إذا الشعب يوما أراد الكزرات *** فلا بد أن يستجيب العسكر
(مقابر الأحياء)
زرناه في قبوه أو على الأصح قبره،،، يستجمع قواه الخائرة ليسند جسمه الهزيل وشعره الطويل على وسادة من الجلد عبثت الأيام بحشوها، فتناثرت شعيرات القطن في أرجاء القبو، يغطي بثوبه الرث ما كشفته خائنات الدهر من جسمه النحيل، يمسح وجهه بطرف ثوبه ويحمحم ويبصق عن يمينه في إناء مليء بالتراب لتبدأ الحكاية من حيث توقفت ساعة الزمن:
” كنت شابا قوي البنية، مفتول العضلات، سريع الخطوات، حاد الرؤية،، أعيش بسلام في تلك القرية الجميلة،،، كنا نرضع من ثدي الطبيعة ساعة جودها ونحتمي بخيامنا ساعة غضبها، كانت ساعة الزمن متوقفة، لم نكن نحتاج التواصل مع الغير،،،كان كل شيء جميل،،،لكن مخلوقا من العالم الآخر ينتهك خصوصيتنا (طريق الأمل) ويقسم قريتنا إلى شطرين، فارضا علينا نمط عيش المدنيات الحديثة بكل تعقيداتها،، تآلفت الحيوانات مع حركة السيارات فلم يعد الكلب يطارد السيارة كعادته ولم تعد المعزاة تخافها ولم يعد الشجاع من الرجال أول القادمين إلى السيارة للإلقاء التحية على ركابها،،، لم تعد السيارة رمزا للسلطة كما عهدناها،،،لا تطلع الشمس أو تغيب إلا وركاب بسطاء يحطون الرحال لأخذ قسط من الراحة وآخرون يستعدون لمواصلة السفر،،، خصصنا خيمة للضيافة يتقاسم الرجال أعباءها المادية وكنت أنا بوصفي أصغر الرجال قائما عليها، أشوي اللحم وأقدم الشاي للمسافرين أشاركهم الأحاديث التي في العادة لا تخلو من ذكر العاصمة انواكشوط، البعض معجب بحركة السيارات وكثرتها وآخر معجب بالكهرباء ونورها وثالث بالمحيط ونسيمه ومن هذا وذاك تشكلت صورة سحرية في مخيلتي عن العاصمة انواكشوط فقررت السفر إليها،،، كان هذا يوم الأربعاء فانتظرت حتى يوم الخميس فهو يوم مبارك للسفر ،،، أحضرت أمي ترابا وطلبت مني فسخ حذائي ووضع قدمي اليمنى عليها وبذلك انتهت مراسيم الوداع، لم يمانع سائق الشاحنة اصطحابي إلى انواكشوط لكرمه أو عرفانا منه بجميل خدماتي التي قدمتها له طيلة سنة كاملة،،، تسلقت الشاحنة من الخلف وحفرت حفرة كبيرة داخل حمولتها وحييت موكب المودعين بيدي وانطلقنا،،، كانت لحظة رائعة اختلطت فيها مشاعر الفرح بروائح البنزين المنبعث من عادم السيارة،،، وبما أنها أول مرة أركب فيها سيارة كنت ألاحق بنظراتي الأشجار التي تسير عكسنا بسرعة كبيرة والأرض التي تدور حولنا حتى أصابني دوار شديد وتقيأت أكثر من مرة قبل أن أسمع صوت المكابح يحتك بالأرض معلنا وقت الراحة،،، اقترب مني رجل بدين بيده سكين، وبصوت تنقصه لياقة المضيف سألني: هل تريد المشوي والشاي؟ فقلته: لا حرج،،، ما تيسر فقط!!! فأحضر لحما مشويا وأعد شايا بطعم النعناع ،،، أعجبني كرمه وسرعة خدمته،، تذكرت خدمات الضيافة التي تقدم في قريتنا لعابري السبيل وقلت في نفسي: لقد كنا مقصرين في خدمة الضيوف ،،،،، بعد صلاة العصر ، شغل السائق المحرك وأطلق صوت مخيفا من بوق السيارة معلنا انتهاء وقت الراحة،،، تسلقت السلم الخلفي للشاحنة وفي منتصفه أمسك الرجل المضيف برجلي وطلب مني تسديد فاتورة الضيافة (المشوي ، الشاي….) فلم أصدق أذني،،، الطعام يباع؟؟؟؟ تجمهر الناس حولي ، منهم من يصفني بالبداوة وآخرون بالغباوة إلى أن تدخل السائق ودفع المبلغ المستحق حسب دعواهم لتنطلق الرحلة ثانية،،،،،، في المساء وعلى بعد أميال من العاصمة انواكشوط هب نسيم المحيط المحمل بالرذاذ وتعانقت أشعة الأعمدة الكهربائية مع الأنوار الأمامية للشاحنة،،، قرب البعيد وهدأ الحديد أمام بيت من الصفيح في حي “الكبه”،،،كنا عشرة أشخاص داخل الكوخ أنا والسائق وزوجته وأبناؤه السبعة،،، حمام واحد مشترك بين خمسة أسر وهو عبارة عن برميل فارغ مدفون بين أربعة أعمدة خشبية ملفوفة بقطعة قماش،،،لم أكن الضيف الوحيد!!! هناك ضيف ينتزع الخبز من أفواه الأطفال ويعكر صفو الكبار،،، إنه الذباب،،، الضيف الظريف،،، ما إن تغيب الشمس حتى يغادر إلى جهة مجهولة ليستلم البعوض والفئران الدور حتى قدومه مع بزوغ شمس اليوم التالي،،،، لم يتطلب الاندماج في هذا المجتمع الجديد الذي تغيب فيه كل الفوارق الطبقية وقتا طويلا،،، سكان الحي أو المقبرة يطبقون الاشتراكية اللينينية،،، طيبون يتقاسمون كل شيء:(الخبز ، الملح ، المياه الغير صالحة للشرب، القطع الأرضية الغير مشرعة) ،،،، بنيت كوخا من صفائح البراميل الفارغة التي يجلبها العمال معهم في طريقة عودتهم من عالم الرأسمالية،،، كان كل شيء جميل،،، حكم علينا بالعيش على هامش المدينة ،،،، كلما امتدت إلينا ألسنة العمران رحلنا ،،، خمسون سنة من الترحال،،، لا نريد إلا الكزرات،،،،، ثم استلقى على جنبه وقبل أن ينتقل إلى مثواه الأخير سمعناه يكرر أبياتا للشابي
:
إذا الشعب يوما أراد الكـــزرات فلا بد أن يستجيب العســــكر
ولا بد للظلم أن ينتهـــــــي ولا بد للجيش أن يعتـــــذر
ومن لم يعايش سكان الكبـــات تنكر في حقها واستمــــــر