بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآلِه وصحبه ومن والاه،
أعِدُكَـ ـــ أيها القارئ الكريم ـــ أن هذا المقال لن يكون “تقليديا” كما قد يُستشف لأول وهلة من عبارة ذكرى الاستقلال، لكنه في الوقت ذاتِه قد يكاد يكون تقليديا محضا بحكم سياقه التاريخي والجغرافي…
ولتعلم ـــ لك تقديري واحترامي إذ تقرأ لي ـــ أن مقالي هذا يسعى أشواطا بين متلازمتين هما المكان والزمان، فالمكان: أڭـجوجت وقد أتوسع فيه أحيانا ليشمل الكلامُ ولايةَ إينشيري بل والساحل عموما الذي هو الحيز الجغرافي الكبير الذي تُعـدُّ ولاية إينشيري جزءا لا يتجزأ منه. أما الزمان فهو بالضبط: 28 نوفمبر من عدة سنوات متباعدة. لا أحيد عن هذا التقويم الزمني قيد أنملة.
تكررت ذكرى الاستقلال 58 مرة منذ عام 1960م، وها هي تعود لنا في التاسعة والخمسين لكن إحياءها الرسمي هذه المرة في مدينتي الحبيبة أ ڭـجوجت، فحدثتني النفس أن لا أُمِــرَّ هذه الفرصة “الذهبية” دون تعليق أنَــوِّهُ فيه بهذه المدينة ليبقى تذكارا في دفاتري، وليُسهم في تعريف الوافدين لأول مرّة والأجيال الناشئة بل والفاعلة حاليا في الطيف السياسي والثقافي بشأن هذه الذكرى وهذه المدينة التي تحتضنها لأوَّل المرة.
أما الزمان: (28، نوفمبر)
هل سبق أن سألت نفسك عن هذا التاريخ بالضبط؟؟ لماذا كان الثامن والعشرين من تشرين الثاني هو يوم توقيع وثيقة الاستقلال؟؟ لنحاولَ الإجابة قد يساعدُنا البحث عما وقع قبل هذا الحدث عام 1960م على الصعيد الوطني والعالمي في ذات التاريخ.
أما على المستوى العالمي: فإن 28 نوفبر كان تاريخ عدة أحداث من بينها ما قد يعسر الربط بينه وبين استقلالنا كوصول الرحالة فرناندو ماجلان 28/11/1520م إلى المحيط الهادئ قادمًا من الأطلسي عبر المضيق الذي سيعرف لاحقا بمضيق ماجلان، 1893 نيوزيلندا تصبح أول دولة في العالم تصوت فيها النساء في انتخابات عامة، 1912 ألبانيا تعلن استقلالها عن الدولة العثمانية…. لكن لعل أشهر حدث عالمي حصل في ذات التاريخ كان انعقاد أولى جلسات مؤتمر طهران الذي جمع بين القادة الثلاثة جوزيف ستالين وفرانكلين روزفلت وونستون تشرشل، أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل تنسيق خطة جماعية لمواجهة دول المحور، تواصل المؤتمر حتى 1 ديسمبر. أما غير هذا فكثير من تنصيبات الملوك والرؤساء والاغتيالات وتواريخ مواليد ووفيات الموسيقيين والمغننين…
ولكن فيما يخصنا، حصل حدثان مهمّان جِدًّا أحدهما بلغ من الشهرة ما بلغ، بعكس الحدث الذي قبله تمامًا!
حصل فعلا حدث معين سنة 1884م، حدث مُلفتٌ للانتباه، والعجيب الغريب أنه ـــ وحتى الآن ـــ غير متداول على مستوى يليق به أحرى أن يكون في مناهجنا الدراسية!، ألا وهو:
في 28 نوفمبر 1884م وُقعت اتفاقية بين طرفين أحدُهما العلّامة الزعيم عبد العزيز ولد الشيخ محمد المامِ مُـمَـثَّـلًا بثلاثة رجال من أولاد بسباع، ومملكة إسبانيا ممثلة في إيميليو بونلي وزبدتها أن عبد العزيز يأذن لإسبانيا تسيير مركز للتبادل التجاري.
انظر أيها القارئ الكريم لزعيم عظيم وسفراء مُعتمدين من “آباء” وطنك الذي أنت من أبنائه.
أما الثاني:
في 28 نوفمبر 1908م: الأمير الباسل أحمد ولد الديد يقارع المستعمر الفرنسي في وقعة لڭـويشيشي، ويهزمهم هزيمة نكراء…وبقية التفاصيل درسها الكثير منا في الابتدائية وما بعدها، وهي في الروايات الشفهية ذائعة الصيت بين أوساط أهل البدو منا والحضَر.
