ختاما للمحاور الخاصة بالشيخ سيديَ بابه وموقفه، وتمهيدا للحديث عن الموقف الآخر المناوئ للفرنسيين، مرورا بمَن ذهَبَ أولَ الأمر إلى وجوب الجهاد ثم رأى بعدُ خلافَ ذلك، سيتم الحديث في هذه الحلقة عن بعض الجوانب العَمَلية لموقف الشيخ سيديَ بابَه؛ مع العلم أن هذه الحلقة تكاد في حجمها تضاهي مجموع الحلقتين السالفتيْن، وذلك تعويضا عما كان من توقيف السلسلة أسبوعا كاملا لأسباب صحية.
- مقدمة؛
- نماذج من شفاعات الشيخ سيديَ بابَه لدى الفرنسيين؛
- البعد الأمنيُّ في فتاوى الشيخ سيديَ بابَه وعلاقتِه بالفرنسيين؛
- رحلة الشيخ سيديَ بابَه إلى آدرارْ سنة 1909؛
- افرانسيس دي شاسي وثروة آل الشيخ سيديَ؛
- الشيخ سيديَ بابَه وحملة تكانت سنة 1905؛
- الشيخ سيديَ بابَه في الكتابات الفرنسية؛
- خاتمة.
كان الشيخ سيديَ بابَه، وغيرُه من القادة المهادنين، يروْن أنهم قد حصَلوا من المستعمر على ضمانات أساسية، تُشكِّل في مجموعها أمانا من الهواجس التي ظلت تساور المجتمع بعلمائه وقادته ودهمائه. بل رأى البعض أن في تلك الضمانات قيمةً مضافةً تمَسُّ حياة المجتمع الدينية والأمنية والمعيشية، ما كان ليحققها بنفسه في المنظور القريب.
وكغيره من قادة المهادنة والإصلاح، كان الشيخ سيديَ بابَه يركِّز على المسألة الدينية وعدمِ التدخل للناس في معتقداتهم وشعائرهم وأقضيتهم المحلّية، مع الالتزام باحترام تقاليد وعادات المجتمع وإكرامِ مشايخه وقادته وممثليه وقبولِ شفاعاتهم. ولما سأله المفاوض الفرنسي عن ذويه وعياله ليعامِلوهم معاملة تفْضيلية، أجابهم جوابَه المشهور: «عيالي هم المسلمون: كلُّ من يقول: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله».
وفي ذلك يقول القاضي القارئ العلامة محمدُ بن محمذن فال الأبياريُّ الأجهسيُّ في إحدى فخرياته:
هل تذكرون معي جوابَ رئيسنا–للحاكم المستعمرِ المَمْقُوتِ
إذْ قال: قَوْمي المسلمون جميعُهمْ–مِنْ غير تمييزٍ ولا تَفْويتِ
وستُبيِّن مراسلات الشيخ سيديَ بابَه مع الفرنسيين جانبا كبيرا من ذلك الاهتمام.
غيرَ أنَّ الشيخ سيديَ بابَه كان يتوقَّفُ ويُلِحُّ، أكثرَ من غيره، على المسألة الأمنية، التي يقول في أكثر رسائله إنه لا صلاحَ لدِينٍ أو دُنيا بدونها، كقوله في رسالته إلى أهل آدرارْ: «هذا وأكثر بلاد الإسلام الآن، والمعتبر منها للدين والدنيا تحت إِيَالة الأمم المسيحية، أين المَفَرُّ، ولا مَفَرَّ لهَارب، ولنا البسيطتان: الثَّرى والماءُ؟! على أن البلاد التي في حماية الأمم المسيحية اليوم هي التي يمكن فيها صلاح دين أو معيشة. ولا عبرة ببقائها سائبة قاحلة معمورة باللصوص المحاربين، لا تأمنُ فيها نفس المسلم ولا مالُه، ولا يتيسّر له فيها عِلمٌ ولا عمَلٌ، ولا يُنَبِّئُكَ مثلُ خبير»[[1]] .
ومن اللافت في هذا المعنى والجديرِ بالذكر، أن أحمدَ بن الأمين العلويَّ، صاحبَ الوسيط، كتَب من المشرق رسالة إلى ابن عمه القاضي العلامة السالك بن بابَه بنِ أحمد بيبه العلويِّ يقول فيها: «أما مَكَّةُ فإن القاطنين بها يتضرعون إلى الله بأنْ يُمَلِّك عليهم النصارى!! لما نالهم من ظلم الشريف. وختَم رسالته قائلا: وأما مصر فإنها تحت حكم الإنجليز، وأهلُها في غاية الراحة والأمن، إلا أن الشريعة فيها تُركت سُدى»[[2]] .
نماذج من شفاعات الشيخ سيديَ بابَه لدى الفرنسيين
أولُ رسالة كتبها الشيخُ سيديَ بابَه إلى السلطات الاستعمارية الفرنسية كانت مخصَّصة لطلب إطلاق سراح الشيخِ العالم الزاهدِ أحمدُّو بَمْبَا البَكِّي السنغالي، أو إرساله إليه في أبي تلميت وضواحيه، إن كان لابد من تقييد حريته وتغريبه، ليبقى بين يديه وفى ضيافته مُعزَّزًا. وقد غرَّبوه من قبلُ إلى الغابون زهاء سبع سنوات.[[3]]
ثم انضاف إلى الشيخ أحمدُّو بَمْبَا بعد ذلك كثيرٌ من أهل العلم والرئاسة والعامة. وهذه بعض الأمثلة المشهورة:
1– الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن الشيخ محمد المامي، وقصته في ذلك، كما ذكرها العلامة المؤرخُ هارون بن الشيخ سيديَ في الجزء المتعلق بأهل بارك الله من موسوعته التاريخية المسماة: “كتاب الأخبار”، هي كالتالي، مع تصرُّف بسيط:
«قام الفرنسيون مرةً بسَجْن أحد نبلاء قبيلة إديشلي لم يوصل إليهم ما قبض من العشر، فكسر السجنَ ودخل على محمد بن عبدالعزيز، فأرسل الفرنسيون أحد أعوانهم ليأتيهم به، فمنعه محمد بن عبدالعزيز وقال له: ارجع إلى الحاكم وقل له كم يطلب من المال عند هذا الرجل لنقضيَه له؟ فاشتد غضبه وأرسل رسولا آخر من الأسافل ليأتيه بمحمد بن عبدالعزيز نفسه، فلم يتجاسر الرسول على إبلاغ ذلك إليه وقال له إنه يريد الرجل، فكتب محمد بن عبدالعزيز رسالة إلى حاكم أطارْ، مضمونها أن الفرنسيين لم يجدوا أهل بارك الله في أرضهم يُظلَمون فيردوا عنهم، أو يَظلِمون فيردعوهم، وأنه ليس من عادتهم إسلامُ دخيلهم. فازداد غضب الحاكم واشتدَّ وراسل رئيسَه يستشيره في الإيقاع بهذا الرجل الفاضل ابن الأفاضل. لكن محمد بن المختار (والدَ همام افَّالْ)، وهو إذ ذاك ترجمان للفرنسين، وكان في زيارة لآدرارْ مع مودا، نائبِ والي موريتانيا، فعلِم ابن المختار بعزم الفرنسيين على تغريب محمد بن عبدالعزيز، فأسَرَّ للشيخ سيديَ بذلك. فسار هذا الأخير صباحا إلى حاكم أبي تلميت ليجد معه مودا، ولم يزَل به حتى ألغى طلبَ حاكم أطارْ ومزَّق أوراق إدانة محمد بن عبدالعزيز. وبعد مدة أتى حاكمَ أطارْ الأمرُ بترك القضية، فحزن وعاب رئيسَه ونسَبه لقلة العقل»[[4]].
2- الأمير سيد احمد بن أحمد ابن عيدة، الذي توجد مراسلات عديدة ودية بينه وبين الشيخ سيديَ بابَه، سيأتي بعضها في المحور المخصص للأمير وإمارته. يقول الضابط الفرنسي المترجم بول مارتي: «بعد اعتقاله وسَجنه بداكار… بدأ الأمير الشابُّ يتألم من وضعه ومستقبله الغامض، فبذل الشيخُ سيديَ جهودا لدعمه معنويا وماديا. فكان، مدفوعا بالحس الواقعي، من أوائل الذين نصحوا بإعادته على إمارة آدرار»[5 ] .
