تعقيبا على فتاوى الشيخ سيديَ بابَه الواردة في الحلقة الخامسة من هذه السلسلة، وتوضيحا لها، سيتمُّ في الجزء الأول من هذه الحلقة السادسة عرضٌ مختصر لكلام العلماء، خصوصا السادةَ المالكيةَ والعلماءَ الشناقطة، حول مسألتين أساسيتين، أوردهما الشيخ سيديَ بابَه في فتاواه المذكورة، بشيء من الاختصار:
تتعلق الأولى بحكم الاستعانة بالكفار على المحاربين في بلد لا سلطان فيه، وأولوية جهاد المحاربين على جهاد الكفار؛ بينما تتعلق الثانية بحكم العاجز عن الجهاد؛ وهل من فرق في ذلك بين جهاد الدفع وجهاد الطلب؟ وذلك عبر العناوين التالية:
- مقدمة؛
- أوْلوية جهاد المحاربين وحكم الاستعانة بالكفار عليهم فى بلد لا سلطان فيه:
- من كلام علماء المالكية في المسألة؛
- من فتاوى علماء البلاد في المسألة؛
- مسألة العجز عن الجهاد؛
- الفرق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب عند العجز؛
- ذكرُ بعض مَن وافق الشيخ سيدىَ بابه فى فتواه وموقفه المذكوريْن؛
- عرض فتوى الشيخ سيديَ بابَه على أقوال العلماء؛
مقدمة
مِن المسَلّم به أن الاِستعانة بالكفار على المسلمين، إن كانت مظاهَرةً لهم على دين الإسلام، أو نُصرة وتقوية لهم على أهله، أو موالاة لهم، أو بغضا للإسلام والمسلمين ونِواء لهم، أو عونا لهم على دولة إسلامية تقيم الشرع للإطاحة بها، أو على مجتمع مسلم آمن أو فرد مسلم، لإلحاق الضرر أو الأذى به، فهي رِدَّةٌ وكُفرٌ بالنص والإجماع. والنصوص من الكتاب والسنة فى هذا الأصل أكثر من أن تُحصر، وكتُب العلماء طافحة بنقل الإجماع على ذلك، فلا نزاع فيه إذَنْ. ويستوى فى ذلك العونُ بالنفس والمال والرأى والدَّلالة والإخبار.
لكن الظاهر من أقوال أهل العلم أن الاستعانة بالكفار للقضاء على الفوضى وردِّ عدوان أهل الحِرابة الذين يعيثون فى الأرض فسادا، ولا حيلة فيهم إلا بالاستعانة بالكفار المحتلين للبلد، المتغلبين عليه بالقوة، إذ لا دولة ولا سلطة ولا إمام للمسلمين، ولا منَعة ولا قوة لجماعتهم المشتتة المتنازعة فى أرض بدوية مترامية الأطراف يجوبها المحاربون، مع العجز التام عن قتال الكفار من كل وجه، وشدة ما يلاقيه أهل الدين والعلم والمستضعَفون من أذى المفسدين في الأرض المسلَّحين، فهي جائزة، وخصوصا عند الاضطرار.
والكلام هنا إنما هو في أهل الحرابة، دون البغاة والخوارج، إذ لا دولة في البلد حتى يُخرج عليها، ولا إمام، ولا بيْعة ولا سلطان.
ومن هنا رأى الشيخ سيديَ بابه أن قتال المحاربين أوْلى من قتال النصارى المحتلين المعجوز عن مواجهتهم بالقوة. فمحاربو اليوم هم محاربو أمس، ولا فرق. ومعلوم أنهم لم يكونوا ينتظرون فتوى ليوقِعوا بمن قدَروا عليه، بل هم على ما كانوا عليه من الاستمرار فى الظلم والبغى، واستمراء القتل والنهب.
وقد أفتى بذلك علماء قبله من أهل هذه البلاد وغيرها. وتكلم الفقهاء في هذه المسألة كلاما يطول جلبُه. والخلاف قائم بينهم في أيّ الفريقين أوْلى بأن يُجاهَد أوَّل؛ والمسألةُ ترجع إلى اجتهاد العلماء العارفين بحقيقة الحال.
من أقوال السادة المالكية في أوْلوية جهاد المحاربين
وحكم الاستعانة بالكفار عليهم في بلد لا سلطان فيه:
يقول الشيخ خليل فى مختصره: «المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك، أَوْ أخذِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ، وَإِن انْفَرَدَ بِمَدِينَةٍ، كَمُسْقِى السَّيْكُرَانِ لِذَلِكَ، وَمُخَادِعِ الصَّبِىّ أَوْ غَيْرِهِ لِيَأْخُذَ مَا مَعَهُ، وَالدَّاخِلِ فِى لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فِى زُقَاقٍ أَوْ دَار قَاتلَ لِيَأْخُذَ المال، فَيُقَاتَلُ بَعْدَ الْمُنَاشَدَةِ إنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُصْلَبُ فيقتل، أو ينفى الحر: كالزنا، والقتل، أَوْ تُقْطَعُ يَمِينُهُ وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى وِلَاءً. وَبِالْقَتْلِ يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَوْ بِكَافِرٍ، أَوْ بِإِعَانَةٍ وَلَوْ جاء تائبا. وليس للولىّ العفو…إلخ».