لم أكن طبعًا على علم بهذه المعطيات إلا منذ أعوام يسيرة، لكن بعضها صار موضوعا لبحثي وبعض أسفاري كقصة اتفاق الإسبان مع الزعيم عبد العزيز (لم أكمل البحث بعد). لكن أوَّل من أعلمني بالاتفاق المذكورِ الباحثُ الفرنسي Benjamin Acloque
الذي ألقى محاضرة في 20 مارس 2018م في روما تضمنت هذا الشأن، ووافاني ببحثه ـــ الذي لم ينشره بعد ـــ وبنص الوثيقة مترجما من الإسبانية إلى الفرنسية…ثم حصلت على خبرها وخيوط ومعلومات أخرى عنها من مراجع مختلفة.
لكنني بإلهام إلهي انتبهت دون أن ينبهني باحث ولا مؤرخ لكون الوثيقة أُبرِمت في ذات تاريخ استقلال موريتانيا (28 نوفمبر) الذي سيحصل فيما بعد.
هل يا ترى قرر المستعمر الاتفاقَ معنا على الاستقلال في هذا التاريخ بالضبط رابطًا بينه وبين الحدثين السابقين؟؟؟ هل يوجد في مذكرات دڭـولْ، أو الإرشيف الفرنسي أو أعوانه ما يُجيب عن هذا السؤال؟؟ إذا كان الجواب بِنَعم، فما الخلاصة النهائية إذًا؟؟؟
نواة بحث أهدِيها لكل عاشق لاكتشاف جواهر التاريخ…
وأما المكان (أڭـجوجت، إينشيري، الساحل)
— هل تعلم أيها القارئ الكريم، أن أوَّل بئر في أڭـجوجتْ، حفرها أحمد مسكه (المشهور ب مسكه) بن باركللَّ بن أحمد بازيد، ومن مظاهر التآخي بين الأعراق أن رجلًا من إخوتِنا الأفارقة وصف له المكان الذي سيجد فيه الماء العذب. ومشهورة هي القصة التي تنص على أن مسكه قال لأهله إن هدفه من اختيار هذا المكان بالضبط للحفر، أن يجمع لهم بين اللبن والتمر، وهذه الكلمة من جوامع كَلِمِ التخطيط الجيوستراتيجي الاستثماري…هذا العملاق (عالم، متصوف، زعيم “أمسكت عنه السلاطين” كما قال عنه الشيخ محمد المامِ، “نظَّـام نثَّـار” كما قال ابن الفلالي في العمران…) ربط علاقات وطيدة مع مملكة المغرب، والإمارات الموريتانية، وقبائل الشوكة…من ذلك مثلا علاقته الوثيقة مع الشيخ المختار الدميسي (بالمناسبة ربطت والده باركللّ صِلةٌ طَيبة بالولي المستتر سيدي أحمد الدميسي إذ التقيا في المدينة المنوَرة، كما قال أحمد مسكه بن العتيق في تقريره)، ويذكر مسكه في شعره القاضي ولد اعلي أممُّو…
لم يكن حفر بئر في أڭـجوجتْ حالة استثنائية بالنسبة له، إذ حفر تنْ إبراهيم مثلا وغيرها من الآبار، وما لم يحفره إذ كان قائما قبله اشتراه كشرائه عدة آبار من إيدَيْـبُساتْ بألف جذع من الإبل…
أما كون السخي المجيد آفلواط بن مولود بن باركللَّ بن أحمد بازيد، هو صاحب الحفر وقصتِهِ التي أوردناها…فغير صحيح، إذ الصواب أن آفلواط حفر بئرا مشهورة يُقال لها “النّــوَيْـبْ” هي ذات بئر إيـڭني المعروفة، لكن سبب اللبس الحاصل منذ فترة يسيرة، هو باختصار أن بئر مسكه التي حفر في أڭـجوجتْ يقال لها أيضا “النّــوَيْـبْ”!! وكِلا الرجلين ذو شأن ليس المقام مقام الاستفاضة فيه.
وقد يؤيد قصة الحفر المذكورة، كون كلمة أڭجوجت ـــ التي أصلها بالبربرية: أغـجوجت ـــ معناها: “موضع الحفر” (راجع إخبار الأحبار بأخبار الآبار، للعلّـامة امحمد بن أحمد يوره، بتحقيق جمال بن الحسن، ص: 48). وبالمناسبة فمعنى “إينشيري” بالبربرية: (ذو الشجر) لأن أصله إن شارن وشارن بالبربرية الشجر، وقيل غير ذلك (رجع المصدر السابق، ص: 44).