3- الأمير اعلي محمود ولد بورْسغ، وهو محمد محمود بن أحمد محمود بن المختار بن امحيميد، صديق الشيخ سيديَ بابَه، الذي سعى بنجاح إلى استرجاعه لرئاسته وبنادقه وخيْله. وقد ذكر هارون بن الشيخ سيديَ في تقييداته الموَّثَّقة أن الشيخَ سيديَ بابَه استبقاه ووَفْدَه تسْعَ ليال ليكرمهم ويجالس كبراءهم، وأن اعلي محمود أهدى الشيخَ فرَسَيْن عتيقتين تسمَّى إحداهما “باجْريْبَ” ورؤوسا من الإبل، معتذرا عن ذلك ومستقلا له، ومؤكدا في الوقت نفسِه، أنهم لم يعطوه لشيخ قبْلَه ولا شريف. وقد بعث له بعد ذهابه إلى الحوض رسالة يقول فيها “إني مبايعٌ لك على السمع والطاعة بما جاء به صاحب الشفاعة“. وكتب له في رسالة أخرى أنْ يَعُدَّه “تلميذا طائعا موافقا وصاحبَ غيب حافظا مطابقا”.[[6]]
وأورد بول مارتي، في كتابه حول قبائل الحوض، أن الشيخ سيديَ بابه طلب من الفرنسيين تزويد مشظوف بما يحتاجون من البنادق المتطورة للدفاع عن أنفسهم ففعلوا.[[7]]
4- الشيخ ولد عبدوكه، من أعيان مشظوف وأبطالهم، وقد حكم عليه الفرنسيون يوم 6 نوفمبر 1916 بالسجن عشْرَ سنوات مع أبيه محمد وأخيه الزوين، فنقلوا إلى مدينة لاكوتا بساحل العاج، حيث توفي محمد والزوين يومي 2 و 12 فبراير 1918، ثم حُوِّل الشيخ إلى سجن بجزيرة كوريه قرب داكار، ليعلم به الشيخُ سيديَ بابَه عن طريق تلميذ له من حراس السجن يُسمَّى Jeans Thiam (صَنك تام)، كان مسيحيا ثم أسلم على يده. فسعى الشيخُ سيديَ بابَه لدى السلطات الفرنسية لإطلاق سراح ابن عبدوكَه، لكنهم قبلوا، بعد لأْي، أن يذهب سنة 1920 إلى أبي تلميت ليقضي بقية مأموريته مُعزَّزا ومكرّما في ضيافة الشيخُ سيديَ بابَه.
5- بيرام ولد اهميمد، أحد رؤساء أولاد أحمد، وقد كان ممن عاهد الفرنسيين وقاد بعض جيوشهم المحلية، إلا أنهم سجنوه سنة 1907 في كولخ إثر مساعدته بكارْ بن احمياده، أمير أولاد نغماشْ على الهرب، فكان تدخُّل الشيخ سيديَ بابَه هو الذي أدى سنة 1908 إلى تخفيف عقوبته.[[8]]
6- بنْيوكْ بن أحمد بنانْ، من رؤساء أولاد طلحة.
7- محمد التسليمي الغيني، من ذرية كرنْ قُطُبُو (عبد القادر كرن قُطُبُو، تلميذ الشيخ سيديَ)، وكان مسجونا في نُواذيبو.
8- سيديا بن أحمد بن المختار بن قطرب، الأديب، وقد جلا عن الفرنسيين فأخذوه وسجنوه في نواحي تيمبكتو. وقد بعث من هناك قطعا من الشعر رائقة إلى اعلِي محمود بن لمحيميد المتقدم الذكر[[9]] .
9- عبد الله بن أحمد سالم بن اجكَّان التاشدبيتي، الذي سجنه الفرنسيون في أبي تلميت يوم 12 يوليو 1912.
10- السيد بن المختار بن الطالب وأحمد محمود بن محمد عبدالله بن آكَّه الأبياريان، (من أبناء عمومة الشيخ سيديَ بابَه)، وقد سجنهما الفرنسيون في المغرب، سبتمبر 1912، فعلم الشيخ سيديَ بابَه بذلك وسعى في إطلاق سراحهما ففعلوا.
إضافة إلى مجموعات قبلية كثيرة، ضاقت بها بعض ضائقات التعامل مع الوافد الاستعماري، كما وقع لقبيلة إدكَجْمَلّه من حبس رجالهم في مكان مشمس وأخذ أموالهم بجريرة ماجَرِيَاتِهم مع جيرانهم التركزيين، فقدم في ذلك القاضي العلاّمةُ المهابه بنُ الطالب إميجن، وهو إذ ذاك شابٌّ يطلب العلم في المحضرة، فأنشد الشيخَ سيديَ بابه داليتَه المشهورة، ومطلعها:
مَغْناكِ مَهْدَدُ هَدَّ رُكْنَ تَجَلـُّـدي–حاكِي الوِشامِ منَ آيِهِ المتبدد
في قصة مروية مشهورة، نال إثرَها رجالُ القبيلة خلاصهم وردَّ اعتبارهم وأموالهم.
وقد وفد إلى الشيخ سيديَ بابَه مرةً وفدٌ من أربعين رجلا من شرفاء قبيلة الرقيبات، برئاسة محمد ولد الخليل، إرادةَ إطلاق سراح ما يربو على العشرين من أبناء القبيلة، الذين أسَرَهُم الفرنسيون عند تيشيت.
يقول شيخ القصر (لكصر) السابق صيْلة ولد اعبيدة الرقيبي، وقد رافق الوفدَ نيابة عن والده المريض، ولما يتجاوز عمره وقتَها صوما أو صومين: «مكثنا شهرا كاملا في أقصى ما يكون من الإكرام ننتظر الجواب، حتى جاء الخبر ذاتَ صباح بأن الفرنسيين قد قبلوا وساطةَ الشيخ سيديَ بابَه وأطلقوا أَسْرانا جميعا. فودعناه وتزودنا بأحسن الزاد ورجعنا… إلى آخر تلك التفاصيل الشائقة.
وفي الصدد نفسِه، استشفعَ الكثير من المجموعات عند الشيخ سيديَ بابه لرَدِّ مظالم “السيْفات” (Les chefs)، وهم نواب الدولة الفرنسية على القبائل والمجموعات، وقد سامَ كثيرٌ منهم الناسَ خسفا واستغلوا مراكزهم أبشع استغلال. فساعد الشيخ سيديَ بابَه المستشفعين جهدَه وفرَّج الله على يديه كروب الكثيرين منهم، حسب عبارة ابنه العلامةِ المؤرخ هارون، الذي وثَّق كثيرا من ذلك في مَحالِّه.[[10]]
وبعد وفاة الشيخ سيديَ بابَه بقليل، جاء المستعمر بالشريف القارئ افَّاهْ ولد الشيخ المهدي التنواجيوي ليسجنوه في أبي تلميت، فطلب منهم الشيخ سيدي المختار بن الشيخ سيديَ أن يقبلوا إقامته معه بضمان منه فقبلوا، ليمكث معه عدة سنين معزَّزا مكرَّما.
والحاصلُ، أن الفتاوى الشرعية والمواقف السياسية التي اتخذها الشيخُ سيديَ بابَه وكثيرٌ من المشايخ والأمراء والوجهاء المهادنين، والعلاقاتِ المحترمةَ التي كانت تربط أغلبَهم بالفرنسيين، استطاعت، إلى حد كبير، أن تحُدَّ من سلبيات وقبائح المستعمر البغيض، وأن خلقا كثيرا من الأقارب والأباعد والمهادنين والمقاومين استفاد من تلك العلاقات، كما هو مُدوَّنٌ في الكتابات المحلية والأجنبية والشعرِ الفصيح والحساني، وحُكِيَ في قصص وروايات مُسْنَدة وغير مُسْنَدة وحتى في الأساطير! مما يضيق به المقام. إلا أنه لا يُستساغُ إهمالُنا له ونحن نتناول تلك الحقبة من تاريخنا ونقوِّم مواقف أهلها ونوزِّع عليهم صكوك الإدانة والغفران.
حدّثني الأستاذ الحاج بنُ المصطفى بنِ الشيخ محمدُّو بنِ تَابَّا الحسَنيُّ، أن جدَّه الشيخَ مُحمدُّو ابنَ تَابَّا، كان يقول له ولغيره: «إن ردَّ الشيخ سيديَ بابَه الظلمَ عن نفسِ مسلمٍ أو عِرضِه أو مالِه، يوما واحدًا، خيرٌ له من عبادة الدهر!».
