرأن يحط معه غير أن المطار لم يسعهما فغير وجهته لينزل علي القليل المتبقي من العمود فوق العلم .
غردا ما شاء الله لهما أن يغردا , تغريدا يتجاوب معه صياح ديكة الحي المجاور, فيعطيه النغمة الذهبية الحقة دون إسراف ولا تبذير ولا إثم ولا sms : النغمة الباعثة علي توحيد الله والتأمل فيما ينفع البلاد والعباد.
فأنشدا أغنية جميلة , وبلغا رسالة قيمة وعادا من حيث أتيا . لا هما الهدهد , ولست بلقيسا ولا الرسالة من سليمان عليه السلام.
ولا أدعي البتة معرفة لغة الطير , لكن المتطفلين علي الأدب غير بعيدين من واد الشعراء الذي هم فيه يهيمون ,وتركاني في حيرة من هذا المشهد العجيب , فلم أقل كما يقول المتطيرون من أن الطيور إذا كانت شفعا فهي بشير, وإذا كانت وترا فهي نذير شؤم , وإنما قلت كما قال رسول صلي الله عليه وسلم : (اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك )
وبعد نفي المطلق لمعرفة لغة الطير, فإني لا أستطيع نفي حرية التفكير وحقي في تأمل الطبيعة والظواهر الكونية .
فكما أستنبط إسحاق انيوتن قانون الجاذبية الأرضية من تفاحة سقطت عليه من دوحة كان يستظل بها , فإنه حري بي أن أستنبط فكرة من ذينك العصفورين المترنحين فوق العلم , وأن أغترف غرفة من وجدان الصوفية والباطنية الزاخر بالعطاء والبركة , وأن اقدر ذكاء الطير وعبقريته والإيمان بأنهم أمم أمثالنا , فالطير قد علمنا أشياءا لم نكن نعلمها من قبل كقصة هابل وقابل والغراب الذي علمنا الدفن , والهدهد الذي دل علي بلقيس وقومها الذين كانوا يعبدون الشمس من دون الله , وفي السيرة النبوية شاهد آخر علي أن عبد المطلب عندما كان معنيا بسقاية الحجيج رأي فيما يري النائم هاتفا يأمره بحفر طيبة فقال له وما طيبة ؟ قال له حيث ينقر الغراب الأعصم فإن هناك الماء الذي يغنيك عن جلبه من بعيد , فحفر مع ابنه الحارث فوجد بئرا دفن فيها سلاح وكنوز ذهبية كانت قبيلة جرهم قد دفنتها فيها منذ زمن بعيد.
ناهيك عزيزي القاريء عن طير أبابيل التي بلغت من البراعة في فنون الحرب والقصف الجوي وإصابة الأهداف إصابة دقيقة , وكسب المعركة والوقت دون خسائر في الأرواح بأبسط الوسائل وأقل التكاليف , نعم كان ذالك بحجر لا صخري لكنه من سجيل.
وبعد هذه العبرة المستخلصة من الطير, كان جديرا بي أن أفسر قدوم ذينك العصفورين وتغريدهما فوق وتحت ذالك العلم الذي جبلت علي حبه منذ الصغر, حيث كنت صبيا أصطف مع التلاميذ يوم الاستقلال تحته , مرتدين أزياءا جميلة بسيطة وموحدة : قميص أبيض , وسروال أسود ونعلين غاية في البساطة , نردد أناشيد وطنية تخلد عيد الاستقلال , يلحنها معلمون أكفاء, نعب من علمهم عبا لا تشغلنا فضائية ولا مسلسل . علمونا ( أنه بالطبشور تبني المصانع والقصور) وعلمونا كذالك أن الوطن فوق كل اعتبار فرسخ ذالك في ذهني وامتلأ قلبي بحب وطني العزيز , ولتلك القطعة الجميلة المدللة والتي لم ترفع يوما إلا وجنودنا البواسل مصطفون لتحيتها تحية الصباح , بكل وقار واحترام . ولا تغادر سماء الوطن في المساء إلا والصقور الأشاوس تحتها مصطفون ليطويها أحدهم بلباقة ويحملها علي كفين أودعهما صاحبهما حبا وتقديرا لهذا الإخضرار المرصع باللون الأصفر الذهبي . ذالك هو العلم .