قال فى مِنَح الجليل: «ابْنُ عَرَفَةَ: فِى الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ: مَنْ خَرَجَ لِقَطْعِ السَّبِيلِ لِغَيْرِ مَالٍ فَهُوَ مُحَارِبٌ، كَقَوْلِهِ: لَا أَدَعُ هَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ إلَى الشَّامِ أَوْ إلَى مِصْرَ أَوْ إلَى مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ وَأَخَافَهُمْ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا نَائِرَةٍ». (9/336).
وفيه: «ابْنُ عَرَفَةَ الشَّيْخُ عَن الْمَوَّازِيَّةِ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ: مِن الْمُحَارَبَةِ، أَنْ يَغْتَالَ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا فَيَخْدَعَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ مَوْضِعًا فَيَأْخُذَ مَا مَعَهُ فَهُوَ مُحَارِبٌ».
وفيه: «الْمُحَارِبُ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ عَلَى غَيْرِ نَائِرَةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ، أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا، أَوْ أَخَاف الْمُسْلِمِينَ».
ومن مِنَح الجليل أيضا: «وَفِيهَا، يعنى المدونة، جِهَادُ الْمُحَارِبِينَ جِهَادٌ. ابْنُ شَعْبَانَ: جِهَادُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَلِابْنِ رُشْدٍ مِنْ نَوَازِلِ أَصْبَغَ: جِهَادُ الْمُحَارِبِينَ جِهَادٌ عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ رَضِى اللَّهُ تَعَلَى عَنْهُمْ. أَشْهَبُ عَنْهُ: مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ وَأَعْظَمِهِ أَجْرًا، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِى اللَّهُ تَعَلَى عَنْهُ، فِى أَعْرَابٍ قَطَعُوا الطَّرِيقَ: جِهَادُهُمْ أَحَبُّ إلَىّ مِنْ جِهَادِ الرُّومِ. قَالَ فِى الْمُدَوَّنَةِ: حُكْمُ الْمُحَارِبِ فِيمَا أَخَذَ مِن الْمَالِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، بَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهَا بِمُجَرَّدِ الْإِخَافَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا. بَلْ بِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ إخَافَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ».(9/340).
قال العلامة الدردير فى الشرح الكبير: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وأفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِ خِلَافِيَّةٌ. وَالنَّظَرُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ. فَإِنْ اسْتَوَيَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ». (2/173). ونقل أفضلية قتال المحاربين على قتال المشركين عن ابن عبدالسلام: (1/173). ونقلها الشيخ سيديَ بابه عن ابن فرحون فى تبصرته، وعن البنانىّ.
نماذج من فتاوى علماء البلاد في الحرابة
1- فتوى للعلامة البحرِ الشيخ سيِّدى المختار الكنتىّ، يجيب بها السائل عن حكم الأموال المأخوذة من أيدى المحاربين واللصوص، وهل بين اللص والمحارب فرق؟ وعلى كونهما متغايريْن، ما لمن استنقذ شيئا من أيديهم؟ وما الفرق بين المال الميئوس منه والمرجو؟ فجاء فى هذه الفتوى، بعد كلام طويل فى المسائل المستفتَى عنها، ما محلُّ الغرض منه:
«وكان ابن شعبان يرجّح هذا المأخذ، ويجعل من سبيل الفساد أخذَ مال من هو فى سواد الإسلام بالباطل، أو تخويفَ أهل الإسلام، كبعض قبائل البربرية، فجعلهم كالكفرة، متمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من حمل السلاح علينا”، وقولِه: “سبُّ المؤمن فسق وقتلُه كفر”. فأطنب فى ذلك حتى أباح استرقاقهم، حتى إنهم لا يخلُون من أمرين: إما أن يكونوا قد أسلموا قديما ثم ارتدوا أو تزندقوا، فيكونون كالقرامطة أو بنى عبيد الذين اتفقت علماء عصرهم على وجوب قتلهم، وجواز استرقاقهم لابتداعهم وانتهاكهم الحرمات وتضييعهم الأحكامَ، مع تقلُّبهم، حتى أراح الله منهم بالجُدرىّ المفرط والسَّنة المستأصِلة لشَأْفتهم. ولا يكونون أسوأ حالا من هذه القبائل المتجردة لنهب الأموال وسفك الدماء وتضييع الفرائض ورفضِ الأحكام الشرعية، شاهدين على أنفسهم بالكفر. فيقولون للمسلمين في المحاورة: أنتم مسلمون تفعلون وتفعلون. ويقولون: نحن لا نضرّ المسلمين، وإن قدروا على مسلم يبيعونه للنصارى، وهم مع ذلك ينطقون بالشهادتين!.
وكان ابن بشير يُجرى في أمرهم من الأحكام ما يُجرى على الحَرْبيّين، حتى قيل: لا خلاف أن جهادهم أفضل من جهاد الروم بدارهم. وأما إذا دهمونا فى أرضنا فجهادهم أفضل، لأن العدو المتصل أكثر ضررا من العدو المنفصل. وقد يأمَن المسلم المسافر فى أرض الروم على دمه وماله أكثر منه فى بلاد تلك القبائل الطاغية الرافضة للإسلام. بل السفر إلى أرضهم حرام، للتغرير بالنفس والمال من غير عظيم فائدة، ولمِا يراه عندهم من المناكر التى يجب تغييرها… إلخ»[[1]] .