ويقول الشيخ العلامة المحدث محمد بن أبي مدين، في ترجمة جَدِّه الشيخ سيديَ بابَه: «فهدأت الأحوال بحسْم موادِّ القتال وحفظِ الأموال، وبكثرة وسائل النقل للكتب العلمية والبضائع الغالية من الأقطار النائية، وبتيسُّر الحج إلى بيت الله الحرام بعد أن كان في قطرنا هذا كالمتعَذِّر لِعِظَم المشقة وبُعْد الشّقة (…) فليس يعلم إلا اللهُ تعلى ما حصل بوجاهته عند تلك الدولة من مصالح المسلمين العامة والخاصة، بل صرَّح لهم عند عقد الصلح، حين سألوه عن عياله ليحترموه، بأنه كُلُّ مَن يدين بدين الإسلام. ولم يقبل لهم راتبا ولم يعلِّق لهم وِساما، ولم يقبل لأحد من عياله الخاص أن يتعلم لغتهم، مع شدة حرصهم على قبوله تلك الأمورَ. بل لما حصل مرادُه، وهو أمْنُ البلاد والعباد، تفرَّغ لعبادة ربه ونشْر ِسُنةِ نبيه صلى الله عليه وسلم آناءَ الليل وأطراف النهار، يُطعم الجائع ويسقى الظمآن، ويفُكُّ العاني ويكسو العُريان، ويخلِّص الأسير ويهدي الحيران، قائما للمظلوم مَقامَ عمَر بنِ عبدالعزيز بنِ مروانْ، ولأهل القرآن مَقامَ أُبيٍّ وعثمانْ، ولأهل الحديث مَقامَ أحمدَ والشيخينِ وسفيانْ، ولأهل الفقه مَقامَ مالكٍ والشافعيِّ والنُّعْمانْ، ولأهل اللغة مَقامَ القاموس واللسانْ، ولأهل النحو مَقامَ ابن مالكٍ وأبي حَيَّانْ، ولأهل العَروض والبيانِ مَقامَ الخليل وصاحبِ عقود الجُمانْ».[[11]]
البعد الأمنيُّ في فتاوى الشيخ سيديَ بابَه وعلاقته بالفرنسيين
يتبيَّن من خلال آثار الشيخ سيديَ بابَه المكتوبة والمَروية أن أهمَّ هاجس عنده، بعد الهاجس الديني، هو تحقيقُ الأمن وقمعُ الظلم واجتثاثُ جرثومته والقضاءُ على معادن التلصص والحِرابة بشكل متجذِّر وقابل للاستمرار. فكان يرى أن مجيء هذه القوة الأجنبية الكافرة، رغم النفور التلقائي والمبدئي منها، مِنَّةٌ من الله تعلى وفرصةٌ ينبغي استغلالُها لنَشْر “العافية” وحماية الدين والأنفس والأموال في سائر مناطق البلاد.
فما الفائدة من احتلال الحوض والترارزة والبراكنة وبسط الأمن فيها دون باقي مناطق البلاد؟ وكيف يتأتّى تأمينُ المناطق الأولى دون وقف الغارات القادمة من المناطق الأخرى؟
بلْ ما الفائدةُ أصْلا في فتوى شرعية تبيح التعاون مع المستعمر قصدَ حماية الدين والأنفس والأموال، دون أن يبذل صاحبها جهدا ملموسا في سبيل إنجاح ذلك المشروع وحمايته؟ خصوصا إذا ما علمنا أن الفتاوى الموجبة لمقاومة فرنسا ومن هادَنَها، وما حصل عليه المقاومون في خضم ذلك من أسلحة فرنسية وإسبانية وألمانية وعثمانية… كل ذلك سمح بانتهاز بعض المحاربين القدماء الفرصةَ لمواصلة وتطوير مغامراتٍ رهيبة، لم تعُد نتائجها مادية فحسب، وإنما أضيف إليها رصيد معنويٌّ هامّ، يسمى الجهاد والشهادةَ في سبيل الله.
ولا يعني هذا من قريب أو بعيد الإنكارَ أو التشكيكَ في وجود مسلمين قائمين بالجهاد آنذاك مخلصين لله… لكن الإنصاف والموضوعية يستدعيان التذكير بوجود الصنف الآخر الذي لن يغيب عن أذهان الموريتانيين طالَ الزمان أو قصُر. وأخطاءُ وانحرافاتُ القطبين: المقاومِ والمهادنِ ودخولُ الانتهازيين في كل منهما، كثيرةٌ لا تُحصى ولا تُعد.
وتمكن الإشارةُ هنا إلى أن الشيخ سيديَ بابَه، وبعد اتخاذه لموقفه المهادن للفرنسيين، توَصَّلَ، على ما يبدو، برسائل أرسلها بعضُ أهل الطيش والكفاءات القيادية المحدودة، يهدِّدونه فيها بتحالف هذه الإمارات وتلك القبائل ضده، وحشدِ الحشود للهجوم عليه وعلى حضرته وقبيلته من ثلاث جهات وقتْلِ ونهْبِ كُلِّ ما هنالك.
ثم توالت تلك الضغوط والتهديداتُ وازدادت جِدِّيَّةً بعد رفضِ الشيخِ لمراجعة موقفه مع موجة المراجعات التي أعقبت موتَ كبولاني ووصولَ مولاي إدريس إلى مناطق الشمال مع بعض الأسلحة، وإشاعة تَخَلِّى فرنسا عن حملة تكانت – آدرارْ، التي نشرها تُجَّار الرقيق وأسَرُ الهجْن في سانلوي، الذين تراجعت أرباحُهم بسبب ضبط الأمن والحد من الفوضى في الربوع الموريتانية… إلا أن ذلك لم يغيِّر من موقف الشيخ سيديَ بابَه وأسلوبه التقليديِّ ونظرتِه المستقبلية للمسألة، والعملِ على إقناع هؤلاء وغيرهم بالعدول عن حرب محسومة ومضِرّة بهم وبالمسلمين – حسبما يراه هو – مع الإلحاح على ضرورة الرفق بالجميع قدْرَ المستطاع، خصوصا أهلَ المسالمة والديانة منهم… وسيتبن ذلك من خلال ما يتسع له المَقام من مراسلاته ونشاطاته اللاحقة.
رحلة الشيخ سيديَ بابَه إلى آدرارْ سنة 1909
جاء في كتابي “الأخبار” لهرون بن الشيخ سيدى، و “نيل الأوطار” لعبد الودود بن انتهاه السمسدىّ أن القوات الفرنسية دخلت أطارْ في ذي الحجة من سنة 1326هـ، وأن الشيخ سيديَ بابَه سار إلى هناك في آخر جمادى الأولى سنة 1327، مما يتفق تقريبا مع التأريخات الميلادية الواردة في الكتابات الفرنسية، حيث يذكر غورو، على سبيل المثال، أن الشيخ سيديَ بابَه دخل مدينةَ أطارْ يوم 3 يونيو 1909، وأن القوات الفرنسية دخلت المدينةَ نفسَها يومَ 9 يناير 1909[[12]] ، خلافا لما يذكره بعض مؤرخي نوفمبر من أن الشيخ سيديَ بابَه ذهب إلى أطارْ لدَلاَلة غورو والحاميةِ الفرنسيةِ التي يُخشى عليها أن تضلَّ الطريق!! وقد خصص له أهالي آدرارْ استقبالا حاشدا وحارا[[13]]
. وكان لذلك السفر ثلاثةُ أسباب حقيقية وجدِّية:
السبب الأول: إرسال أهالي آدرارْ عدةَ رسائل إلى الشيخ سيديَ بابَه يسقدمونه فيها. وكان من بينهم مَن يُسْفر عن رغبته في مهادنة الفرنسيين، على غرار ما فعله سكان الحوض سنةَ 1893[[14]] والترارزة والبراكنة سنةَ 1902 وتكانت سنةَ 1905، مع عدم قدرة هؤلاء المراسلين على إعلان رغبتهم في المكاتبة خوفا من مواجهة إخوانهم المقاومين المتمركزين آنذاك في آدرار وما وراءه.
فقد جاء في مقدمة رسالة الشيخ سيديَ بابَه إلى أهل آدرارْ ما يلي: «مِن سيديَ بن محمد إلى جماعة الإخوان أهلِ أطارْ وغيرِهم من أهل آدرارْ، سلام عليكم. أما بعد، فقد رأيت الكُتب التي أرسلها بعضُكم، وإني قادم إليكم، إن شاء الله تعلى، وساعٍ في نصيحتكم ومصالحكم بقدر الطاقة، مع أني كنت كذلكم. واعلموا أنكم لم تُرْجَ لكم العافية والعِمارة إلا في هذا الزمان، والمصلحةُ تأتي كرها، فقومٌ يُقادون إلى الجنة بالسلاسل. فإن هذه البلاد الصحراوية منذ قرون في سيبة ما كان يُرجى زوالها قبل هذا الأمر، ولا يخفى ذلكم. كما لا يخفى أن ما يُتخيَّل في بعض الأوقات من زوال سيبتها غير حقيقي، إذ لا يرتفع به التقاتل والتناهُب والتظالم، وإن كان في بعضها أكثر منه بالنسبة إلى بعضها»[[15]] .
والسبب الثاني لرحلة الشيخ سيديَ بابَه إلى آدرارْ أنَّ قائد الحملة الفرنسية، العقيد غورو، أرسل إليه يستقدمه، هو الآخر، سعيا منه إلى خدمة مشروعه المسمى إحلال السلم في آدرارْ (La pacification de l’Adrar)، الذي يلتقي نوعا ما مع ما يسعى إليه الشيخُ سيديَ بابَه والقبائلُ الراغبةُ في تحقيق قدر من الأمن عن طريق مهادنة الفرنسيين.