لم يقتصر الحفر على مسكه طبعا، محنض أحمد بن حبيب حفر بئرا أخرى في أڭـجوجت، وكذلك محمد بن أحمد بن محمد بن محمود….وحفر أبناء عمومتهم كثيرا من الآبار في المدينة وخارجها…
— وهل تعلم أيضا أن أقدم مدفون شهرةً في أڭـجوجتْ هو تاج العلماء: لمجيدْري ولد حبّ الله الذي يُنقل إليه الموتى من قريب وبعيد ليدفنوا معه التماسًا لعفو الله ببركة جواره…وهو الذي تبادل مع فحل تيرس: سيدي عبد الله بن الفاظل، أهَـمَّ وأعمَقَ سجال فِكري دار في هذه البلاد حتى الآن فيما وقفتُ عليه.
—- وهل تعلم أن هذه الأرض عرفت أحد أبرز علماء الشناقطة: لمرابطْ آبّـيهْ، الذي عُرف بداهةً بهذا اللقب مجرَّدًا من تعيينه بالاسم مع ثلاثة أعلام آخرين هم: لمرابط أحمد بازيْد (عزري تمغـرْتْ)، لمرابطْ سيدي محمودْ، لمرابطْ محمذٌ فالا بن متالي. (طبعا عُرف بعدهم بهذا اللقب آخرون مثل لمرابطْ محمد سالم بن ألُـمَّـا، ولمرابط ولد عَـدُّود الأب محمد عالِ وابنه محمد سالم رحمهم الله تعالى…لكن سياق كلامي يعني العصر الوسيط لا الحديث كما أشرت سالفا). وعرفت القاضي الفقيه المدرس محمد عبد الله بن محمد موسى، وعرفتْ الولِيَّ الـمُقْـرِئ الذي أبلى بلاءً حسنًا إذ لقَّن جمهورا عريضًا من أهل أڭــجَوْجَتْ كتابَ الله تعالى، طيلة عقود طويلة من القرن العشرين، ألا وهو محمد عمران بن سيدي البُصادي.
—- وعرفت الحضرة العلمية الباهرة أهل محمد بن محمد سالم: أهل الفقه المالكي والتوحيد…هذا الرجل يُـجِلُّه الشيخ محمد المام ومحمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي أيَّـما إجلال، وقد أنجب أجيالا بعد أجيال كانت إحد أهم روافد بث العلم الشرعي وآلَـتِه في المنطقة: عبد القادر بن محمد بن محمد سالم إمام من أئمة التوحيد الأشعري في موريتانيا، إخوته، أبناؤهم…من أبرز مُتأخِّريهِم كادنَّــانو: محمد عبد القادر بن محمد الامين، والنِّـينِّـي: محمد الأمين بن حمد الله…
—- عرفت هذ الأرض الأولياء الربانيين الذين يقصر المقال عن حصر أسمائهم لكني أختار بالأساس معيار من أضحوا أئمة مزارات مُـتَعَـهَّدَة: حبيب ولد المكي وابنه محنض أحمد وإخوته، وبلال الولي، وآمنة بنت يوسف…محمد عبد الرحمن بن ابُّو وابنَه البسطامي…أحمد كوري بن حمين…
— وهل تعلم أن هذه الأرض أنجبت قُـوَّادًا أبطالا مثل: اعْلي (اغْـمُوڭْـ) ولد محمد ولد اعلي ولد أحمد، الذي قال المامون بن محمذ الصوفي اليعقوبي العمّامي يستسقي ويتضرع ويبتهل ويمدحه:
يا مجيب المضطر إنا دعونا …. كَـ لضر من البلاء عميم
خاب إلا منك الرجاءُ وضاقت ….. رجواها بظاعن ومقيم
تأمر الغيث أن يفيض علينا …. رحمة من نوال ربٍّ رحيم
غدقًا يغمر البلاد عميما … ولْـتُـخَصِّصْ من بعد ذاك العُمومِ
ساحةَ الكرب حيث رابطَ فيها …. أسَـدُ الله رغْمَ أنْــفِ الغشومِ
وقال البيخيري ولد ألدَ (تلميذ البخاري بن الفلالي) في شأن أغْـمُـوڭْـ أيضا:
إلى الـمَلِكِـ الـجَـرَّارِ للـجَـيْشِ كُـلَّـمَـا…..تَـوَهَّــمَ خَـوْفًــا مِنْ دُلَــيْــمَ وَمَــغْـفَــرَا
(……) إلى أن يقول على لسان أغْـمُـوڭْـ:
فَـلَـسْنَا نَـرُدُّ الـرُّوحَ في جِـسْمِ مَـيِّـتٍ….ولـكنْ نَـسُــلُّ الـرُّوحَ مِــمَّنْ تَـنَـشَّـرَا
(مصدر النصين الشعريين: أحمدُّ باب بن بودرباله، من كتابه: تاريخ حياة أهل باركللَّ، ط2/ ص: 25).
