لقد أحرج المعجبين بالشنقيطي تصديه للصّد عن تنفيذ حد الردة على المستهزئ المخذول نافيا وجود هذا الحد من أصله معتبرا أنه من مصائب الأحكام الفقهية التي نبتت على ضفاف الوحي؛ ولقد لاحظت خلال قراءتي لآراء الشنقيطي في مقاليْه ثغرات أردت مناقشتها في هذه الورقة.
أولها: نفيه القاطع وحكمه الجازم بعدم وجود حد في غير ما أسماه الردة العسكرية، وهو رأي لم يخرج من العهدة بعزوه لأحد الأئمة المعتبرين، وقد نوقش فيه من طرف بعض الإخوة ولم أجد له ردا على تلك المناقشة، وهو عندي مردود بمقدمتين لا مراء فيهما أولاهما أن المستهزئ كافر بنص الكتاب حيث قال جل من قائل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ}
والثانية أن من كفر بعد إيمانه يقتل بنص قوله صلى الله عليه وسلم : “من بدل دينه فاقتلوه” (صحيح البخاري ج 4 ص 61)، وأن المرتد أجمع العلماء على قتله!
وقد حاول الشنقيطي رد هذا الحديث سندا بالطعن في عكرمة ومتنا بمخالفة آية {لآ إكراه في الدين} .
ولدي إشكالات في هذا الرد وذلك الطعن يتوقف على جوابها جدوى المناقشة تتمثل في الأسئلة التالية:
إن قواعد البحث العلمي تقتضي تحديد المنطلقات قبل النقاش في الفروع، فقد أصّل الأئمة قواعد لاستنباط الأحكام في القرون المزكاة بإلهام من الله تعالى الذي تكفّل بحفظ الشريعة، فلا بد أن نتفق على الانطلاق منها وجعلها حكما عند الاختلاف، أو الاصطلاح على قواعد أخرى بغية الوصول إلى أرضية مشتركة تسهّل التواصل بين الباثّ والمتقبل، وإلا كان الجدل في الفروع غير مثمر.
ولنا أن نتساءل من هذا المنطلق هل نحتاج لغربلة جديدة لمسائل الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، أم أننا متفقون على الانطلاق من جهود أئمة الحديث؟ وعليه فهل رجعت مرويات البخاري القهقرى بعد أن جازت القنطرة أم أنها لا تزال حجة؟ وما موقفنا من الإجماع ؟
والمشكلة الجوهرية التي تواجه المعجبين بالشنقيطي ويصعب تسويق رأيه فيها أنه لا يُعرف في مسألة قتل المرتد خلاف بين القنوات التي تلقينا عنها الوحي الذي نفخر به ونبرأ مما شابه من “تمحّلات” وأن مذاهب الأئمة الذين احتاج الشنقيطي في تسويغ رأيه إلى الاستنجاد بقواعدهم في تفسير النصوص الشرعية – كما وقع للحنفية في رد خبر الآحاد في المصرّاة لمخالفته قياس الأصول، وعدم العمل بالتغريب الوارد في الحديث الصحيح استنادا إلى قاعدة أن الزيادة على النص نسخ – وهو ما حاول تطبيقها في رد حديث ” من بدّل دينه فاقتلوه” بآية {لا إكراه في الدين}، لكن الحنفية كغيرهم من الفقهاء اتفقوا على قتل المرتد والسابّ وهذه نصوصهم.
فمن المصنّفين في الإجماع قال ابن المنذر: “وأجمع عوام أهل العلم على وجوب القتل على من سب النبي صلى الله عليه وسلم” الإقناع لابن المنذر – (ج 2 ص 584).
وقد نص الحصفكي من فقهاء الحنفية بأن الكافر بسب نبي من الأنبياء يقتل حدا. الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) – (ج 4 / ص 231)
وقال الخرشي المالكي: عند قول خليل: “وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل، أو سكر، أو تهور”: هذا مبالغة في القتل يعني أن الساب يقتل، وإن ظهر أنه لم يرد ذم النبي لأجل جهل، أو لأجل سكر، أو لأجل تهور في الكلام، وهو كثرته من غير ضبط إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان. شرح مختصر خليل للخرشي – (ج 8 ص 71)
وقال النووي الشافعي في شرح مسلم : وأما قوله صلى الله عليه وسلم والتارك لدينه المفارق للجماعة فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام شرح النووي على مسلم – (ج 11 ص 165).