2- فتوى للعلامة محمد أحمد بن سيدي إبراهيم بن أحمد رمظان الغلاويّ يقول فيها: «أمور يعلم الواقف عليها حكمَ المحاربين من وجوب قتْلٍ وعدمِه، وهل يُغْرَمون ما أخذوه؟ وهل لجماعة المسلمين قتالُهم إن عُدِم الإمام ونائبُه معا؟ وهل يجوز العفو عنهم؟ وهل تسقط حقوق الآدميين من سقوط القَوَد من مكافئ وقيمة مالٍ وديَة ذمِّىٍّ؟ وهل تثبت الحِرابة بالسماع؟
فالجواب عن الأول: أن قتال المحاربين واجب كقتال المشركين، لقوله تعلى: “إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله”… الآيةَ. واستووا فى الرخصة مِن تقسيم الناسِ طائفتين حالَةَ القتال. قال شراح خليل فى قوله: “ورخّص لقتال جائر”: أى مأذونا فيه واجبا ، كقتال المشركين والمحاربين والبغاة القاصدين الدمَ.
واختُلِف أيهما مقدمٌ؟ فقيل بتقديم أهل الشرك، لأن فسادهم لا يعادله فساد. وعلى هذا درج خليل بقوله: “وإن خاف محاربا”. وقيل بتقديم الآخَر، لقول مالك فى أَعرابٍ قطعوا الطريق وأخافوا السبيل: “جهادُهم أحبُّ إلىَّ من جهاد الروم”. وقال بمثل ما قال ]مالك[ ابنُ شعبان. لكنْ محل الخلاف بينهما وبين الغير إذا لم يكونوا أشدَّ ضررا، كقاعدة “إذا التقى الضرران نُفىَ أصغرُهما”. ورفعُ الضرر عن المسلمين فرضُ كفاية.
وفى المدونة: “جهادُ المحاربين جهاد”. إلى أن يقول: “المسألة الثالثة: أن جماعة المسلمين تقوم مقام الإمام ونائبه عند عدمهما. ذكروه عند قوله فى فصل التيمم: وعَطش مُحترَم معه”. ونصوا أنها تقوم مقامه ولو فى الحدود.
المسألة الرابعة: هى أنه لا يجوز للولىِّ، أىْ ولىّ القتيل، وأحرى الإمام، العفوُ، لأنه حقٌّ لله تعلى، ولا يجوز لمخلوق إسقاطُه… إلى أن قال: المسألة السادسة أن الحرابة تثبت بالسماع الفاشى، نص خليل عليه فيما يثبُت به في باب الحرابة، قال آخرَها: ولو شهد أنه المشهور بها ثَبتتْ”.
ثم عرّ ف الحرابة على نحو مما تقدم نقله من شراح خليل. ثم قال: “فإذا علمتَ وتأملت ما مَرَّ لِي، اعلَمْ وتأمَّل أن من أفتى وحَكَم بإباحة مال المسلمين المعصومين، للمحاربين المغتالين بالدوام، على مَرِّ الليالى والأيام، فهو زائغ عن الهُدى وقريبٌ من الردة، لأنه إما جاهلٌ، والقضاءُ عليه حرامٌ، ويجب عليه امتثالُ قوله تعلى: “ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ… إلى أن قال: “وأما قول خليل آخرَ الدماء: (وإن تأوَّلوا)، فهو ليس بحُجة لمن احتج به. لأن التأويل هنا أن يَظن كل فريق جوازَ قتال الآخر لفساد دينه، كقتال علىٍّ، كرَّم الله وجهَه، للخوارج فهَدَرٌ فيما أتوا عليه من الأموال والدماء فى القتال. ولا يَحِلُّ من مالهم إلا أخذُ ما يُقاتَل به، ويُردُّ إذا استُغنىَ عنه، لأنه فى غير المحاربين، لأنهم لا تأويلَ لهم فى دماء المسلمين، لعدم عذرهم، ووجوب التوبة عليهم فيسقطَ قتالُهم. وقال فى الباغية: “ولم يضمَن متأوِّلٌ أتلف مالا أو نفسا”. قال شارحُه محنض بابه الديمانىُّ: “إلا الخوارج إذا تابوا ورجعوا، وُضعت الدماءُ عنهم، ويُؤخذ منهم ما وُجد بأيديهم من المال بعينه، وأما ما استهلَكوا لم يُتْبعوا به، ولو كانوا أغنياء، لأنهم متأوِّلون بخلاف المحاربين.
وقد علِمتَ من هذا أن المحاربين ليسوا كغيرهم. وعدمُ ضمان المتأوِّلين إنما هو ترغيبٌ فى الرجوع إلى الحق. ولذلك أهدرت الصحابةُ الدماء التى كانت فى حروبهم. أما غير المتأول، وهو الباغى الخارجُ عِنادا، فيؤُخذ بالقصاص فى النفس ورَدِّ المال»[[2]]. انتهى نص الفتوى.