ومن أبرز القواد في القرن العشرين حفيدُ أغْـمُـوڭْـ/ مَـمَّاهَ: محمد بن اعلي بن أحمد…
وعرفت هذه الأرضُ فُرسانًا شجعانًا كمحمد ولد أحمد مرحبَ (له ديوان شعري)، وأحمد فال بن بدَّ السُّباعي، وعثمان ولد سيدي امحمد، وأحمد ولد كَـاڭَّـه، سيدي أحمد ولد طَـيّْـنَّشْ…وماجداتٍ من أولاد اللب أنجبنَ أمراء بما للكلمة من معنى: أمير الترارزه أحمد ولد الديد/ أمه المامِـيّـة بنت محمد الزناڭي، أمير آدرار سيدي أحمد ولد أحمد ولد عَـيّْـدّه/ أمه: عيشة بنت اعلي ولد أحمد التي اشتكت لعبد الله بن آدَّ خوفها واشتياقَها لابنِها الذي سجنه النصارى في “انْـدَرْ”:
عيشَ منتْ اعْـلِي ولْ أحمدْ…..لـمْجِي سيدَأحمدْ مضطَـرَّ
فَـرَجَعْـنَاكَـ سيدَأحمدْ…..لِــأُمِّكَـ كَيّْ تَـقَـرَّ
في العصر الحديث، يكفي الوِلايةَ فخرًا أنها أنجبت البطل القائد الشجاع (…كل ما تشاء من ألقاب الفُروسِيّة يستحقه) إنه: اسْـوَيْـدَاتْ ولد وَدَّادْ، وأقتصر هنا على القول إن مما أنجزه الرجل لموريتانيا هو حسمُـهُ الخارِق لترسيم حدودنا مع الشقيقة “مالي”. (لك أن تتصور أيها القارئ قيمة هذه المعلومة!)
أبناء هذه الولاية بذلوا أرواحَهم وجوارحهم في مقاومة المستعمر: “أم التونسي”، “لخليجْ”، “أيْـڭـنِـينْـتْ” “التَّـيـڭِّـوِيتْ”…ماذا عسايَ أعُـدّ؟؟
—- هل تعلم أيها الوافد علينا مرحبا بك:
أن الشيخ أحمدُ يعقوب بن ابن عُمر، “عَـظَّـمَ الرَّبَّ، وحَـقَّـرَ بالحوَادثِ” لـيُنفِذَ أمرَ الله، كان من سلاطين هذه الأرض، رجلٌ أقامَ حُدُودَ الله، واستوى في إجلالِه المرابطُ الذي يدرس عليه، والمقاتل الذي يَتَردَّدُ عليه من حين لآخر لحَلِّ مشاكله العالِقة مع الآخرين. ربما تبلغ محظرته ألف تلميذ من جهاتٍ شتّى، لكنه يخرج إلى الأمراء ذوي الجيوش الـمُجَيشةِ، زعيما للوفود التي تعتني بشأن المسلمين العام.
أستسمحكم أن أتكلم هذه المرة عن المقاومة الثقافية:
بعض ما جرى بين “أمِّـيهْ” وبين النصارى (المستعمر الفرنسي):
فمن مناقبه وكراماته ما حدثني به الشيخ محمد بن أحمد مسكه راويا عن جده لأمه السيد الهمام بزيد بن لاليَّ الذي كان عاملا مترجما بالإدارة الفرنسية، أن رجلاً رئيس فخذ من قبيلته لم يدفع “العشر” المفروض من قبل ”النصارى” الفرنسيين وحبسوه في كـصُّ(cachot) وتمكن من الهرب واستجار بمحمد بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامِ، فأجاره منهم .
فبعثوا إليه أن يرسله إليهم فامتنع وأرسل إليهم رسالة يحكيها بزيد كالتالي:
[من محمد بن عبد العزيز إلى أمير النصارى بآدرارْ، مُوجِـبُه عنكم ما الحڭْـتونَ افْـهاذِ التّـراب ننظلمُو ترفعوا عنَّا الظلم ولا الحڭْـتون نظلمُو الناس اتْـكـفُّوا ظلمنا عنهم ومنْ عادتنا عنَّ حدّْ ادْخلْ فينا ما نَـسلْـمُوهْ] .
فغضب الحاكم النصراني على آدرار غضبا أسفاً لفرط ما في هذه الحروف من جراءة وجسارة كما اعتبرها.
وقال لبزيد إنه لو كانت المنطقة التي يقطنها محمد بن عبد العزيز تابعة له لأرسل إليه فرقة تأتيه به، وبعث إلى الحاكم العسكري بانواذيب ليعتقله.
يقول بزيد إنه دخل عليه بعدها فوجده يقول إن الحاكم العام باندر أحمق مع تدويره لإصبعه حذو جبهته!