وعن الحنابلة جاء في مسائل الإمام أحمد :”سمعت أبي يقول فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم قال تضرب عنقه”.
وقال ابن تيمية الحنبلي: وتحرير القول فيه: أن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. الصارم المسلول على شاتم الرسول – (ج 1 ص 4) .
وفتوى الخميني في قتل المستهزئ سلمان رشدي كفتنا مؤونة البحث في كتب الإمامية.
أما الطعن في رواية عكرمة لنفي حجية حديث “من بدل دينه فاقتلوه” فلا يصمد أمام التمحيص لأنه على تسليم هذا الطعن فهو مؤيد بحديثين أحدهما؛
حديث في الصحيحين ليس في سنده عكرمة يؤيد الحديث الأول وهو ما رواه البخاري قال: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” “لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة ” صحيح البخاري، (ج 9 ص 5).
ومثله في مسلم بسند ليس فيه عكرمة أيضا وهو حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، وأبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” “لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ” صحيح مسلم – (ج 3 ص 1302).
وحديث آخر في الصحيحين فيه تصريح بأن قتل المرتد قضاء من الله ورسوله، ونص البخاري حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن قرة بن خالد، حدثني حميد بن هلال، حدثنا أبو بردة، عن أبي موسى، قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك، فكلاهما سأل، فقال: ” يا أبا موسى، أو: يا عبد الله بن قيس ” قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت، فقال: ” لن، أو: لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس، إلى اليمن ” ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات. فأمر به فقتل.. صحيح البخاري – (ج 9 / ص 15)
وفي صحيح مسلم : حدثنا عبيد الله بن سعيد، ومحمد بن حاتم، واللفظ لابن حاتم، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا حميد بن هلال، حدثني أبو بردة، قال: قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين إلخ… صحيح مسلم – (ج 3 / ص 1456)
أما تجريح عكرمة الذي أراد به الشنقيطي نسف حجية الحديث الدال على قتل المرتد، فقد رجعنا إلى كتب الفن فوجدنا صورة أخرى لعكرمة غير التي تحدث عنها الشنقيطي، لا ندري هل بحث عنها لاستكمال الصورة قبل الحكم بالتجريح أم لا، وهي على كل حال أليق بمنصب عكرمة، وأحرى أن ينظر إليها الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومنها:
ما ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب عازيا لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي قد أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا منهم أحمد بن حنبل وابن راهويه ويحيى بن معين وأبو ثور ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا تعجب من سؤالي إياه، وحدثنا غير واحد أنهم شهدوا يحيى بن معين وسأله بعض الناس عن الاحتجاج بعكرمة فأظهر التعجب، قال أبو عبد الله: وعكرمة قد ثبتت عدالته بصحبة بن عباس وملازمته إياه وبأن غير واحد من العلماء قد رووا عنه وعدلوه قال وكل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وأبو عبد الله الحاكم وأبو عمر بن عبد البر فيه نحوا مما تقدم عن محمد بن نصر وبسط أبو جعفر الطبري القول في ذلك ببراهينه وحججه في ورقتين وقد لخصت ذلك وزدت عليه كثيرا في ترجمته من مقدمة شرح البخاري وسبق إلى ذلك أيضا المنذري في جزء مفرد تهذيب التهذيب – (ج 7 ص 272 )
وقد أنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح تحامل ابن حزم على عكرمة وبالغ في التشنيع عليه فقال: وهذا القول من جسارته وكان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار وإطلاق اللسان فيهم، ولا نعلم أحدا نسب إلى عكرمة وضع الحديث وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وغيرهما وكان مستجاب الدعوة. توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار – (ج 1 ص 122).