يقول المؤرخ الأطاريُّ عبدالودود بن انتهاهْ الشمسديُّ: “وفي عام 1326 دخل العسكر الفرنسي آدرار، في الخامس عشر من ذي الحجةْ، فوجدوا الناس في أعلى ما يكون من السيْبة والقلق، ولو جاءهم حاكم غير هذا الحاكم “كلنل”(يعني العقيد) لطاشت عقولهم، ولكن منَّ الله به على عباده، لم يؤاخذ الناس بجرائمهم، وجعل العقاب للعباد في المال دون النفس، وجعل على أهل أطار ْمنه حِمْلَ خمسين بعيرا من التمر (…) فلما لم يكمُل “ألَـمَانْ” (يعني غرامة الحرب) من التمر، وقد حصلت منه نحو عشرين ألف مُد أو أكثر، شرعوا في تحصيل غرامة الغنم، وقد كلفهم بجمع خمسمائة شاة، حتى جمعوها له، فأخرج أهل الحَبس (أيْ الرجال الذين اتخذهم المستعمر رهائن)، وهذا كله قليل في حق أهل السيبة. فلما قُضِي “أَلَمَانْ” وتلاحقت الناس عند القصر (لكصر) وزال عنهم الكرب وتباشروا بالعافية، وجاء من كان مهاجرا من الناس سبايا (…) كل ذلك جاء، وجاءت أبناء غيلان، سيد احمد بن تكدي ومن معه، من جهة وادان، فلم يتم الصيف إلا وأهل آدرار متلاحقون فيه، لله الحمد، واستسلموا للقضاء الذي لا مرد له. وجاء الشيخ سيديَ في الصيف مع بعض الفرنسيين أرسل له الحاكم الفرنسي ليُعلم الناسَ ويُسكن قلوبَهم»[[16]].
وجاء في مذكرات قائد حمْلة آدرارْ، العقيد غورو ما يلي: «في يوم 21 إبريل (يعني من سنة 1909)، قال لي محمد الأمين ولد زُمزُم: «إنَّ مَن يريد توطيدَ السلام في آدْرارْ، عليه أن يستقدم لهم الشيخَ سيديَ وينصِّب عليهم أميرا من سلالة يحي من عثمان»[[17]] .
ومن اللافت هنا والجديرِ بالذكر، أن محمد الأمين ولد زُمْزُم ومحمد ولد المعيوف، قائدَ أولاد آكشارْ، كانا من قادة البيضان الذين بَهَروا المستعمر الفرنسي. ذلك أنه لما أراد غورو مغادرة موريتانيا وتسليمَ العمل لخليفته في آدرارْ، الرائد اكلودل، وتزويدَه بتعلمياته الأخيرة، أوصاه قائلا: «واعلم أن بلدا يوجد به رجلٌ أعمى يقود الجيوش بكل نجاح، مثل محمد الأمين ولد زُمْزُم؛ ورجلٌ مُسِنٌّ مثل محمد ولد المعيوف، يطلب منك الرجوع في يومين من غزوة تبعد تسعمائة (900) كلم، فذاك بلدٌ لا يمكن تغييرُ عقلياته وعاداته بين عشية وضحاها!».[[18]]
أما السبب الثالث لتلك الرحلة، فهو توجيهُ الشيخ سيديَ بابَه لمن يستمع إليه هناك أو يقتدي به وتحذيرُهم من خوضِ معركة خاسرة والمواجهة مع مَن لا قِبَل لهم به. (حسبما يراه هو بطبيعة الحال). وإرشادُهم في كيفيات التعامل مع هذا الوافد الأجنبي المخالف في الدين والتقاليد، تفاديا لبطشه. وقد استجاب له، بالفعل، كثير من الناس من مختلِف قبائل المنطقة، كما سيأتي ذِكْرُ بعضه لاحقا إن شاء الله.
ويُذكر هنا أن الضابط الدمويَّ الرائدَ افرير جان كان يتحسَّر في مذكراته على عدم التنكيل بالأهالي هناك، ورفض مهادنة كل مَن سبق له الانخراط فى المقاومة أو إعانتها. وقد شاع ذلك وأهمَّ كثيرا من الناس، كان الشيخ سيديَ بابَه من بينهم.
“امجيبتْ بابَه من شورْ آدرارْ”
لقد اعتبر بعضُ مؤرخي نوفمبر، المشاركين في إنعاشات ذكرى الاستقلال لعام 2014، أن الشيخ سيديَ بابَه كان جمَّاعَ إِبِلٍ بسيطا، يَنْفِر من أبي تلميت إلى آدرارْ لدلالة غورو وتحصيل قطيع من مما يسترجعُه النصارى من أيدي المقاومين!! وأنه حصَّل من ذلك ثروةً ضُرِبَ بها المثل في منطقته حتى قيل: “أصَّلْ مَاهِ امْجيبتْ بابَه من شورْ آدرارْ”.
وبغض النظر عن مصادر تلك الرواية وذلك الانطباع، إلا أن فيها من النَّكَارات ما لا يخفى ولا يناسب السادةَ المؤرخين ووسائلَ إعلامنا ومستمعيها في الداخل والخارج.
ودون أي رَدٍّ على هذا الكلام أو الدخول في جدل جزئيٍّ بسيط، سيكون من المناسب إكمال الحديث عن تلك الرحلة بتوضيح يسير.
لقد استقبل الشيخ سيديَ بابَه، أثناءَ مُقامه في آدرارْ، عائلاتٍ كثيرةً عَبَّرت له عن رغبتها في الذهاب معه والسكن في حضْرته؛ وكانت من بينهم عائلاتٌ من سكان آدرارْ الأصليين، إلا أن سَوادهم الأعظم كان من عائلات المهاجرين والمقاومين للقوات الفرنسية المحتلَّة، الذين تقطَّعت بهم السبُل ولم يجدوا حِيلة للرجوع إلى أهليهم أثناء عودة “لمحاصر” المشهورة، التي يقول فيها المؤرخ عبدالودود بنُ انتهاهْ:
«وبعد هذا عام مجيء امحاصر آل سيدي محمود وكنته وغيرِهم من الزوايا والعرب عامَ 1324، ويسمى عام اعريكيب، وفيه جاء سيل دون السيل الأول ومكثت لمحاصر في آدرار يظنون أنهم مهاجرون عن النصارى لمَّا بنوا في تجكجه التي هي أرضهم، وأن أهل آدرار عندهم قوة على الجهاد لما سمعوا من الوقائع التي وقعت بينهم، فظنوا أن ذلك واقع عن شيء، وجاءت البراكنه وجاءت تندغه وجميع الزوايا راغبون في الجهاد، واجتمع من هذا خلق كثير (…) فلما لم يروا شيئا من علامات الجهاد ووقع حصار دار تجكجه ولم يحصل لهم عندها إلا موت ذلك العدد من الفتية الذين يأخذون خيولهم بركابها كأنهم يقتحمون شيئا يمكن برازه وهم مبارزون لحائط القلعة، وذلك نعوذ بالله، لم يقع إلا في نوفل بن عبد العزى يوم الخندق. وأما “لمحاصر” فإنهم لما فات يوم الدار وما بعده ولم يجدوا في آدرارْ ما يعهدونه في أرضهم رجعوا قاصدين لبلادهم وكاتبوا النصارى».[[19]]
لكن العائلاتِ المذكورةَ أعلاه، لم تجد سبيلا للرجوع إلى أراضيها، بل إن كثيرا منها فقد رجاله. وكان عددهم، إلى جانب أُسَر آدرارْ، مائةً وستين (160) أسرة بالضبط، كما حدَّثني الشيخُ العلاَّمةُ إبراهيم بنُ يوسف بنُ الشيخ سيديَ روايةً عن الأستاذ المؤرخ سداتْ بنُ محمد بن بابه بن الشيخ المصطفْ بن العربى الأبيارىّ. وكان الاعتقاد السائد أنها مائة وخمسون أسرة.
ولمَّا لم يجد الشيخُ سيديَ بابَه ما يكفيه من الظَّهْر لحمل تلك الأُسَر إلى أبي تلميت، أهداه أهلُ آدرارْ نَعَمًا كثيرا، زيادةً على ما أهدوه قبلُ من نخيل في تلك الرحلة وفي رحلة أخرى سبَقتها، وأهدوْه قبل ذلك لأخيه الشيخ سيدي المختار، وأهدوْه قبل ذلك كله للشيخ سيديَ الكبير، والكُلُّ موَّثّقٌ أحسنَ توثيق ومعروف لدى الجميع. حينَها قامت الدولة الفرنسية، ممثَّلَةً في العقيد غورو، بإهداء الشيخ سيديَ بابَه قطيعا من الإبل إسهاما منها في تلك العملية الإغاثية المشهودة. لكن رأسا واحدا من تلك الإبل لم يبق في ذمة الشيخ سيديَ بابَه، بل وزعها على تلك الأسر وحملهم على ظهورها إلى أبي تلميت، وهؤلاء القادمون هم المعروفون بـ “الذريرة”. وأمرهم مشهور جدا.