قال لي محمد بن أحمد مسكه إنه يعرف عند أهل بوتلميت قصة فَهِمَ منها تفسيرا لما حدث وهي أن باب بن الشيخ سيدي قدم على الحاكم العسكري في اندرْ فقال له الأخير إن محمد بن عبد العزيز يعاملهم معاملة غير لائقة وبالتالي سيرسل له فرقة من الجيش تأتيه به فلم يعارضه بابَ لتمكن شيطان الغضب من النصراني واستودعه ومضى عنه.
ثم رجع إليه من غد وقال له لقد تأملت فيما قلت لي بالأمس ولم أجده حكيماً: كيف لأعظم دولة في العالم وأقواها جيشا وأساطيلا أن ترسل جيشا بأسره إلى شيخ أعزل (امرابطْ) فقال له الحاكم الفرنسي صدقت وعدلَ عما كان بصدده.
وقال لي الشيخ مراراً إنه وفَّق بين القصتين فوجد الأخيرة سببا في آخر الأولى، وقال لي إنها من كرامات محمد بن عبد العزيز مع أن فيها عقل باب بن الشيخ سيدي وبزيد بن لاليَّ.
قلت: إن الله إذا أراد شيئا هيَّأ له أسبابه.
وكان بزيد معجبا بمحمد ويقول إن مراسلاته له من عقله.
ولا شكـ أن هذه القصة أيضا من أجل قصص المقاومة الوطنية التي لم تجد من ينفض عنها غبار التهميش.
جدير بالذكر أن محمد بن عبد العزيز لم يطلب من باب بن الشيخ سيديا أن يشفع فيه عندهم، بل إن الأخير لما علم بالخبر أخذ المبادرة بنفسه فضلا منه ومحبة لهذه العشيرة وأعلامها، فرحمهما الله تعالى.
هذا وقد رفض “أمِّـيهْ” رفضا باتا التعامل مع المستعمر طوال سنين عديدة، رغم توالي المحاولات والمطالب من قبل المستعمر لإقناعه، فمن ذلك أنه أتاه وفد منهم رفقة المترجم المشهور محمد بن ابن المقداد(Doudou Seck)، وجرت بينهم محاورة كان محمد أثناءها يوليهم ظهره لأنه لا ينظر إلى وجوه الكفار، ولم يتفقوا.
وبعد ذلك أرسل إليه العلامة باب بن الشيخ سيديا رسالة بديعة شكلا ومضمونا ليقنعه بضرورة التعامل مع الفرنسيين ومكاتبتهم لأنها ضرورة يمليها الواقع آنذاك، مؤكدا أعني باب، بالتزام النصارى بعدم المساس بالمعتقدات والمعاملات الإسلامية، فرد عليه محمد بن عبد العزيز برسالة بديعة هي الأخرى تتضمن القبول مع شروط لم يمكن المستعمر إلا أن يقبلها وهي:
أولا: أن لا يأتيهم ولا يأتوه.
ثانيا: أن لا يأخذ من عندهم نقدا أو قيمة، أو أي شيء على الإطلاق. وعلل ذلك في الرسالة بأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، ومن أحب قوما حشر معهم.
ثالثا: أن لا يطلبوا منه عدا العشر المفروض، مغرما ولا مكسا ولا مساعدة من نَعَم أو مال أو عمالة أو أي شيء على الإطلاق.
وجدير بالذكر أنه في مرحلة ما، صار يرسل لهم ذلك العشر مع امرأة من أسن عاملاته!
—- وهل تعلم أن أقدم قطعة شعرية شنقيطية في كرم الضيافة ـــ فيما وقفتُ عليه حتى الآن ـــ من إنتاج آفلواط بن الشيخ محمد المام، ونَـصُّها:
حـلفتُ بـمـن لَـبَّتْ قـريشُ وجَــــــــمَّرتْ….. له بـِمِـنًى يـومَ الـذَّبـائح والنَّحــــــــرِ
لئِنْ كـان لـي نُوقٌ عتـاقٌ صـمــــــــــاردٌ …… لـمـا تـركتْ حقّاً عَـلـيَّ لِـذِي فَـقْـــــــــر
ولكـنَّ لـي خمسًا مـن الـمَـعْـزِ أتَّـقِـــــــــي…… بـهـا الشتْمَ مـا ضَنَّ الأشِحَّة بـالــــــــوَفْـرِ
إذا الـمـرْءُ لـم يحْمِ الـمـروءةَ وانثنـــت …… يـداه عـن الـمعـروف فـي زمـن العســـــر
فلـيس له مِـن وَصْلِ سلْـمـى وتِرْبِـهــــــــا….. إذا اصْطَلـتـا عُودَ الـبَخـور عـلى الجـمــر
— وهل تعلم أن أوَّل بظانيٍّ ألَّـفَ كتابًا بالفرنسية مدفونٌ 25 كلم شمال غربي أ ڭـجوجتْ في “لحْـرَيْشَة”: ألا وهو الإداري المترجم المهيب: أحمد مسكه بن العتيق، الذي أنجب عظيم العصر: أحمد باب مسكه، وشيخ الإسلام محمد بن أحمد مسكه. وكتابه المذكور تقريرٌ للإدارة الفرنسية نشر سنة 1936م، وعنوانه:
(Une tribu maraboutique du Sahel, Les AHEL BARIKALLA)
“لحْـرَيْشَة” المذكورة مدفونٌ عندها السيدان الماجدان أحمد بن يعقوب بن الفاظل بن بارِكَللّ بن أحمد بازيد، ومحمد بن أحمد بن البخاري بن مولود بن بارِكَللّ بن أحمد بازيد ، اللذان قيل فيهما:
ألا يا عينُ بالتهتان جودي….. على بدرين من كرم وجود
محمدٌ بن أحمد ذو المعالي…… وأحمدٌ بن يعقوب الودود
لقد كرُما يدا وأبا وأما…… وزانا بالتقى كرم الجدود
إلى أن يقول:
لتبكي في فراقكما اليتامى….إذا عدت مفاخر كل طود
وتبكي جهدها الدنيا والأخرى…… ستبكي إذ هما علمي صعود
(نقلا عن العتيق بن البرناوي).