هذا من جهة ثبوت حد الردة نصا، وإجماع من سبق عليه؛ ومن الناحية القانونية، فإن حماية المقدسات أمر متفق عليه عالميا، وفي أعرق مجتمعات العالم ديموقراطية وعلمانية وليبرالية ( بريطانيا، فرنسا، أمريكا…)، يوجد دائما مُقدّسات يُحظر مسّها، و كل مجتمع له خصوصيته الثقافية ومقدّساته ومحظوراته ، وله أن يشرّع الأساليب الرادعة لحمايتها، وإذا كانت جميع الدول تعاقب على إهانة العَلَم ( قطعة من القماش اصطلح على رمزيتها )، قد تصل عقوبة إهانتها إلى حبس سبع سنوات في بعض الأحيان، وتسبب الأزمات بين الدول كما وقع في قصة إنزال العلم في القنصلية الجزائرية بالمغرب، فما بالك بالاستهزاء بالمقدّسات التوقيفية، خصوصا إذا تعلق الأمر بحبيب الله وخيرته من خلقه، في مجتمع مثل مجتمعنا، ليس لديه من أدوات الحضور في المحافل الدولية إلا الحفاظ على الثقافة المتصلة بهذه الرسالة المقدسة.
والظاهر أن نفي حد الردة والتفريق بين الردة العسكرية والفكرية – وإن سطرتها بعض الأيدي عن حسن نية – لوثة علمانية وإحدى تجليات عزل الدين عن مراكز القرار تأسيا بأوربا في نهضتها الحديثة؛ ذلك أن العلمانية في الدولة القومية الحديثة نقلت علاقات الولاء والبراء وقيم الانتماء للجماعة، والخروج بها من الدين إلى مؤسسة الدولة القومية عبر مفهوم المواطنة؛ ونقلت لهذه الدولة الوظائف العمومية للدين، مما جعلها تشكك في عقوبة المرتد المنصوصة، باعتبار أنها حضور للدين في القرار السيادي للدولة المدنية متبعة بذلك سنن من قبلها من الأمم الأوربية التي كان التحرر من الدين وإبعاده عن مركز القرار سببا في نهضتها، “ونحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلّنا الله”
وقد ساهم في تقبل هذه الفكرة أن الإسلام في فترة من الفترات كان في قفص الاتهام، يحتاج في تسويقه إلى الناس انسجام تشريعاته مع الحضارة الأوربية الغازية، وشهدت تلك الفترة كتابات في ديموقراطية الإسلام واشتراكيته إلخ…ولكن إفلاس هذه الحضارة بشقيها الغربي والشرقي، وظهور أمارات التمكين وبشائر العزة تجعل الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك التنازلات وتلقي الوحي بمعزل عن تلك الإكراهات.
فإن تذرع متذرع بالتريث في مجابهة الرأي العام العالمي بقتل نفس في ظروف دولية طغى فيها التخويف من الإسلام (إسلام فوبيا) واتهامه بالوحشية والتلويح بحقوق الإنسان… أجبناه بعنوان مقال الشنقيطي: “عودوا إلى كتاب ربكم ودعوا بنيات الطريق”، وفي كتاب ربنا أن {الفتنة أشد من القتل}؛ وقد فسرها المفسرون بالارتداد أو الشرك (تفسير الطبري ج 3 ص 565) ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير – (ج 1 / ص 155)، ففتنة الناس عن دينهم وتحطيم الحواجز النفسية وهي آخر الحصون أخطر من قتل نفس جنت على نفسها وتبرأ منها أقرب الناس إليها، حماية لبقية المجتمع في عصر طغت فيه العولمة، وصعب فيه الحجز الصحي لمنع العدوى الفكرية، وتلويح المجتمع الدولي بحقوق الإنسان لا يؤبه به، وهو مثل تلويح المشركين بحرمة الشهر الحرام الذي أجاب عنه الوحي في قوله جل من قائل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، فبيّن الله عز وجلّ أن الاحتجاج بتعظيم الحرمات مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه المسلمين، وبيّن أنه لا مجال للاحتماء بستار زائف ولا للحديث عن حرمات لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة، خصوصا أن هؤلاء المتشدقين من الأوربيين يمارسون يوميا قتل المسلمين ويخرجونهم من ديارهم ويظاهرون على إخراجهم.
ولا بد من التنبيه إلى أن السياسة الجنائية في الإسلام، هي في الأصل سياسة وقاية من الجريمة، وحماية للمجتمع، وصيانة للدين الذي هو رأس المال، وللأنفس والأموال والأعراض.، وهي سياسة تشهر في وجه الجريمة سيف الحدود والقصاص، عقوبة جسيمة، تتهدد المجرم قبل أن يهم بارتكاب جريمته، ثم لا توقعها عليه إذا ارتكبها إلا بعد ثبوت كامل، وأدلة قاطعة وضمانات عادلة.