ومراده بالباغى الخارج عنادا: المحارب، لا البغاة الخارجون على الإمام تأولا. كما لا يخفى.
مسألة العجز عن الجهاد
لا خلاف بين جميع علماء المسلمين أن العجْز عن الواجب مسقط لوجوبه، أيا كان ذلك الواجب، لقوله تعلى: “لايكلف الله نفسا إلا وسعها”، وقوله صلى الله عليه وسلم: فيما صحّ عنه:”اكلفوا من العمل ما تطيقون”. فالله عز وجل لا يكلف الأمة إلا بما تستطيع، ولا يحمّلها إلا ما تطيق. وحكم الواحد كحكم الجميع، فكل من عجَز عن واجب عجزا حقيقيا سقط عنه، كالأعمى والمريض والأعرج، يسقط عنهم الجهاد بالنصّ، وكفاقد الماء أو من يضرّ به استعماله يسقط عنه الوضوء والغسل، وكالقيام في الصلاة يسقط بالعجز عنه، بل يسقط الجلوس كذلك… إلخ. وهو باب لا ينحصر.
وفى سياق الجهاد بالذات يقول الله تعلى: “لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ”.
قال القرطبيُّ في تفسيره عند هذا الموضع: «قَوْلُهُ تَعَلَى: “لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ” الْآيَةَ، أَصْلٌ فِى سُقُوطُ التَّكْلِيفِ عن العاجز، فكل من عجَز عن شيء سَقَطَ عَنْهُ، فَتَارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ فِعْلٌ، وَتَارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ غُرْمٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَجْزِ مِن جِهَةِ الْقُوَّةِ أَوِ الْعَجْزِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِ». اهـ
وفى شرح الخرشيّ على خليل، فى الجهاد: «قَالَ فِى الْجَوَاهِرِ: وَيمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ بِالْعَجْزِ الْحِسِّىّ وَبِالْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا يُخَاطَبُ مَرِيضٌ وَلَا صَبِىٌّ وَلَا مَجْنُونٌ وَلَا أَعْمى وَلَا أَعْرَجُ وَلَا أُنْثَى، وَلَا عَاجِزٌ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ شِرَاءِ سِلَاحٍ وَمَا يَرْكَبُهُ وَمَا يُنْفِقُهُ فِى ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ». (3/111).
ومن نافلة الكلام، أن فضل الجهاد فى سبيل الله لا يختلف عليه مسلمان، وأنه ذروة سنام الإسلام، وأن الله تعلى فضل المجاهدين على القاعدين، وأن الشهداء عند الله عز وجل فى المنزلة الرفيعة، لهم أجرهم ونورهم… ومن المعلوم أيضا أن جهاد الدفع فرض على الأعيان، وأنه لا يُشترط فيه شيء من شروط جهاد الطلب، فمن هجم عليهم العدو الكافر تعين عليهم الدفع عن أنفسهم، إن قدَروا، وأنهم إن عجَزوا تعيَّن على من يليهم من المسلمين نُصرتُهم إن استطاعوا أيضا، وأن للمسلمين عند العجز عقدَ الهدنة والصلح مع الكفار، وأن ذلك لا يكون إلا لمصلحة الإسلام والمسلمين، فهو جائز عند الحاجة، من ضعف وعدم ناصر وصريخ…
حكم جهاد الدفع فى وضعية البلاد لذلك العهد
إن قيل إن أهل هذه البلاد هجم عليهم العدو الكافر، أفلَا يكون واجبا عليهم أن يتصدَّوْا له، ويجاهدوه جهادَ الدفع الذي لا يُشترط فيه شيء من شروط جهاد الطلب؟
فالجواب أن هذا هو واجبهم إجماعا، لو كانوا قادرين على دفع الاحتلال بالقوة، وكذا لو لم يكونوا متقاتلين متحاربين فيما بينهم، مختلفي الأهواء ومضطربي الأحوال، بلا سلطان ولا أمير يوحِّد كلمتهم – ففاقدُ الشيء لا يعطيه – وإن كان كثير من العلماء لا يشترطون الإمام لجهاد الدفع. بل فى اشتراطه لجهاد الطلب نزاع معروف.
لقد دخل الفرنسيون البلاد وكثير من الحروب القبلية ما زال قائما، فضلا عن آثارها المدمرة التي أنهكت القبائل والإمارات والمجموعات والأسر الأميرية حتى أصبح كثير من العلماء والأعيان يبحثون عن مخلّص يخلّص البلاد والعباد من هذه الويلات، وينقذها من هذه الطامات.
وقد أُثِر عن الشيخ سيديَ بابه نفسِه أنه كان يسأل الله ليلا ونهارا أن يتيح لهذه البلاد قوة توقف نزيف الدماء بين أهلها، وأنه بعد مجيء الفرنسيين ندم على أنه لم يكن يقول فى دعائه: “قوة مسلمة”. والحق أن قوة مسلمة مؤهَّلة للقيام بتلك المهمة لم تكن بالموجودة بَداهةً في ذلك الوقت! وقديما أقسم والدُه قبل دخول الاستعمار بدهر، وهو من أكبر دعاة الجهاد: إن الموت ودفع الإتاوة والجزية… خير مما يلقاه أهل الدين الحنفاء من ذلة وهوان:
لا الموتُ خيرٌ والإتاوةُ والجِزَى–من مِثْلِ ذَا مِن ذِلَّةِ الحُنَفَاءِ!