وقيلَ أيضا:
محمد ولْ أحمدْ واحدْ … ما عڭبُ محملّْ لَـحْـمَدْ
اعْـلِيـهَ مُلانَ شـاهدْ …. واعْليهَ لحْـرَيْـشَ تَـشْـهَـدْ
—وهل تعلم أيضا أن MICUMA شركة النحاس الموريتانية، كانت من أوائل الشركات في البلاد، وأنها كانت تقريبا هي المصدر الأساسي لميزانية الدولة حينها.
— وهل تعلم أن أڭـجوجتْ كانت يوما ما إحدى المنافي لعملاق الفكر أحمد باب مسكه رحمه الله تعالى، كان ذلك قُبَيلَ 1984م، تلك الذكريات المحزنة كنت في غنى عن إيرادها، إلا أني آثرت العكس للتنبيه إلى أن أهم مناضلي موريتانيا ينتمي إلى هذه المدينة، ومن استقصى أخبار الرجل “الغامض” قد يفهم أن تلك الحقبة المؤسفة التي مرت به كانت عليه فاتحة مزيد فتوحات ونبوغ.
وإذا كانت وثيقة الاستقلال قد وُقِّعت بأنامل الرئيس المختار داداه فإن الساعد الذي شد على عضدها كان نضال حركة النهضة التي كان أحمد باب أمينها العام: كانت تلك مدرسة طامحة للكفاح ونيل الاستقلال انتزاعا لا تمَسـكُنًا، هيبه بن همدي، بوياڭي بن عابدين، ومحمد سالم بن الدوڭي، والشيخ ماء العينين بن الشيخ ماء العينين، ومنينا بنت بكار، ولاله، وولد اخريشف، وامبيريكه ومنت همدي، وناصره الل بنت انغيميش وامتها…وامَّامَّ بن صلّاحِ بن الشيخ محمد المامِ…
أڭـجَوْجَتْ في الأدب:
نحن قوم نتنفس الأدب بمعناه الواسع لا اقتصارًا على قرض الشعر فصيحًا كان أم مَلحونًـا فقط، وإليكم نماذج أمثلة ذكرت فيها كلمة: “أڭجوجت” أو “إينشيري”…، وقد نقلت أغلب هذه النصوص من (فصل: في نماذج من أجمل ما تغنوا به على أرضهم) من بحث عريض سبق أن أعددته.