إن الإسلام لا يقتل النفس تشفيا، وحمايتها من قواعده الأساسية ومقاصده الجلية، ولا أدل على ذلك من قوله جل من قائل: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} ولا يقطع الأيدي استهانة بها، ولا يجلد الظهور تحقيرا للإنسان، ولكنه يستأصل العضو المريض صيانة لبقية الجسد، ويقتل المجرم الواحد، لنشر الطمأنينة بين آلاف البشر، وحيث طبّقت تعاليم الإسلام تقلصت الجرائم، وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً..
وفي ختام هذه الخواطر لدي رسالتان، الأولى: للشنقيطي استنهض فيها همته العالية ونفسه الطموحة وذكاءه المتميز، وجرأته في الصدع بما ظهر له أنه حق، أن يقوم لله منفردا ، للنظر في وجاهة هذه التساؤلات وتقدير المأزق الذي يعيش فيه المعجبون به، في انحيازه إلى معسكر مشبوه لم نجد في تبريراته كفاية لأن يدان الله بها، والمنتظر منه أن يرد على هذه الأسئلة بأجوبة مقنعة إن وجد لذلك سبيلا، أو أن ينصاع لها إن أحس باهتزاز الأرجل المرجعية لقناعاته السابقة، بجراءته المعهودة وينحاز للسواد الأعظم من علماء الأمة ويستعمل عبقريته في الكشف عن أسرار الوحي، سائرا في نطاق المحكمات، ويترك الدفاع عن سقطات المخذولين والسباحة ضد التيار { ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} .
الرسالة الثانية إلى الدولة الموريتانية وقيادتها وأجهزتها الحكومية، أنبهها فيها على استيعاب دلالات المسيرات الحاشدة 7 و24 يناير2014 التي كادت أن تقتحم القصر الرئاسي، والوجوه التي شاركت فيها، ولا شك أن لها وسائل رصدها لكن تحليل هذا الحدث وإعطاءه الحجم المناسب أمر من الأهمية بمكان، ذلك أن الدولة المدنية الحديثة التي ورثوها عن الاستعمار بعد تناسخ في الترائك والقائمة على إبعاد الدين عن الهيمنة على حياة الناس وحصره في وزارة للشؤون الدينية أمر يعتبره المتدينون عموما وعلماء الدين على وجه الخصوص أمرا نشازا وظاهرة مرَضية وإن اختلفوا في طريقة التعامل مع هذا الواقع الجديد؛ فبعضهم آثر الابتعاد عن السياسة والحكام إيثارا للسلامة واعتبر نفسه على ثغر من الثغور، وطفق ينشر العلم ويساهم في الحفاظ على الشخصية العلمية للبلاد فشيد المحاظر والمعاهد والجامعات وأنشأ ينشر العلم في أنحاء العالم حتى وصلت جهود بعضهم إلى أن بعض خريجي هذه المحاظر ممن يشغل مراكز قيادية في جامعات أندونوسية يتقن تدريس طرة ابن بونه في النحو، وطرة محنض بابا في البيان، وطرة عبد السلام بن حرمة في المنطق، كما وصل إشعاع بعضهم إلى إنشاء مراكز علمية في آمريكا وأوربا فضلا عن إفريقيا، وحافظ هؤلاء على المركز العلمي للبلاد، وخرجوا أفواجا ساهموا في التواصل بين الشعوب وخدموا الحكومات بالدبلوماسية الشعبية والتواصل المثمر القائم على الاحترام والإعجاب.
وبعضهم آثر الإصلاح من الداخل إيثارا لتقليل الشر وعدم ترك الساحة للمفسدين ففرض حضورا معتبرا للدين وأبلى بلاء حسنا.
وبعضهم جهر بالدعوة وقارع الحكام فكون الأحزاب مقاومة للشر بمثل وسائله واستغل الوسائل المتاحة لتبليغ دين الله وإرجاعه إلى الهيمنة على حياة الناس، وتحمل في سبيل ذلك من الأذى ما تحمل.
وبعضهم امتهن الدعوة وساح في الأرض يفقه في الدين مركزا على مواطن الجهل، ومظانّ الغواية.