قال الإمام محمد بن أبى زيد القيروانيُّ في “النوادر والزيادات”: «قيل لسحنون: فلو نزل العدو بسوسة أينفِر إليهم أهل سفاقس والمنستير، وهم يخافون أن يخالفهم العدو إلى مواضعهم؟ قال: إن خافوا ذلك حذراً، بغير معاينة مراكبَ ولا خبر، فلهم النفير. وإن اشتد خوفهم مثل أن تنزل لهم مراكب وشبه ذلك فليقيموا بموضعهم». (3/19-20).
وشرحا لقول خليل بن إسحق المالكىّ فى مختصره: «وَتَعَيَّنَ بِفَجْءِ الْعَدُوّ، وَإِنْ عَلَى امْرَأَةٍ، وَعَلَى مَن بقُربهم إن عجَزوا، وبتعيين الإمام. وَسَقَطَ بِمَرَضٍ وَصِبًا وَجُنُونٍ وَعَمًى وَعَرَجٍ، وَأُنُوثَةٍ، وعجْز عن محتاج له…إلخ»،
قال المواق فى التاج والإكليل: «(وتعيَّن بفَجء العدو): ابن عرفة: قد يَعرِض لفرض الكفاية ما يوجبه على الأعيان.
التلقين: قد يتعين في بعض الأوقات على من يفجؤهم العدو.
سحنون: إن نزل أمر يُحتاج فيه إلى الجميع كان عليهم فرضا، وينفر من بصفاقس لغوث سوسة، إن لم يَخَفْ على أهله لرؤية سفن، أو خبر عنها.
(وإن على امرأة): من النوادر: يَخرُج لمتعيِّنه مُطِيقُه ولو كان صبيا أو امرأة.
أبو عمر: يتعين على كل أحد إن حل العدو بدار الإسلام محاربا لهم، فيخرج إليه أهل تلك الدار خفافا وثقالا شبانا وشيوخا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مُكتَرٍ. وإن عجَز أهل تلك البلاد عن القيام بعدوهم كان على من جاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة.
وقال ابن بشير: إذا نزل قوم من العدوّ بأحد من المسلمين وكانت فيهم قوة على مدافعتهم فإنه يتعين عليهم المدافعة. فإن عجَزوا تعيَّن على مَن قرُب منهم نُصْرتُهم»ـ (3/348).
وقال أبو الحسن علىّ بن محمد اللخمىّ فى التبصرة: «وقد يتعين الجهاد بأن ينزل العدو بقوم، وبهم قوة على قتالهم، فيجب على من نزل بهم القتالُ، ولا يجوز لهم التركُ ويُلقوا بأيديهم. ويجب على من لم ينزل به العدوّ، إذا كان من نزل بهم غير قادرين على قتالهم، وكان متى نفَر إليهم هؤلاء استنفروهم إلا أن يكون على بُعْد متى نفَروا إليهم لم يدركوهم إلا بعد فُصولهم عنهم…». (3/1341/ط قطر1432ه).
وقال فى الشرح الكبير: «وَتَعَيَّنَ عَلَى مَن بِمَكَانٍ مُقَارِبٍ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ إنْ عَجَزَ مَنْ فَجَأَهُمْ الْعَدُوُّ عَن الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَحَلُّ التَّعَيّنِ عَلَى مَن بِقُرْبِهِمْ إنْ لَمْ يَخْشَوْا عَلَى نِسَائِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ مِنْ عَدُوٍّ بِتَشَاغُلِهِم بِمُعَاوَنَةِ مَنْ فَجَأَهُمْ الْعَدُوُّ، وَإِلَّا تَرَكُوا إعَانَتَهُمْ». (2/175).
فترى هؤلاء الأئمة لم يوجبوا القتال على من دهمهم العدو وهم عاجزون عن قتاله، لأن القدرة شرط في ذلك، وفي كل أمر مشروع، كما تقدم. ولكن يتعين في هذه الحال على من يليهم من المسلمين أن ينصروهم إن استطاعوا أيضا. فإن كان يلحق هؤلاء ضرر في نسائهم وبيوتهم، إن نصروا من دهمهم العدو، سقط عنهم، كما قال الدردير هنا في الشرح الكبير.
والواقع أن البلاد المجاورة لموريتانيا محتلة حينذاك، وما لم يُحتل منها بالفعل فهو كالمحتل، وكذا البلاد الإسلامية البعيدة منها.
وفي الحال العادية يجب على من عجزوا عن دفع العدو عن أنفسهم أن ينصرهم من يليهم، كما سبق، فإنْ عجَز أولئك تعيَّن على من يليهم، وهكذا إلى آخر مسلم قادر فى مشرق أو مغرب. فإن فرّطوا أثم الجميع؛ وهذا مما لا شك فيه. ولكن كان لكل بلد يومئذ شأن يغنيه. فالكلام هنا في واقعة معينة محددة بزمانها ومكانها وسائر ملابساتها… لا عن الحكم العام الأصليّ الذى لا نزاع فيه.