حتى إن بعض النبهاء الاجتماعيين من طلاب معهد أبي تلميت الإسلامي، أمثال الوزير الكاتب محمد محمود بن ودادي، ما زالوا يتحدثون عما لاحظوه بعد ذلك بنصف قرن من تأثُّر خريطة أبي تلميت الديمغرافية والاجتماعية بذلك الركب.
وحتى لو افترضنا أن ذلك القطيع مسترجَع أو مغصوبٌ من جيش مؤتة أو من محضرة الحاج بن فَحْفُو، فالأحرى بصاحب المقولة أن ينظر في أبواب حجب الذمة خصوصا ذِمَّةَ الحاكم، مبايَعا كان أو متغلِّبا.
والحاصل، أن “امجيبت بابَه من آدرار”، كان من المعلوم والمتواتر، إلى نهاية نوفمبر 2014، أنه إنما جاء بِكَمٍّ من الناس لم يَرَ أهل المنطقة مِثله في ركب واحد، فانطلق المثَل. وقد ورد آنفا أنها مائة وستون (160) أسرة، يضاف إليها الأفرادُ العُزّل، من نساء ورجال، وكثيرٌ منهم معروف بالاسم إلى اليوم، كما يُضاف إلى ذلك كلِّه مَن يرافق الشيخَ مِن الرجال ذهابا وإيابا، والإبلُ التي تحمل الزاد. والله أعلم.
هذا ومن الشائع في كتابات ومرويات علماء وأدباء المنطقة، أن الشيخ سيدى بابه ورث عن أبيه ألف ناقة، وأن جَدَّه كان ينحر كل ليلة ناقة أو جملا لإكرام الضيوف وإطعام الناس، وأن أباه ضاعف العدد فصار ينحر ناقتين طيلة السنة الواحدة التى عاشها بعد أبيه. وقد جاء رجل إلى الشيخ سيديَ بابَه يشكو ديْنا وعيالا، فقال له: “إذا غربت الشمس فتلقَّ لقاحنا وخذها برُمَّتها“، وكانت سبعين من العُوذ المطافيل. وقد أجمع العارفون به من العلماء والثقات أنه لم يخرج فى حاجة دنيوية محضة أبدا![[20]]
وحتى لو تعلق الأمر بجلْب خيرات تستحق الانيهارَ وضربَ الأمثال، فإنه لا يستغرب ذلك غيرُ الجاهلين بما يربط سكان المنطقتين من معاملات وعلاقات، خصوصا الشيخَ سيدي بابه وأسلافَه بولاية آدرار. فقد رجع هارون ابن الشيخ سيديَ إلى كثير من الوثائق التي تكشف عن غزارة وتنوُّع المعاملات التجارية بين عائلات آدرارْ وتلاميذ الشيخ سيديَ الكبير، من سُلفة وقروض ومُؤَن. كما ذكر سيلا جارفا من هدايا أهل آدرار على العموم لتلك الأسرة على مر الزمن، حتى إنك ما كنت تجد “زريبة” من نخيل السماسيد الشرفاء إلا وبها على الأقل نخلة مهداة لها، متروكة على ذمتها في محلها[[21]]. وما زالت شواهد كثير من ذلك قائمة، رغمَ عاديات الزمن والإهمال.
افرانسيس دي شاسي وثروة آل الشيخ سيديَ
انطلاقا من رواية مؤرخي نوفمبر حول “امجيبتْ بابَه من شورْ آدرارْ” المذكورة أعلاه، وبناءً على تقرير لأحد وكلاء الإدارة الفرنسية الذين عملوا في المذرذرة وأبي تلميت، يسمى بول ديبيي (Paul Dubié)، يقارن فيه بين ثروة عبدالله بن الشيخ سيديَ وثروة الأمير أحمد ابن الدَّيْدْ، أوْرده الكاتب اليساري المعاصر افرانسيس دي شاسي (Francis de CHASSEY) في كتابه: موريتانيا 1905–1975، لوحِظ أن بعض الإخوة المستترين في المواقع الاجتماعية وراء أسماء مستعارة قصدَ التحامل الشخصي المباشر على أقطاب المهادنة، خصوصا الشيخَ سيديَ بابَه وأهلَه، قاموا بتوظيف ذلك كله توظيفا سلبيا، وبَتْرِ فقرات منه لتقديمِ ثروة عبدالله بن الشيخ سيديَ وعائلِته على أساس أنها من امتيازات الاستعمار الفرنسي، بما في ذلك أراضي شمامه ونخيل آدرارْ المتوارَثيْن من عهد الشيخ سيديَ الكبير (1190-1284هـ/1776- 1868م) ومن عاصره من العظماء كأحمدو ولد آغريشي واعمر ولد المختار وابنِه محمد الحبيب وأحمد ابن عيدة.
إن هؤلاء الإخوة المتحاملين لا يظنون أن تاريخ البلد الطويل، المملوءَ علما ومجدا وشرفا، قد سبَق مجيء المستعمر إلى البلاد، وأنه يتَّسع لمشايخ وأقطاب المهادنة والمقاومة معا، والزوايا وحسان والمشايخ وغير ذلك من الثنائيات السطحية التي يريدون إعادة اصطناعها اليوم.
فعلى الرغم من كون عمل دي شاسي المذكور بسيطا، يُظهر فيه كاتبُه شخصية اليساري الثائر على الإقطاع حسب موضة ذلك الزمن، إلا أنه لم يأت بشيء مما أورده النشطاء المذكورون[[22]] ، وإنما أورد تلك الثروة، دون القول إن فرنسا هي مصدرها، إلا ما كان من الراتب السنوي المخصص للشيخ عبدالله، كغيره من الرؤساء العامِّين (Chefs généraux) والرؤساء الفرعيِّين (Chefs de fractions) لجميع قبائل البيضان التي خضعت كلها لسيادة فرنسا، اما إسبانيا، فإنه من المعلوم أنها كانت تدفع لمجنَّدِيها المحليين ضعفَ رواتب إخوانهم المجنّدين من قِبل الاستعمار الفرنسي. لقد كان كلُّ رئيس قبَلِيّ يحظى براتب فرنسي شهري ونسبة من الضرائب المَجْبية على قبيلته أو فخِذه. وكان ذلك فخرا وامتيازا لا يتنازل عنه متنازل من البيضان أبدا، وربما سبَّب خلافا شديدا معلوما بين أبناء العمومة.
ولم يلاحظ هؤلاء القراء، أو لم يذكروا، ما أورده الكاتب نفسه في نفس الفقرة من أن الشيخ عبدالله كان يحصل خلال ثلاثة أو أربعة أشهر فقط على 300.000 أو 400.000 فرنك إفريقيي من هدايا تلاميذه في غامبيا والسنغال وغينيا، مما يضاعف عدة مرات 2600 فرنك التي تشكل الراتب الفرنسي السنوي، المحدد سلفا لكل رئيس قبيلة، حسب عدد أفرادها. وقد ذكر دي شاسي نفسه أن عدد أفراد قبيلة أولاد أبيري قد وصل آنذاك (سنة 1944) إلى أحَدَ عشر ألف (11.000) شخص[[23]] .
هذا مع العلم أن بعضا من أشقاء عبدالله بن الشيخ سيديَ، كأحمد وإبراهيم ويعقوب، الذين لم يباشروا المعاملة مع الإدارة يوما ولم يحظوا منها بامتياز، كانوا أوفرَ مالا من عبدالله ممثلِ القبيلة كلها والمجموعات المتصلة بها لدى الإدارة الفرنسية. بل إن الشيخ سيدي المختار ابنَ الشيخ سيديَ كان أغنى بكثير من أخيه الشيخ سيديَ بابَه المباشرِ لتلك العلاقة، مما يكفي لرد تلك الشبهة.
ولا شك أن الكلام المفصَّل عن الثروات والممتلكات والاهتمامَ الزائدَ بالتحصيل لم ينتشر في مجتمعنا إلا منذ عهد قريب، لله الحمد!
وقد غاب عن الكل أن السياق الذي أجري فيه بول دبيي مقارنته بين ثروتي كل من عبدالله بن الشيخ سيديَ والأمير أحمد ابن الديد وجَلَبها دي شاسي في كتابه هو تسليط الضوء على استفادة “الزوايا” من الاستعمار أكثر من “حسان”. وقد خفي على هذين الكاتبين أن هذه المقارنة ليست في محلها، لأن قبائل حسان كانت إلى عهد غير بعيد تستنكف عن جمع المال. بل ربما رآه بعضهم منقصة.