والرسالة التي ينبغي أن لا تغيب عن الدولة أن اجتماع هذه الأطياف في مسيرة واحدة إلى القصر الرئاسي على اختلاف في المشارب، وتباين في وجهات النظر مطالبين بتطبيق القانون على هذا المستهزئ المخذول أمر له دلالته؛ فهو حري بالدراسة وجدير بأن يقرأ فيه بين السطور.
أولها: نفيه القاطع وحكمه الجازم بعدم وجود حد في غير ما أسماه الردة العسكرية، وهو رأي لم يخرج من العهدة بعزوه لأحد الأئمة المعتبرين، وقد نوقش فيه من طرف بعض الإخوة ولم أجد له ردا على تلك المناقشة، وهو عندي مردود بمقدمتين لا مراء فيهما أولاهما أن المستهزئ كافر بنص الكتاب حيث قال جل من قائل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ}
والثانية أن من كفر بعد إيمانه يقتل بنص قوله صلى الله عليه وسلم : “من بدل دينه فاقتلوه” (صحيح البخاري ج 4 ص 61)، وأن المرتد أجمع العلماء على قتله!
وقد حاول الشنقيطي رد هذا الحديث سندا بالطعن في عكرمة ومتنا بمخالفة آية {لآ إكراه في الدين} .
ولدي إشكالات في هذا الرد وذلك الطعن يتوقف على جوابها جدوى المناقشة تتمثل في الأسئلة التالية:
إن قواعد البحث العلمي تقتضي تحديد المنطلقات قبل النقاش في الفروع، فقد أصّل الأئمة قواعد لاستنباط الأحكام في القرون المزكاة بإلهام من الله تعالى الذي تكفّل بحفظ الشريعة، فلا بد أن نتفق على الانطلاق منها وجعلها حكما عند الاختلاف، أو الاصطلاح على قواعد أخرى بغية الوصول إلى أرضية مشتركة تسهّل التواصل بين الباثّ والمتقبل، وإلا كان الجدل في الفروع غير مثمر.
ولنا أن نتساءل من هذا المنطلق هل نحتاج لغربلة جديدة لمسائل الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، أم أننا متفقون على الانطلاق من جهود أئمة الحديث؟ وعليه فهل رجعت مرويات البخاري القهقرى بعد أن جازت القنطرة أم أنها لا تزال حجة؟ وما موقفنا من الإجماع ؟
والمشكلة الجوهرية التي تواجه المعجبين بالشنقيطي ويصعب تسويق رأيه فيها أنه لا يُعرف في مسألة قتل المرتد خلاف بين القنوات التي تلقينا عنها الوحي الذي نفخر به ونبرأ مما شابه من “تمحّلات” وأن مذاهب الأئمة الذين احتاج الشنقيطي في تسويغ رأيه إلى الاستنجاد بقواعدهم في تفسير النصوص الشرعية – كما وقع للحنفية في رد خبر الآحاد في المصرّاة لمخالفته قياس الأصول، وعدم العمل بالتغريب الوارد في الحديث الصحيح استنادا إلى قاعدة أن الزيادة على النص نسخ – وهو ما حاول تطبيقها في رد حديث ” من بدّل دينه فاقتلوه” بآية {لا إكراه في الدين}، لكن الحنفية كغيرهم من الفقهاء اتفقوا على قتل المرتد والسابّ وهذه نصوصهم.
فمن المصنّفين في الإجماع قال ابن المنذر: “وأجمع عوام أهل العلم على وجوب القتل على من سب النبي صلى الله عليه وسلم” الإقناع لابن المنذر – (ج 2 ص 584).
وقد نص الحصفكي من فقهاء الحنفية بأن الكافر بسب نبي من الأنبياء يقتل حدا. الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) – (ج 4 / ص 231)
وقال الخرشي المالكي: عند قول خليل: “وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل، أو سكر، أو تهور”: هذا مبالغة في القتل يعني أن الساب يقتل، وإن ظهر أنه لم يرد ذم النبي لأجل جهل، أو لأجل سكر، أو لأجل تهور في الكلام، وهو كثرته من غير ضبط إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان. شرح مختصر خليل للخرشي – (ج 8 ص 71)
وقال النووي الشافعي في شرح مسلم : وأما قوله صلى الله عليه وسلم والتارك لدينه المفارق للجماعة فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام شرح النووي على مسلم – (ج 11 ص 165).
وعن الحنابلة جاء في مسائل الإمام أحمد :”سمعت أبي يقول فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم قال تضرب عنقه”.