ومن قام بواجب النصرة مخلصا لله تعلى قاصدا إعلاء كلمته وإعزاز دينه وإقامة خلافة إسلامية فى أرضه فهو المجاهد المأجور حقا.
والذى خشيه الشيخ سيدىَ بابه، ليس الجهاد المعجوز عنه فحسبُ، وإنما هو اتخاذ أهل الحرابة والسيبة – الذين استمرءوا القتل والنهب منذ قرون في هذه الأرض السائبة – الجهادَ ذريعة إلى استئصال شأفة المسلمين، بقتلِ من شاءوا وسبي من شاءوا واستباحة أموال من شاءوا، باسم الجهاد، كما صرح بذلك فى رسائله، خصوصا رسالتَه الواردةَ في مقدمة الحلقة الرابعة من هذه السلسلة.
وفعلا حصل من ذلك ما حصل، للأسف.
كما كان على اطلاع واسع على أحوال المسلمين في كثير من الأصقاع، مدركا عجز المسلمين آنذاك عن نصرة بلاده. وهذا ما أدركه بعض من هاجروا واطلعوا على الأحوال ممن كانوا قد خالفوه من قبل، فرجعوا إلى قوله.
فما أفتى به الشيخ سيديَ بابَه من المهادنة وترْكِ الدفع المعجوز عنه آنذاك ليس من الموالاة في شيء، وهو عين ما أفتى به الفقهاء المذكورون أعلاه. وقد أفتى به بعض من جاء بعده كالشيخ محمد الأمين الجكنىّ المشهور بالشيخ آبه ولد اخطورْ، كما سبق إراده في إحدى الحلقة الخامسة، ولعل في إعادة إيراده هنا فائدة للقارئ.
يقول الإمام العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكنىُّ الشنقيطيُّ، في جوابه للسائل عن حكم تولية الكفار المحتلين بلاد المسلمين بعض المسلمين على بعض: «وأما إن كان المسلمون الذين تغلَّب عليهم الكفار لا صريخ لهم من المسلمين يستنقذهم بضمهم إليه, فموالاتُهم للكفار بالظاهر دون الباطن لدفع ضررههم جائزة، لنص القرآن العظيم، وهو قوله تعلى “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة”؛ وكذلك توليتهم بعض المسلمين على بعض في الجاري على أصل مذهب مالك ومَن وافقه من أن شرع من قبلنا شرع لنا إن ثبت بشرعنا إلا لدليل يقتضي النسخ.
وإيضاح ذلك أن نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام طلب التولية من ملك مصر وانعقدت له منه وهو كافر كما قال تعلى حكاية عنه “اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم”، فلو كانت التولية من يد الكافر المتغلب حراما غير منعقدة لما طلبها هذا النبي الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم من يد الكافر ولما انعقدت له منه, ويوسف من الرسل الذين ذكرهم الله في سورة الأنعام بقوله: “ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف” الايةَ, وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم حيث قال له بعد ذكرهم، عليه وعليهم صلاته وسلامه، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده”، وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم أمر لنا لأن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يتناول الأمة من جهة الحكم، لأنه قدوتهم إلا ما ثبتت فيه الخاصية بالدليل على ما ذهب إليه أكثر المالكية وهو ظاهر قول الإمام مالك»[[3]] .انتهى كلام الشنقيطي.
ذِكْرُ بعض مَن وافق الشيخ سيديَ بابه في فتواه
هذه قائمة ببعض قادة الزوايا والأفارقة الذين هادنوا الفرنسيين، على غرار ما قام به الشيخ سيديَ بابَه والشيخُ سعد أبيه:
الشيخ سيدي المختار بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، سيدي محمد بن الداه ابن داداه، شيخنا بن داداه، الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمدُّ بن سليمان، أبو مدين بن الشيخ أحمدُّ بن سليمان، المرابط بن أحمد زيدان الجكني، عبد الرحمن بن محمذ فال بن متالي، امحمد بن أحمد يوره، سيدي الخير بن الشيخ محمد فاضل، ابنا أخويه الشيخ التراد والشيخ النعمة، يحظيه بن عبد الودود، أحمد بن ألفق (الفقيه) قاضي تجكانت، الداه بن ازياد الجكني، الشيخ الغزوانِي البوصادي، الطالب محمد ابن اخليفه العلوي، أحمد بن محمدن بن حمدى رئيس إدوالحاج، محمذن بن محمد فال ابن العاقل قاضي المذرذره، سنَّاد بن محمدن الديماني، المهابه بن الطالب إميجن الجملي، محمذن فال بن أحمدّ فال التندغي، سيدي محمد رئيس كنتة، محمد محمود الملقب ديده بن محمد محمود بن لمرابط حبيب الله بن القاضي الإجيجبي، قاضي البراكنة، الناجي بن الشيخ محمد فال رئيس إديلك، محمد بويه بن الطالب أبو بكر بن أحمد المصطفى رئيس أهل ولاته، دنان بن أحمد محمد رئيس إديلبه، جماعة أهل ولاته، حسبما كتَب باسمها سيدي محمد بن عثمان، مقدم في الطريقة التيجانية، اكيك بن عالَ، الشريف الولاتي، سيدي محمد بن بولبات الولاتي، محمد الأمين بن عبد الله الولاتي، عمر بن باب بن ألفا أبي بكر دري الحاجي التينبكتي، سعيد بن خداد بن عبد الرحمن البيوط التينبكتي، الشيخ بن سيدي بن بابه التينبكتي، الحاج مالك سي، أحمد مختار ساخو قاضي بوكي، محمد صار تامسير، الحاج أحمد البكري اديالو، الشيخ حال كي التيجاني، الشيخ بقى الله مامادو التيجاني، الشيخ خودجا ادياتارا التيجاني، الشيخ مامادو مورا التيجاني، الشيخ مامادو سيسى القادري، الشيخ أبو كان، الحاج عبد الله انياس…
وفي فترة وجيزة، انضم لهذه القائمة من الزوايا وحسان من لا يعلم عددهم إلا الله، ثم بعد ذلك انضم الجميع للقائمة وخضع للفرنسيين، إلا قليلا ممَّن كان يشعر بأن بينه وبينهم أمرا أخطر من أن يُصطلح عليه، أو مَن طلب مصالحتهم ورفضوها.