فرسخ الحب في قلبي وتكأكأ الهم علي الضعيف , فعانت نفسي من حمل همومه ما الله به عليم ,فقلت مؤولا مجيء العصفورين وتغريدهما أنهما رسولا بشر لي : بأن لا خوف علي وطني الغالي ولا حزن بعد اليوم وأن أيدي المفسدين والمبذرين للمال العام قد شلت , وأني لا أحمل الهم وحدي فإن هناك من أبناء وبنات وطني من يشاطرني الرأي والفكر والهم .
فالطاقم الطبي الذي أشرف علي مريضي كان غاية في المسؤولية والرحمة بالمرضي, ومسلحا بالخبرة ولم يكلفني رشوة , والصيادلة التجار يتحسرون أمام محلاتهم , لأنهم لم يجدوا من يشتري بضاعتهم الغالية الثمن , لأن صيدلية المستشفي زاخرة بالدواء الميسر وقليل من النقود يكفي المريض , والأسرة جيدة والصحون نظيفة , ومكيفات الهواء لا تتوقف .
والزوار يفضلون البقاء تحتها عن المنزل المتواضع الذي اكتريته قرب المستشفي.
وسيارات الإسعاف ثلاثة أو أربعة رابضة تنتظر الانطلاق فور ما يطرأ طاريء.
وحنفية المستشفي الرئيسية يشرف عليها عامل يصونها من عبث العابثين , وينظم الأوقات التي تفتح فيها ليسقي الظامئين ماءا عذبا زلالا, ودورات المياه متوفرة ونظيفة , والسور من الحجارة الصلبة ومحكم ولا ينقصه إلا مسجد وإمام مرتب تتنزل البركة والشفاء علي المرضي عن طريق همهمة وتراتيل المسبحين فيه آناء الليل وأطراف النهار.
ناهيك عزيزي القاريء عن زيارات والي الولاية والمسؤولين المتكررة للمرضي والاستماع إلي همومهم ومشاكلهم والتأثر بأناتهم ومواساتهم بوعود الشفاء العاجل إن شاء الله لأن الشفاء بيده عز وجل والأسباب هذه ولن يبخل المزيد .
و حتي لا يقول الجاحدون لفضل غيرهم هذا مقال فيه طير وطائر وطيور, فإني قد حددت المكان وهو مستشفي العيون فليزوروه وليشهدوا شهودا من أهله .وليسألوا العير المتوقفة خلف البناية التي مازالت ورشات البناء والصيانة واللحام والطلاء موجودة فيها, تملأ الآذان أصواتهم وتراهم بالعين جيئة وذهابا بنظام عجيب وشبيه بحركة النمل المنتظمة .
كما قد يصنفونني من الحزب الحاكم , فإني أقول أني لست منه , لكن ذالك لا يمنعني من ذكر فضل الآخرين كابن عبد العزيز مثلا, وإن كان الفرق بين حزبينا يسير معني وكتابة وشعارا .
معني فإن التفكير بالوطن مشترك , وكتابة أقلب كاف الحاكم تاءا . وشعارا فالفرس شعار حزبه والصقر شعار حزبي , وهما صنوان في الحرب ورمزان للشجاعة عند العرب .
فالتبشر يا وطني بأن في الزوايا خبايا , وفي الرجال بقايا , هذا ما قاله العصفور في مستشفي العيون , ومنذ ذالك الحين آليت علي نفسي أن لا أرمي العصافير بالحجر وإنما بالورد أرميها