وقال ابن تيمية الحنبلي: وتحرير القول فيه: أن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. الصارم المسلول على شاتم الرسول – (ج 1 ص 4) .
وفتوى الخميني في قتل المستهزئ سلمان رشدي كفتنا مؤونة البحث في كتب الإمامية.
أما الطعن في رواية عكرمة لنفي حجية حديث “من بدل دينه فاقتلوه” فلا يصمد أمام التمحيص لأنه على تسليم هذا الطعن فهو مؤيد بحديثين أحدهما؛
حديث في الصحيحين ليس في سنده عكرمة يؤيد الحديث الأول وهو ما رواه البخاري قال: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” “لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة ” صحيح البخاري، (ج 9 ص 5).
ومثله في مسلم بسند ليس فيه عكرمة أيضا وهو حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، وأبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” “لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ” صحيح مسلم – (ج 3 ص 1302).
وحديث آخر في الصحيحين فيه تصريح بأن قتل المرتد قضاء من الله ورسوله، ونص البخاري حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن قرة بن خالد، حدثني حميد بن هلال، حدثنا أبو بردة، عن أبي موسى، قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك، فكلاهما سأل، فقال: ” يا أبا موسى، أو: يا عبد الله بن قيس ” قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت، فقال: ” لن، أو: لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس، إلى اليمن ” ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات. فأمر به فقتل.. صحيح البخاري – (ج 9 / ص 15)
وفي صحيح مسلم : حدثنا عبيد الله بن سعيد، ومحمد بن حاتم، واللفظ لابن حاتم، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا حميد بن هلال، حدثني أبو بردة، قال: قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين إلخ… صحيح مسلم – (ج 3 / ص 1456)
أما تجريح عكرمة الذي أراد به الشنقيطي نسف حجية الحديث الدال على قتل المرتد، فقد رجعنا إلى كتب الفن فوجدنا صورة أخرى لعكرمة غير التي تحدث عنها الشنقيطي، لا ندري هل بحث عنها لاستكمال الصورة قبل الحكم بالتجريح أم لا، وهي على كل حال أليق بمنصب عكرمة، وأحرى أن ينظر إليها الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومنها:
ما ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب عازيا لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي قد أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا منهم أحمد بن حنبل وابن راهويه ويحيى بن معين وأبو ثور ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا تعجب من سؤالي إياه، وحدثنا غير واحد أنهم شهدوا يحيى بن معين وسأله بعض الناس عن الاحتجاج بعكرمة فأظهر التعجب، قال أبو عبد الله: وعكرمة قد ثبتت عدالته بصحبة بن عباس وملازمته إياه وبأن غير واحد من العلماء قد رووا عنه وعدلوه قال وكل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وأبو عبد الله الحاكم وأبو عمر بن عبد البر فيه نحوا مما تقدم عن محمد بن نصر وبسط أبو جعفر الطبري القول في ذلك ببراهينه وحججه في ورقتين وقد لخصت ذلك وزدت عليه كثيرا في ترجمته من مقدمة شرح البخاري وسبق إلى ذلك أيضا المنذري في جزء مفرد تهذيب التهذيب – (ج 7 ص 272 )
وقد أنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح تحامل ابن حزم على عكرمة وبالغ في التشنيع عليه فقال: وهذا القول من جسارته وكان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار وإطلاق اللسان فيهم، ولا نعلم أحدا نسب إلى عكرمة وضع الحديث وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وغيرهما وكان مستجاب الدعوة. توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار – (ج 1 ص 122).
هذا من جهة ثبوت حد الردة نصا، وإجماع من سبق عليه؛ ومن الناحية القانونية، فإن حماية المقدسات أمر متفق عليه عالميا، وفي أعرق مجتمعات العالم ديموقراطية وعلمانية وليبرالية ( بريطانيا، فرنسا، أمريكا…)، يوجد دائما مُقدّسات يُحظر مسّها، و كل مجتمع له خصوصيته الثقافية ومقدّساته ومحظوراته ، وله أن يشرّع الأساليب الرادعة لحمايتها، وإذا كانت جميع الدول تعاقب على إهانة العَلَم ( قطعة من القماش اصطلح على رمزيتها )، قد تصل عقوبة إهانتها إلى حبس سبع سنوات في بعض الأحيان، وتسبب الأزمات بين الدول كما وقع في قصة إنزال العلم في القنصلية الجزائرية بالمغرب، فما بالك بالاستهزاء بالمقدّسات التوقيفية، خصوصا إذا تعلق الأمر بحبيب الله وخيرته من خلقه، في مجتمع مثل مجتمعنا، ليس لديه من أدوات الحضور في المحافل الدولية إلا الحفاظ على الثقافة المتصلة بهذه الرسالة المقدسة.