وجدير بالذكر أن جميع علماء منطقة “القبلة” الذين عُرضت عليهم فتوى الشيخ سيديَ بابه المذكورة قد سلموها أيضا. وكان الشيخ العلامة محمد سالم ابن عبد الودود (عدود) يقول إنه لا يعلم أحدا من علماء أرض “القبلة” عارض الشيخ سيديَ بابه في موقفه من قضية الاستعمار.
وكان أبناء ما يابى الجكنيون العلماء الأجلاء: الشيخ محمد حبيب الله، الشيخ محمد الخضر، الشيخ محمد العاقب. قد خالفوا الشيخ سيديَ بابه أولَ الأمر، وأفتوا بوجوب الهجرة، وهاجروا بالفعل، ثم راسلوا الشيخ شعرا ونثرا معلنين تصويبهم لرأيه وموقفه، وأنه عين النصيحة للإسلام والمسلمين. وذلك بعد أن عاينوا أحوال العالم الإسلاميّ شرقا وغربا، على ما تقدمت الإشارة إليه.
وكذلك كان الشيخان الجليلان: سيدي محمد ابن حبت الغلاوىّ، الذي خالفه باديَ الرأي، ثم وافقه وصوَّبَ رأيه إثر رسالة وجهها إليه الشيخ سيديَ بابه عارضا فيها خلاصة أدلته. وكذلك العلامة الفقيه عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسيّ، الذي لم يوافق الشيخ على المهادنة في البداية، لكنه بعد السفر إلى بعض المناطق الشمالية واطلاعه على بعض الأحوال عدل عن موقفه، واستصوب موقف الشيخ سيدىَ بابه.
ونفس الموقف تبناه الشيخ أحمدُّ بمْبا البكي بعد أن كان أبعد ما يكون بالنسبة له، مما أدى بالفرنسيين لتغريبه في الغابون ووضعه في فترة لاحقة رهن الإقامة الجبرية لدى الشيخ سيديَ بابه. والقائمة تطول، كما سيأتي مفصَّلا في محله، إن شاء الله تعلى.
عرض فتوى الشيخ سيديَ بابَه على أقوال العلماء
كلُّ ما ذهب إليه الشيخُ سيديَ بابه في فتواه بمهادنة الكفار، تهدئةً للأوضاع، وبحثا عن حدّ أدنى من الأمن، وقولِه إن قتال المحاربين أوْلى، إنما كان من باب ارتكاب أخف الضررين، كما نص عليه فى رسائله السالفة الذكر. وتقدير ذلك راجع إلى الاجتهاد والنظر المصلحىّ، كما رأينا.
ومهما يكن من أمر فهناك بعض الملحوظات الواردة حول هذه النقطة بالذات:
- أن والدَه الشيخ سيدي محمدا حشر هؤلاء المحاربين مع النصارى، أو الروم، فى خانة واحدة، بجامع أَسْر الدين وتكبيله ومنْع قيام دولته، وأنه أوجب قتالهم بالدرجة نفسها التى أوجب بها قتالَ النصارى. ولا شك أن محاربَ الدين كافر بإجماع:
ولوْ في المسلمين اليومَ حُرٌّ–يَفُكُّ الأَسْرَ أوْ يَحْمِي الذِّمَارَا
لَفَكُّوا دينَهم وحَمَوْه لَمَّا–أرادَ الكافرون به الصَّغَارَا
حُمَاةَ الدين إنَّ الدين صارا–أسيرا للصوص وللنصارى
فإنْ بادرتموه تداركوه–وإلا يسبقِ السيفُ البِدَارَا… إلخ
ويقول أيضا إن هؤلاء المحاربين لا يخافون قوةً عند أهل الإسلام ترْدعُهم في الدنيا، ولا يخافون العقبى، فلا سلطان يزَعُهم في العاجل، ولا هم مشفقون من الآجل، وأن ضررهم استطار فعمّ المقيم والمسافر والشّيبَ العاكفين في المساجد والعُونَ والعَذارى من النسوان في البيوت والمَجامع:
لصوصٌ لا تخاف البأس منكم–ولا العُقبَى فترضَى أن تُدارى
ولا ينجو مقيمٌ من أذاهمْ–ولا ابنُ تَنَائِفَ اتخذ السِّفارا
ولا شِيبٌ عكوفٌ في المصلَّى–ولا عُونُ النساء ولا العَذارى…
وما ذكره هنا من انتهاكهم حرمات المساجد صوّره أيضا فى همزيته، وأضاف إليه ترويع المصلين فيها بشهر السلاح في وجوههم، وحملهم على الفرار منها، بل ومنعهم من الصلاة أحيانا حتى يفتدوا منهم بفداء:
وترى جماعة مسلمين بمسجد–شُمَّ الأنوف أعزةَ الآباء
إلى أن يقول:
وَلَرُبَّمَا مَنَعُوكُمُوهَا عَنْوَةً–حَتَّى افْتَدَيْتُمْ مِنْهُمُ بِفِدَاءِ
2- أن تصرفات العصابات المذكورة، عند كثير من العلماء، تعدّ استحلالا للمحرم، لأنها تصرفات متوارثة عبر الأجيال يورثها الأب لابنه، وتنشأ عليها الأسَر، ويتربى عليها الأطفال، ويمجدها القوم، ويعتزون بها، وتقوم عليها حياتهم من كل وجه، حتى أصبحت كالعادات الجارية، فتدخل فى باب استحلال المحرمات القطعية بلا شبهة، فيكفر مرتكبها بذلك. وقد ذهب إلى هذا الرأى بعض الزوايا تصريحا أو تلميحا.