أما الشيخُ سيديَ بابَه، فقد سبَقت الإشارة إلى رفضه كُلَّ راتب ووِسام فرنسي. وكان يرفض هديتهم أولَ الأمر، بل كان هو الذي يعطيهم الحلائب والذبائح والركائب… إلى أن أسَرَّ إليه يوما محمد ابن أبي المقداد، قائلا: «إذا بقيتَ، يا شيخُ، على هذا النهج، ترُدُّ لهؤلاء الملوك هداياهم، فسيشعرون بالإهانة ويشكون فيك، ولن تجد فيهم، حينَها، الآذانَ الصاغيةَ لما تصبو إليه من شفاعات وتوجيهات ومصالح وتقدير».[[24]]
الشيخ سيديَ بابَه وحملة تكانت
قبل سفَره إلى آدرارْ بخمس سنوات، وتحديدا في يناير 1905، أراد الشيخُ سيديَ بابَه أن يسافر إلى تكانت للأهداف نفسِها. لكنْ، ونظرا للخريطة الجغرافية والقبَلِيَّة والأمنية الصعبة على امتداد طريق أبي تلميت – البراكنة – تكانت، قال له ابنُ عمه شيخُنا بنُ دادَّاهْ: “أما أنت يا شيخُ فإن في ذهابك مخاطرةً كبرى نحن في غنى عنها، لكن ها أنا وأخي المختار ننوب عنك فيما تريد”، وكانا على حظ وافر من العقل والفروسية والاستقامة، فاقتنع الشيخُ سيديَ بابَه بكلامه وائتمنه على المهمة، وأرسله على رأس فرقة رمزية تتألف من نحو ثلاثين شخصا من أبناء قبيلته وأتباعها، ضمن جيش ضخم يحوي الكثير من الضباط وضباط الصف المتخصصين المدججين بالسلاح. وقد أوصى الشيخُ سيديَ بابَه مبعوثيه بوصاياه التقليدية المعروفة: أن يبلغوا فتواه ورأيَه لكل مهْتمّ.
وصلت الحملة إلى تكانت مرورا بالبراكنة، يوم 22 فبراير دون أن يواجهها أيُّ قتال أو عرقلة تُذكر. وفي يوم 25 مارس أرسل كبولاني فرقة عسكرية تتكون من 160 شخصا برئاسة الرائد افريرجانه، من أجل تفريق جيش الأمير بكَّارْ وإبعاده أكثر عن تكانت؛ فلم يلحق بهم ذلك الكوماندو إلا يوم 13 إبريل عند بوكادوم في أفلَّة، حيث باغتهم افرير جانه وأطلق عليهم نيرانا كثيفة، فقتل الأمير بكَّارْ، الذي كان يتمنى الشهادة، وفرَّ جيشه، لتقوم جماعته وغيرها بمكاتبة الفرنسيين، بمدة قصيرة بعد ذلك، تحت قيادة أبناء بكار… إلى آخر تلك الأخبار المعروفة.
يقول الشيخ سيديَ بابَه: «وآخر حروب بَكَّارْ حربُه مع الفرنسيس التي قُتل فيها، وهو شيْخٌ كُبَّارٌ قد حَلَب الدهرَ أشْطُرَه وذاق عُسْرَهُ ويُسْرَه، بأيدي جيش “كماندا فريرجان” في أرض “أفلَّه”، وكان يتمنى ذلك. حدثني صاحبنا الرِّضى الثقة المشاركُ التقيُّ محمد بن سيدي قاضي أولاد بوسيف من كنته، قبل موت بكار بنحو عامين، أنه سأله عن رؤيا ذكر أنه رآها، ثم قال له إنه عبَرها لنفسه بذلك. وذكر لي رجل من إيداوعيش يقال له كوره بن التوتاي، قبل موت بكَّارْ بنحو ذلك، أنه كان يــتمناه. ويقول إنه نال حظا من الدنيا ولم يبق له أربٌ إلا في هذا الأمر»[[25]]
هكذا صوَّر الشيخ سيديَ بابَه نهاية الأمير بكَّار، بإشارة لطيفة دقيقة إلى استشهاده في سبيل الله، انطلاقا من حسن الظن بنِيَّته وتأوُّله ورغبته السابقة في خاتمة حسنة، بعد أن أمضى عمره في الحروب مع أبناء عمه وجيرانه من اشراتيتْ وكنتة وأهل سيدي محمود وأهل آدرارْ وغيرهم. هذا مع العلم أن إشارة الشيخ سيديَ بابَه إلى استشهاد بكَّارْ وردت ضمن هذه الرسالة التي كتبها للفرنسيين بناءً على طلبهم نبذةً عن تاريخ البلاد!
كان المختارُ بن داداه ومعه تسعة عشر رجلا من قبيلته ضمن كوماندو مؤلَّف من 160 رجلا من مختلِف القبائل، انطلق من تجكجه لإبعاد جيش بكَّارْ أكثرَ وجعْلِه خارج وضعية الهجوم على تكانت عموما وتجكجه خصوصا. وذكر افريرجانه في مذكراته أنه لما عرف مكان جيش بكَّارْ وقرَّر مهاجمته بغتةً، لاحظ أن أولاد أبييري لم يكونوا مرتاحين لاقتراب الصدام مع الأمير المشهور، إشارةً إلى تقاعسهم أو خوفهم من جيش بكَّار، مع أنه كثيرا ما أشاد بعد ذلك بشجاعة وشهامة المختار بن داده. فلعل هذا الأخير تعمَّد التقاعسَ بمن معه من أهله عن مهاجمة الأمير بكار، التي ليست من أهدافه التي جاء بها.[[26]] أما أخوه شيخُنا، فإنه لم يبرح مدينة تجكجه منذ وصولها.
وقد وقف المختار بن داداه المذكور أمام بيت الإمارة وقال لأخوات الأمير كلمته الشهيرة بُعيْد معركة بوكادوم: «يا بنات امحمد شيْن، مُخاطبُكنَّ اسمه المختار ولد داداه. أخبُركن أن هذا الجيش ليس فيه من أولاد أبييري سوى الواقفين أمامكن، وهذا أول قدومهم إلى الحِلَّة والسلام»[[27]].
أما محمد ولد اللَّبّْ الدَّماني، فقد ذكر الأستاذ الطالب اخيار بن الشيخ مامينا روايةً عن الأمير عبد الرحمن بن بكار بن اسويداحمد، أنه هو الذي ضلل الفرنسيين حين وجدوا بَكَّار جريحا، قائلا لهم: «هذا شريف مع أهل اسويد احمد، ولا حاجة لكم بقتله»، فتركوه وانسحبوا[[28]] .
القوانين الحربية السائدة بين الإخوة أيّامَ الاستعمار
إن مَن يقرأ شيئا من الوثائق المتعلقة بتلك المرحلة بإمعان يدرك أن نازلة الاستعمار وما تلاها من مواقف متباينة ومواجهات دامية واستهداف الأخ لأخيه والعالمِ للعالم، شكّلت فتنةً عظيمة لم يسبق لها مثيلٌ في هذه البلاد، وأدخلت الأهالي في جوٍّ أشبهَ بالحرب وقوانينها التي لا ترحم.
فلا تكاد أيٌّ من اليوميات الحربية لذلك الزمن ولا تقريرٌ ولا مذكرات، ولا أيُّ مؤلَّفٍ آخر، يخلو من ذكر إعانة هذه القبيلة للفرنسيين على جارتها وغريمتها القديمة بالأخبار الدقيقة الحاسمة والزاد والجيوش والدَّلالة المصيرية… بل إنك ترى هذا الأمير أو هذه القبيلة تكاتب الفرنسيين بناءً على عَدائها لأعْدائها، حتى إذا كاتبها أعداؤُها نفروا وقاوَموا، والعكس صحيح. والأمثلة كثيرة موَّثقةٌ بالأسماء والأيام والساعات.[[29]]
وسيجد القارئ أن الشيخ سيديَ بابَه، في بعض مراسالته مع الفرنسيين، يشكو إليهم العصابات والمجموعات التي تنزل بساحته أو تتأهب للإغارة على حضرته من أجل القتل والنهب والسبي ويطلب منهم رُخص شراء السلاح للدفاع عن النفس والحضرة والقبيلة.
كما تجده هو والشيخ النعمة بن الشيخ التراد والعلامة المرابط بن أحمد زيدان، وكثيرين غيرَهم، يدْعون لنُصرة الفرنسيين وإعانتهم في مهامهم -التي يسمُّونها إصلاحية- ويشككون في نيات بعض المقاومين ويسفِّهون أحلامهم ويتهمونهم بجهل شروط الجهاد ويحذرون الأتباع والمقتدين من الاغترار بدعاياتهم.[[30]]
وفي الطرَف المقابل، تجد الشيخَ ماءَ العينين والشيخَ مربيه ربه ومحمد العاقب بن ما يابابى وغيرَهم، يكفِّرون ويفسِّقون كل من تعامل مع الفرنسيين أو رضي بالبقاء في أرض تحت مظلتهم ويصفونه بالإلحاد والنفاق ويُحِلُّون قتله ونهبَ ماله وانتهاك حرمته.[[31]]
ولما رجع الأمير أحمد ابن الدَّيد عن رأيه الأول وكاتب الفرنسيين، بدأ مباشرةً يطارد غزاة الطرف الآخر ويسترجع منهوباتهم إلى أهلها، وهو الذي غزا سنة 1911 إلى جانب الفرنسيين يومَ تِيشِيتْ حيث تمكَّنوا، بفضل وجوده مع مجموعة مختارة من أبطال أولاد امحمد (لعْلبْ)، مِن أَسْر الأمير سيد احمد بن أحمد ابن عيدة. كما شارك أحمد ابن الدَّيدْ في حملة موري (Mouret) التي دُمِّرت خلالَها قصبةُ أهل الشيخ ماء العينين في السمارة سنة 1913.