قال حبيب الله بن محمد بن محمود:
زَايَرْ تَمْغَرْتْ آنَ بَلِّ……. وَانْدَڭْبَعْدْ اَحْجَلِّ تلِّ
لَمْسَيْحَ فَلِّ حَاجَلِّ…… زَايَرْهَ مَانِ مَتْعَايَرْ
لَغْرَيْدَاتْ ؤُزَرْتْ اَمَلِّ…… حكم اڭْجَوْجَتْ فلِّ زَايَرْ
لَمَّشْوَيْمَ فَاشْ اَمْخَلِّ….. زَايَرْ وَامْبَيَّظْ لَمْرَايَرْ
دَايَرْ هَمِّ يَتْعَدَلِّ…… يَجْعَلْ رَبِّ ڭَلْبِ نَايَرْ
بِالْعَلْمْ اِلِينْ اِعُودْ اَلِّ….. مَنُّ غَايَرْ مَنِّ غَايَرْ
مَا مَصْيُوبْ اُلاَ كَطّْ انْصَابْ…. يَلَشْيَاخْ الْوَلْيَ لَقْطَابْ
عَنْ غَيْثْ اِشَخْشَخْ كَلَّ اتْرَابْ…. دَايَرْ فِيهْ اللهْ الْدَايَرْ
مَن نُّزُولْ الْبَرْكَ وَاسْحَابْ….. اتْنَعَّمْ ذَا الْعَامْ أُدَايَرْ
وَاتْسَيَّلْ سَيْلْ اَكْبِيرْ اِشِيعْ…. لَعْـڭَلْ وَاتْسَيَّلْ لـڭْرَايَرْ
لِينْ اَتْخَلِّ صَبَاتْ اَرْبِيعْ….. لـڭْرَايَرْ فَوْڭُ تَشَّايَرْ
وقال سدُّومْ بن آبَّ:
عنك ي أڭْجوجت بعد امنينْ … جاوَك كُبَّـارْ أولاد اللبّْ
ابْــشرْ وُاتْــيَــقَّـنْ باليَـقِـينْ ….. عَـنْ جَـاكْـ التَّـالِ منْ لعْـرَبْ
بَعدْ اُلاهُ ذاكْ امن اُرَاه….. أڭْجوجت دير افراصكْـ هــاهْ
عنْ هاذَ منْ لعرَبْ شِ جَاهْ…. نـعْمَه منْ نِــعَمْ هاذَ الرَّب
وذاكْـ افْـطَن ي اڭْـجوجتْ مَـعْنــاهْ…. منْ جِـيهتْ لِـعْـرَابْ اِعَـرَّبْ
لعربْ ذِيـــكِيَّ حـــالتْـهَ….. وذيـكِـيَّ ممُقبــالتْــهَ
حالتْ مَـعْنــاهَ لآلــتْـهَ…. والـتْــهَ يوم انْ تُـحَـرَّبْ
والغـلْظْ افْـرَوْغْ امْـسـالتـهَ…. ذَاكُـوَّ حَــالتْ حَـكّْـ اجْــرَبْ
لـحْـرَبْ منْ حَـدّْ اِلَــا لِــتْـهَ….يَــڭْـسَ وَللَّ يَـنْـعَـتْ لـحْـرَبْ
وقال أحمد بن عبد الرحمن بن سيدي أحمد بن حي الله بن آفلواط بن مولود بن باركـ الله بن أحمد بازيد :
ادْيَارْ الِّ عَزَّيْتْ….. الْهُمْ مَاڭَطّْ انْسَيْتْ
يَوْڭِـ هَاذِ حَاشِيتْ … وَكْرْ الْبَالْ امْسَيْكِينْ
لعْوَيْجَ وَاڭْدَجِيتْ …. وَاڭْجَوْجَتْ وُامّْ اڭْرَيْنْ
وقال بودرباله بن البخاري بن أحمد بزيد بن محمد مختار(الدُّوهْ، عَلَماً)بن محمد البخاري(ابَّاهْ، عَلَماً) بن حبيب بن المكي بن أحمد بن عبد الله بن بارك الله بن أحمد بازيد:
امْن اِينْشِيرِ صَدَّرْنَ……. ولحْجَارْ منْهَ هَدَّرْنَ
وْمَزْرُوعْ بالْخيرْ اصْدَرْنَ…… وْلَجْوَادْ بِيهَ دَلَّيْنَ
وْلاَ ڭَطّْ بالجارْ اغْدَرْنَ…… وْلاَ ڭَطّْ عَنُّ وَلَّيْنَ
وْللْجُودْ والْخيرْ ارْبڭْنَ….. وخْيَامْنَ لُ شَلَّيْنَ
وحْنَا لْفلْجُودْ اسْبڭْنَ…… والْفِيهْ نَحْنَ تَلَّيْنَ
أين فلسطين مِن كل هذا ؟!
لعلك الآن تكاد تكون تتمنى إيجاد رقم هاتفي لتسألني بكلِّ فضول: أين فلسطين مِن كلِّ هذا؟؟
لكم يا أهل موريتانيا أن تفخروا بمدينتكم أڭـجَوْجَتْ التي جلبت لكم المدح والفخر والمشاعر “الفياضة” العابرة للقارّات:
قال الشاعر عدنان بن فياض الفياض الفلسطيني الكرمي (نسبة إلى مدينة طول كرم):
سِيانِ عنديَ في أڭـجُـجْتَ أو يَــمَـنٍ //// أو في الجزائرِ أو قُدْسي وَطُــلْ كَــرِمِ
إن انتمائي لِأوطاني التي سُــلِبَــتْ //// ليس انتمائي لِــسُلطانٍ ولا صَــنَمِ
قد جئتُ أڭجُجْتَ أسعى خلفَ مَــعْرِفَةٍ //// ترَكْتُ عَــمَّــانَ في اسْـتِـبْـبشَارِ مُـتَّـسِمِ
وجدت أهليَ في أڭجُجْتَ حاضرتي //// ومورتانِيَ أهل الجود والكرَمِ
قد جئت مصطحبًا أهلا لهم هَـدَفٌ //// إسنادُ إخوان في إعمارِ مُـنْهَـدِمِ
جاءوا لإعمار أڭـجُـجْتَ التي سُلبت //// نتيجةَ الظُّــلْمِ مِنْ مُـسْـتَعْـمِرٍ نَهِــمِ
كان هذا الشاعر طالبا في إعدادية أڭْـجوجت أوائل الثمانينات، وزع نصه الشعري ذات يوم دراسيّ على زملائه في السنة الثانية….تمضي بضع وثلاثون سنة حتى تنشدنيه إحدى السيدات منذ عامين (الطالبات حينها).