والظاهر أن نفي حد الردة والتفريق بين الردة العسكرية والفكرية – وإن سطرتها بعض الأيدي عن حسن نية – لوثة علمانية وإحدى تجليات عزل الدين عن مراكز القرار تأسيا بأوربا في نهضتها الحديثة؛ ذلك أن العلمانية في الدولة القومية الحديثة نقلت علاقات الولاء والبراء وقيم الانتماء للجماعة، والخروج بها من الدين إلى مؤسسة الدولة القومية عبر مفهوم المواطنة؛ ونقلت لهذه الدولة الوظائف العمومية للدين، مما جعلها تشكك في عقوبة المرتد المنصوصة، باعتبار أنها حضور للدين في القرار السيادي للدولة المدنية متبعة بذلك سنن من قبلها من الأمم الأوربية التي كان التحرر من الدين وإبعاده عن مركز القرار سببا في نهضتها، “ونحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلّنا الله”
وقد ساهم في تقبل هذه الفكرة أن الإسلام في فترة من الفترات كان في قفص الاتهام، يحتاج في تسويقه إلى الناس انسجام تشريعاته مع الحضارة الأوربية الغازية، وشهدت تلك الفترة كتابات في ديموقراطية الإسلام واشتراكيته إلخ…ولكن إفلاس هذه الحضارة بشقيها الغربي والشرقي، وظهور أمارات التمكين وبشائر العزة تجعل الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك التنازلات وتلقي الوحي بمعزل عن تلك الإكراهات.
فإن تذرع متذرع بالتريث في مجابهة الرأي العام العالمي بقتل نفس في ظروف دولية طغى فيها التخويف من الإسلام (إسلام فوبيا) واتهامه بالوحشية والتلويح بحقوق الإنسان… أجبناه بعنوان مقال الشنقيطي: “عودوا إلى كتاب ربكم ودعوا بنيات الطريق”، وفي كتاب ربنا أن {الفتنة أشد من القتل}؛ وقد فسرها المفسرون بالارتداد أو الشرك (تفسير الطبري ج 3 ص 565) ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير – (ج 1 / ص 155)، ففتنة الناس عن دينهم وتحطيم الحواجز النفسية وهي آخر الحصون أخطر من قتل نفس جنت على نفسها وتبرأ منها أقرب الناس إليها، حماية لبقية المجتمع في عصر طغت فيه العولمة، وصعب فيه الحجز الصحي لمنع العدوى الفكرية، وتلويح المجتمع الدولي بحقوق الإنسان لا يؤبه به، وهو مثل تلويح المشركين بحرمة الشهر الحرام الذي أجاب عنه الوحي في قوله جل من قائل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، فبيّن الله عز وجلّ أن الاحتجاج بتعظيم الحرمات مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه المسلمين، وبيّن أنه لا مجال للاحتماء بستار زائف ولا للحديث عن حرمات لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة، خصوصا أن هؤلاء المتشدقين من الأوربيين يمارسون يوميا قتل المسلمين ويخرجونهم من ديارهم ويظاهرون على إخراجهم.
ولا بد من التنبيه إلى أن السياسة الجنائية في الإسلام، هي في الأصل سياسة وقاية من الجريمة، وحماية للمجتمع، وصيانة للدين الذي هو رأس المال، وللأنفس والأموال والأعراض.، وهي سياسة تشهر في وجه الجريمة سيف الحدود والقصاص، عقوبة جسيمة، تتهدد المجرم قبل أن يهم بارتكاب جريمته، ثم لا توقعها عليه إذا ارتكبها إلا بعد ثبوت كامل، وأدلة قاطعة وضمانات عادلة.