[[32]]
وما إن عدَل العلاَّمةُ سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حَبَتْ عن رأيه الأول القائل بمقاتلة الفرنسيين ومَن معهم والهجرة عنهم، حتى بدأ مباشرة في إعانة الفرنسيين بالأخبار الهامة المتعلقة بخطوات جيشين كبيرين من جيوش المقاومة[[33]] … وما ذاك إلا دفاعا عن النفس وليقين كل طرف باستهداف الطرف الآخر له، في نفسه وعرضه وماله.
وفي الحوض كان محمد ابن عبدوكَه المشظوفي وابناه الشيخ والزوين قد كاتبوا الفرنسيين أولَ أمرهم، ثم نشِب خلافٌ بينهم مع محمد المختار بن محمد محمود، رئيس قبيلتهم، أدى إلى مقاومتهم للفرنسيين ومعاداة من يعاهدهم، مما انجرَّ عنه استهداف متبادَل ونزاعٌ مسلح بين الأهالي. وقُل الشيءَ نفسَه عن دَشَقَ بنِ سيدِي وعمِّه حَننَّا بنِ الشيخ بن سيدِي[[34]] .
وما إن يُقتل بعضُ القادة المقاومين أو تُهزم جيوشُهم حتى تدخل القبيلة والمجموعة في سلك الخاضعين، وغالبا ما تشرع بعد ذلك في الهجوم على أعدائها السابقين أو اللاحقين.
يقول الكاتب والدبلوماسي أحمدُ بنُ سيدي بن حننَّا: «أولُ شيء نلحظه من خلال قراءة الأحداث والتداعيات اللاحقة، أن الموريتانيين تصدّوا للتدخل الفرنسي وقاوموه بكل الوسائل المتاحة في سبيل منعه من دخول البلاد، لكنْ دفاعا عن المهابة والموْطِن وتشبُّثا بحرية التصرف و”فحولة القرار” والحكمِ بما يشتهون دون معقِّب، وعندما اقتنعوا بأن طريقتهم تلك، تسير نحو “الاتجاه المعاكس”، توقفوا ومدوا يد المبادرة لإبرام معاهدات صلح، وعقْدِ صفقات سلم، تضْمن لهم الحد “الأقصى” من المكاسب قبل فوات الأوان، رغم بغضهم الشديد لهذا المحتل والملة التي يحملها، فقد ساوَرَهم القلقُ منه وما يوفِّره من سلاح متطور.
وعندما صالحوا وهادنوا، استمروا في نفس الدرب -معكوسا- يحاربون “جنسَهم” المتطاولَ عليهم الطامعَ في المس منهم ومِن كسْر هَيْبتهم أو بمن يحتمي بهم، أو بمن تعاهدوا معه، مهما كان مذاقُ ذلك علقما وطعمُه كريها، وشكَّلت مجابهتُهم تلك لأبناء جنسهم مادة عند مَن تحدَّث عن هذه الظاهرة -الحرب ضد الاستعمار والمقاومة الوطنية- فلم يكن الصراع يدور بين الغازي والأهالي، وإنما بين السكان أنفسهم، أهل الفضاء الواحد وأصحاب الملة المشتركة»[[35]] .
وربما نجد اليومَ اجترارَ تلك المواقف نفسِها، من خلال ما يستشري من دعايات ملحمية وتحامل المتَغنين بأمجاد هذا الطرف على الطرف الآخر.
لقد كانت فتنة كبرى وجوًّا مشحونا بالقلق والرعب المتبادَل بين الإخوة والأحبة والجارِ ذي القربى والجار الجُنُب، مما يتعَيَّن اليوم أخذه مأخذَ التاريخ والثقافة العامة لا أكثر، بل نأخذه بشيء من المرح والودّ، كما يفعل اليومَ بعضُ شباب “لعلب” و”أولاد اللَّبّْ” القبيلتين المتجاورتين المتصاهرتين والمتصارعتين تقليديا، أيامَ الاستعمار وقبلَه.
إنه قانون أبسط وأصعب من أن يتصوره أجيال اليوم دون الغوص في الوثائق والكتب على اختلاف مشاربها وآرائها. فهل نبقى نحن، أجيال اليوم، نحْمل ذلك التاريخ محمل التعصُّب والزبونية والتوظيف السياسوي والانتقام، ونتناوله بالأساليب الملحمية والانتقادات السطحية والمجاملات المفرطة التي لا تولِّد إلا ردات فعل سلبية لا أول لها ولا آخر، مسلحةٍ ببحور من الوثائق والنظريات والانطباعات لا ساحل لها؟ أم نتجاوز ذلك ونعتبره تاريخا ولّى، بما فيه من تعقيدات وإكراهات كُفينا مُؤْنتَها، محاولين استخلاص العبر من ذلك لكتابة تاريخ جامع وبناء مستقبل مشترك؟
إن مَن اطَّلع على مراسلات وزراء خارجية فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وألمانيا والمغرب، ونصوصَ الاتفاقيات المقسِّمة للمستعمرات، سيدرك كم كانت الأمور محسومة من فوق رؤوس أهل هذه البلاد المساكين وغيرِهم وهم لا يشعرون. ولذلك لمَّا قيل للشيخ سيديَ بابَه مرَّةً إن أحد الزوايا ينتقد موقفه بشدة مفرطة، قال بالحسانية: «أَلَّا كلّْ امْرابطْ َأكَافَ منْ واحدْ يِكَفّْرُه… اتْغَشْمِي حاجَه».
وسيتبيَّن الواقفُ على مكتبة الشيخ سيديَ بابَه أنه كان يتلقى، قبلَ الاستعمار وبعدَه، كثيرا من المراسلات المملوءة بالمعلومات وأخبار البلاد المجاورة وغيرها؛ فكان ممَّن راسلوه من خارج موريتانيا: أبو شعيب الدكالي ومحمد بن محمد التادلي الرباطي وأحمد بن جلون ومحمد حبيب الله بن ما يابى وعبدالجليل بن عبدالسلام بن اده المدني وسنبل الحجازي ومحمد بن الأمين بن المختار السالمي وطنا الدارمي نسبا ومحمد محمود بن التلاميد والأسقف هوداس ومحمد الجزولي والسيد بن المختار بن الطالب ومحمد محمود بن آكَّه وعبدالله بن عبدالقادر الشيبي ومحمد بن إدريس القادري الحسَني… إضافةً إلى الرسالة المفصلة الدقيقة المذكورة في الحلقة الرابعة، المجهولِ اسمُ كاتبها. زيادةً على الكتب والمجلات والجرائد التي تصله بشكل دائم.
الشيخ سيديَ بابَه في الكتابات الفرنسية
سيدرك مَن رأى حجمَ ومحتوى مراسلات الشيخ سيديَ بابَه المذكورة أعلاه، أن ما عبَّر عنه بعضُ الكُتَّاب الفرنسيين من اطلاعه وغزارة معلوماته لم يأت من فراغٍ. مع العلم أن انتقادهم وتسليطَ الضوء على مثالب حلفائهم أكثر من انتقادهم لمناوئيهم وذِكْرِ المهام التي قد يسندونها إلى بعض من لا تُناسب مكانتَه ومستواه. لكنه الاستعمار وقوانينُه والاضطرارُ وأحكامه.
ومن الجوانب العَمَلية لعلاقة الشيخ سيدي بابَه بالفرنسيين، مخاطبتُه إياهم مخاطبةَ الملوك ومجاملته لهم تألُّفا لهم واستنهاضا لهممهم في العدل والتعمير والرفق بالناس، كإشادته بسرعة بريدهم وتطور أسلحتهم، والدعاء لهم بالنصر على أعدائهم الألمان ونحوهم …إلى غير ذلك مما يدخل فى المجال الدنيوىّ البحت. كما كان يجرى بينه وبينهم النقاش الجاد حول قضايا عقدية وعلمية. ولم يكونوا يحتسبون أنه على اطلاع واسع على جملة من المعارف المختلفة، أو أنه كان يهتم بها أصلا كالعلوم السياسية والقانونية والفلك والصناعات… وقد أثارتهم سعة معارفه ودقة إجاباته وملاحظاته.
ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثنى على النجاشي ووصَفه بالعدل وهو إذ ذاك كافر. كما مدح حسانُ رضي الله عنه جبَلَةَ بنَ الأيْهَم بعد تنصُّره:
إنّ ابنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَعْشَرٍ–لم يَغْذُهُمْ آباؤهُمْ باللُّومِ
لَمْ ينسَني بالشامِ، إذْ هوَ رَبُّها–كلا ولا مُنتصِّرًا بالرُّومِ
يُعطِي الجزيلَ، ولا يراهُ عنده–إلا كبعضِ عَطِيةِ المذمومِ
والأمثلة كثيرة في السيرة، يضيق عنها المقامُ هنا، وهي مطردة أيضا في مراسلات مشايخ وأمراء المهادنة والمقاومة مع المستعمرين الفرنسيين والإسبان.