3- أن العلامة سيدي محمد بن سيدى عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوىّ حَكَم بكفر تلك الطائفة، فى نظم له شهير.
4- أن حرب شرببه، التي هي أعظم حرب وقعت بين الزوايا وحسان، كانت ذاتَ طابع ديني.
5- أن جميع محاولات القضاء على السيبة قد أخفقت، وأنه لم يُجْدِ فى أصحابها وعظ ولا نُصح، فإما أن يقبل المرء الهوان والجزية، وإما أن يُسفَك دمه وتُسبَى نساؤه وتُنْهب أمواله!
6- أن طائفة من علماء البلد وغيرهم رأت أن قتالهم أولى من قتال الكفار.
وعلى كل حال، فهذه الطائفة المذكورة لا تخرج عن احتمالين:
إما أن يكونوا كفارا حسب ما يرى بعض العلماء فى ذلك العصر، والجمهور على جواز الاستعانة على قتالهم بكفار مثلهم.
وإما أن يكونوا محاربين، ولم يوجَد مَن يكبَح جِماحَهم ويوقِفُ ضررَهم عن المسلمين، وأهلُ البلد السائب فى حالة ضعف وتفكك، بلا جماعة متحدة الكلمة ولا إمام، مع تعذر الهجرة وعدم الناصر والصريخ من المسلمين، فالاستعانة عليهم بالكفار عند جماعة كبيرة من العلماء جائزة أيضا للضرورة.
وفى أفضلية تقديم قتالهم على قتال المشركين نزاع بين العلماء، وكثير منهم على أن قتال المحاربين أوْلى. كما تقدم.
فكانت الاستعانة عليهم بالعدو المخالف في الدين على كلا التقديرين، للضرورة، قولا له مستنده الشرعىّ، فضلا عن أن يكون خارقا للإجماع. وما كان كذلك لم يسُغ الإنكار على من أفتى به من المجتهدين، كما هو معلوم. وفي ذلك يقول العلامة محمد حبيب الله بن ما يابى مخاطبا الشيخَ سيديَ بابَه ومصوِّبا رأيه من قصيدة له طويلة فى مدحه بعد ما هاجر:
وليس مُختارُ حبْرٍ لازِمًا عَمَلاً–لِذى اجْتهادٍ رأَى بالشرْع ما فَهِمَا.
بل ذهبت طائفة من العلماء إلى جواز الاستعانة بالكفار على البغاة المتأولين، فى حال الاضطرار أيضا، بشروط وضوابط. والفرق بين الباغية والمحاربين معروف. ولكن ليس الكلام هنا عن تلك الفئة الباغية التى تخرج على السلطان بتأوُّل، إذ لا سلطان فى البلد أصلا حتى يُخرج عليه بتأول أو بغيره. وإنما الكلامُ عن خصوص أهل الحرابة الذين يعيثون فى الأرض فسادا بغية تحصيل المال الحرام كيفما اتفق، ويسفكون الدم الحرام لأتفه الأسباب، بل لغير سبب أحيانا كثيرة، وينتهكون الأعراض، لأن الحرابة هى التكييف الفقهيّ الصحيح للمشكلة المزمنة التي كانت تعصف بالبلد في تلك العهود. وهي منطلق الشيخ سيديَ بابه في فتاواه المتعلقة بالاستعمار، ومناط الأحكام التي أصدرها بهذا الخصوص. وقد خاطبه أيضا الشيخُ محمد حبيب الله بن ما يابى الجكنىُّ، مشيرا إلى عين هذه المسألة، قائلا قبل البيت أعلاه:
وذَا التَّلَصُّصِ جازيْتَ الجزاءَ على–طِبْقٍ،فحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَمَا.
(يتواصل بحول الله).
للتواصل مع الكاتب
[email protected]
المصادر والمراجع