إن الإسلام لا يقتل النفس تشفيا، وحمايتها من قواعده الأساسية ومقاصده الجلية، ولا أدل على ذلك من قوله جل من قائل: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} ولا يقطع الأيدي استهانة بها، ولا يجلد الظهور تحقيرا للإنسان، ولكنه يستأصل العضو المريض صيانة لبقية الجسد، ويقتل المجرم الواحد، لنشر الطمأنينة بين آلاف البشر، وحيث طبّقت تعاليم الإسلام تقلصت الجرائم، وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً..
وفي ختام هذه الخواطر لدي رسالتان، الأولى: للشنقيطي استنهض فيها همته العالية ونفسه الطموحة وذكاءه المتميز، وجرأته في الصدع بما ظهر له أنه حق، أن يقوم لله منفردا ، للنظر في وجاهة هذه التساؤلات وتقدير المأزق الذي يعيش فيه المعجبون به، في انحيازه إلى معسكر مشبوه لم نجد في تبريراته كفاية لأن يدان الله بها، والمنتظر منه أن يرد على هذه الأسئلة بأجوبة مقنعة إن وجد لذلك سبيلا، أو أن ينصاع لها إن أحس باهتزاز الأرجل المرجعية لقناعاته السابقة، بجراءته المعهودة وينحاز للسواد الأعظم من علماء الأمة ويستعمل عبقريته في الكشف عن أسرار الوحي، سائرا في نطاق المحكمات، ويترك الدفاع عن سقطات المخذولين والسباحة ضد التيار { ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} .
الرسالة الثانية إلى الدولة الموريتانية وقيادتها وأجهزتها الحكومية، أنبهها فيها على استيعاب دلالات المسيرات الحاشدة 7 و24 يناير2014 التي كادت أن تقتحم القصر الرئاسي، والوجوه التي شاركت فيها، ولا شك أن لها وسائل رصدها لكن تحليل هذا الحدث وإعطاءه الحجم المناسب أمر من الأهمية بمكان، ذلك أن الدولة المدنية الحديثة التي ورثوها عن الاستعمار بعد تناسخ في الترائك والقائمة على إبعاد الدين عن الهيمنة على حياة الناس وحصره في وزارة للشؤون الدينية أمر يعتبره المتدينون عموما وعلماء الدين على وجه الخصوص أمرا نشازا وظاهرة مرَضية وإن اختلفوا في طريقة التعامل مع هذا الواقع الجديد؛ فبعضهم آثر الابتعاد عن السياسة والحكام إيثارا للسلامة واعتبر نفسه على ثغر من الثغور، وطفق ينشر العلم ويساهم في الحفاظ على الشخصية العلمية للبلاد فشيد المحاظر والمعاهد والجامعات وأنشأ ينشر العلم في أنحاء العالم حتى وصلت جهود بعضهم إلى أن بعض خريجي هذه المحاظر ممن يشغل مراكز قيادية في جامعات أندونوسية يتقن تدريس طرة ابن بونه في النحو، وطرة محنض بابا في البيان، وطرة عبد السلام بن حرمة في المنطق، كما وصل إشعاع بعضهم إلى إنشاء مراكز علمية في آمريكا وأوربا فضلا عن إفريقيا، وحافظ هؤلاء على المركز العلمي للبلاد، وخرجوا أفواجا ساهموا في التواصل بين الشعوب وخدموا الحكومات بالدبلوماسية الشعبية والتواصل المثمر القائم على الاحترام والإعجاب.
وبعضهم آثر الإصلاح من الداخل إيثارا لتقليل الشر وعدم ترك الساحة للمفسدين ففرض حضورا معتبرا للدين وأبلى بلاء حسنا.
وبعضهم جهر بالدعوة وقارع الحكام فكون الأحزاب مقاومة للشر بمثل وسائله واستغل الوسائل المتاحة لتبليغ دين الله وإرجاعه إلى الهيمنة على حياة الناس، وتحمل في سبيل ذلك من الأذى ما تحمل.
وبعضهم امتهن الدعوة وساح في الأرض يفقه في الدين مركزا على مواطن الجهل، ومظانّ الغواية.
والرسالة التي ينبغي أن لا تغيب عن الدولة أن اجتماع هذه الأطياف في مسيرة واحدة إلى القصر الرئاسي على اختلاف في المشارب، وتباين في وجهات النظر مطالبين بتطبيق القانون على هذا المستهزئ المخذول أمر له دلالته؛ فهو حري بالدراسة وجدير بأن يقرأ فيه بين السطور.