لقد كان للاحتكاك الفكري الناتج عن المراسلات المذكورة أعلاه أثره في تقدير بعض المثقفين، من المستعمرين وغيرهم، لشخصية الشيخ سيديَ بابَه. فكتب الفرنسيون حوله كتابات كثيرة، لا يمكن الجزم بأنها تضاهي في حجمها ودقتها ما كتبه فيه العلماءُ والأدباءُ الفصحاءُ والشعبيون، إلا أنها كثيرة وجدِّيةٌ أحيانا. وليست تلك المراجع الأجنبية غربيَّة كلها أو فرنسية، لكن أغلبها كان فرنسيا، كما هو شأن الكتابات التي تناولت المنطقة في ذلك الزمن.
ومن أوصافه التي لا تكاد تخلو منها أيٌّ من تلك الكتابات، سعةُ الاطلاع وصِدقُ الحديث والبعدُ عن المادِّيات، إذ لم يكلمهم يوما في حاجة ماديٍّة متمحضة، كما يصفونه بالوقوف عند كلمته والتحضُّر والنظافة والاتِّزان والثقافة والبُعد عن الحِيَل والخداع.
يقول بول مارتي، متحدثا عن الشيخ سيديَ بابَه: “فهو مفكر فضوليٌّ يهتم بكل شيء، لا بالعلوم الإسلامية التي أصبح معلما لها فحسب، بل بشتى مظاهر الحضارة الحديثة، فكان الفضول يحمله إلى الاهتمام البالغ بالتنظيم الداخلي لفرنسا وطريقةِ عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحياةِ الفرنسيين الاجتماعية والاقتصادية وخاصة الدينية، وعلاقاتِهم بالأمم الأخرى التي كان يعرفها تمام المعرفة. كما حمله الفضول إلى الاهتمام بنشاط فرنسا في شمال إفريقيا وما يحدث في المغرب وليبيا ومصر وفي الشرق من أحداث، وكذلك في إفريقيا الغربية وإدارة الشعوب الزنجية. وكانت هذه الموضوعات محبَّبةً إلى قلبه لا يُفوِّتُ أيَّ فرصة لتناوُلها في نقاشاته»[[36]] .
وعلى الرغم من حقد الضابط الاستعماري الدمويِّ لويس افرير جانه على عموم البيضان، ووصفه إياهم بأبشع الأوصاف، مساويا في ذلك بين مَن المُوالي منهم والمعادي، خصوصا أولَ زمنه قبل أن يبدأ يفهَم ظروفهم وعقلياتهم ويُعجَب بشجاعتهم، وعلى الرغم من خلافه الشخصي مع الشيخ سيديَ بابَه بسبب سوء أدب صدر منه تجاه ابن عمه المختار بن داداه، إلا أنه عبَّر عن مفاجأته وانبهاره ببعض الأوصاف الخِلقية والخُلُقية لهذا الشيخ، قائلا في آخر وصف له دقيق: «لقد تأكدت من ذلك الوقت أن ما يذاع من ذكاء الرجل لا مبالغة فيه… دخل الرجل في حوار علمي مع نقيب الهندسة العسكرية جيرار، متحدثا معه في علم الفلك والفيزياء. فلابد أن لهذا الشيخ تكوينا موسوعيا أو ذكاء خارقا… إلى أن يقول: إنه طراز آخر من الرجال مؤهّلٌ حتى لقيادة البيض هناك في أوربا».[[37]]
خاتمة
ما كان الشيخ سيديَ بابَه يُخفي موقفه ولا يتردد في استصوابه شرعا وواقعا. ولذلك، لَمَّا عاد القاضي محمد ابنَ اُوَّاهُ الأبياريُّ من رحلة قادته إلى مناطق أخرى من البلاد، وأخبره أن بعض زوايا تلك البلاد يأخذون عليه أربع مسائل: أولاها قراءتُه لحرف الضاد بمخرج وصِفةٍ مخالفيْن لما يعرفونه؛ والثانيةُ أنه يطيل الصلاة وقد يؤخرها، والثالثة أنه لا يساعد في رد من لجأ إلى الفرنسيين من المماليك إلى مواليهم؛ والرابعة أنه هو الذي جاء بالنصارى إلى هذه البلاد، قال له الشيخُ سيديَ بابَه: «أما أنت فسأجيبك. أما الأولى، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبرني أن الضاد غير المتفشية التي يقرأ بها أهل هذه البلاد ليست فصيحة، لكني لم أعتمد على المرائي، فبحثت في المصادر والمراجع حتى تبيَّن لي عدمُ فصاحتها، وبقيتُ أنتظر الرواية، إلى أن شافهني بها أخي وصديقي محمد فال بن بابه. (يقول بعد ذلك في كتاب له حول الموضوع: “وأما الرواية التي وُعِدَ بها قَبْـلُ فهي ما شافهنا به أخونا الأديبُ العالمُ الثقةُ المحققُ التقيُّ الشيخُ محمد فال بن بابه بن أحمد بيبه العلويُّ حفظه الله وجزاه خيرا”).
وأما المَماليك فلم أسع في ردهم لأنهم لم يهربوا أصلا من مواطنهم وأهليهم إلا عن سوء معاملة باديةٍ عليهم.
وأما تأخير الصلاة فإني أشرع أولَ الوقت في التهيؤ لها، “وأنتم في صلاة ما انتظرتموها”، لكني بطيء التهيؤ، كما أني أرى وجوب إقامة الأركان والتلاوة على حالهما، وتخفيفُ الصلاة المأمورُ به نسبي بعيدٌ عما هو منتشر اليوم من صلاة مفرطة في السرعة.
وأما دخول الفرنسيين، فلن يكون بي من التوفيق والحظ ما يجعلني أنا السببَ في مجيئهم إلى هؤلاء المسلمين المغلوبين المضطهدين المعتدَى عليهم يوميا في دينهم ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم. (بالحسانية: ما نَلْحَكْهَ من متْن العكدْ)!
ويضيف الشيخُ سيديَ بابَه: “وكنتُ دوْما أدعو الله سبحانه وتعلى أن يفرج عنا وعن المسلمين في بلاء السيْبة المزمن، ولو بمجيء أمة أخرى تبسط سلطانها على هذه الديار، لكني لم أدع الله تعلى أن تكون تلك الأمة مسلمة؛ فهو تقديرٌ سابقٌ من الباري سبحانه وتعلى، إذْ لا يوجد في الوقت قوةٌ إسلامية قادرة على إنهاء السيبة في هذه الربوع».
(يتواصل بحول الله).
للتواصل مع الكاتب
[email protected]
المصادر والمراجع
هاذِ لبْـرَ فيك امانَ–عنَّكْ لَحَّكْهَ عَجْلانَ
وارسلِّي بِمَا أمْكَـانَ–من شِي فيهْ المقْصُودْ إعودْ
أكول الخيـــام أنِّ ذانَ–فالحبس أُلا عَنْدِي موجودْ
غير امْحَقَّقْ عن مُلانَ–موجود أعن لعمرْ محدودْ
وِلا قَدَّرْنَ مَا رَيْـت آلَ–يَحْصَلْ بيهَ فَم المقصودْ
كيسْ اعْلِي محمود الاَّلَ–تتْعَدَّ كَاعْ اعْلي مَحْمُودْ.
X. Coppolani. Rapport d’ensemble sur ma mission au Soudan français. (1re partie: chez les Maures.). 1899. et Paul Marty، Etude sur l’islam et les tribus du Soudan، tome III، Les tribus maures du Sahel et du Hoddh, Editions Ernest LEROUX, Paris, 1921.
وردَتْ حِياضَ نَـوالِه وعلومِــهِ–هِيمُ الوَرَى فشَفَى غليلَ الهِيمِ
في كَفهِ رزقُ الأنـامِ فكلُّهُم–ساعٍ لموضع رزْقه المقسومِ
فترى البيوت أمامَهُ مملوءةً–مـا بين ناوِى رحلـةٍ ومُقيمِ
كُلاًّ بنسبة ما يحاول خَصَّه–من قُوتِ أفئدةٍ وقُوت جُسومِ
لَمْ يَكْفِهِ المْيْرُ الكثيرُ لدى الْقِرَى–كَلاَّ، ورِسْلُ الكُوم، نَحْرَ الكُومِ
فتَرَى بساحته الدِّماءَ وفَرْثَها–ولَقَى العِظامِ جديدةٍ ورَمِيمِ
وتَرَى القُدورَ روَاسيًا وتَرَى الجِفَا–نَ لَوَامِعًا بحواضر المطعُومِ. إلخ