كان والده مديرا “للشركة” التعدينية.
وقال صديقي محمد بن إسماعيل بن سيدٌ بن حبيب:
مَــا سَاوِ بَـعْـدْ انْــوَاكْـشُوطْ …. تـفْـڭــادْ ؤُلَــا تـخْـمِــيمَ
عَــاڭـبْ شَــوْفتْ تَـمَــاڭــوطْ …. والــجّـحْفَ وامّْ اشــوَيْــمَ
ومن ذكرياتي الخاصة، أن صديقي كمال بن البخاري بن الفلالي، كان ذاتَ مرَّةٍ في مدينةِ أڭجوجت وطال فيها غيابهُ عني فاستبطأته فأرسلتُ إليه هذا ” الڭاف ”:
جَنَّبْ برْڭتْنَ يَلْمَنَّان….خَاطِ بَعْدْ اَڭجوْجتْ مَوْجتْ
محمد كَمَالْ الَّ اِبانْ….دَڭْدَڭْ برْڭتْنَ فَڭْجوْجتْ!
…إلى آخر المساجلة.
أما الأمثال فيحضرني منها الآن: “أعرظ من إينشيري” بمعنى وسع الصدر والباع، لكن بالمقابل أيضا عندنا: “أحْـرَشْ منْ فُـمّْ أ ڭـجَوْجَتْ”!
وكذلك من الأمثال “مَـحَلِّـيّة الصُّنع” (التي لا نحتاج للبسترة للحفاظ على صلاحيتها يوما أو اثنين) أن عندنا “دواء مريض أهل آفلواطْ”: (ابن مولود بن باركللَّ بن أحمد بازيْدْ)، وذلك أنه تذبح له الشاة ليتداوى بها ثم ما تلبث أن تُقَسَّمَ على الجيران ولا يناله منها مضغة لحم! (ما يـزْمڭْـ منها كونْ هو!!) كناية عن بالغ الكرم والإيثار.
ثم إن المناخ رغم قساوته في بعض الأحيان إلا أن إشارات عديدة صدرت من أطباء تقليديين وعصريين نصّت على نصح المرضى بالذهاب إلى إينشيري (والعيش بزرع حقل دَمانْ مثلًا…)
نكتة:
في سياق بعض الطُّرف التي يتبادلها الطلاب المغتربون خارج البلاد وتنكيت كل منهم على موطن صاحبه الذي لم يسبق له أن زاره، أذكر أن أحد الأصحاب خاطبني في ملئ قائلًا: بشير، هل سمعت بقصة “صاحبة أهل أڭـجوجتْ” “البدوية” التي قدمت إلى انواكشوط لأول مرة ولما ركبت سيارة الأجرة ثم “طال عليها الأمر” قالت للسائق: قف بي عند هذه البقالة أشترِ لك “اعْمايرْ” بطَّاريات لمسجلة سيارتك كي تسمعنا شيئا من “الهول”، فأضحك هذا الجماعة، فابتسمت ورددت عليه قائلا: على الأقل يُفهم من القصّة كرَمها السخيّ مع السائق والركاب الذين “لا يُنزِلُها عليهم دمٌ ولا صديد”!!
ولتعلم أن الذي يكتب هذا البحث ابنٌ أصيل من أبناء الولاية: قرأت فيها أغلب القرآن حتى خضبت يُـمنايَ بالحِناء عند “كسْرِي للذِّهابة”!! في عاصمتها أڭــجوجت، وأخذت فيها العلم الشرعي واللغة والآداب على يد العلماء مثل: محمد عبد الرحمن بن المصطفى (أهل فالِّــين الصِّـدِّق)، وسيدنا بن محمد خَلِّيهْ بن آفلواطْ، واختلفْتُ إلى حِــلَقِهم، ودوَّنتُ التاريخ وأيامَ العرب وشِيمَ الزوايا وأنسابهم ولُقِّنتُها من أفواهِ رجال المدينة الغطارِفِ كـمحمد بن حبيب، وأحمدُّ باب بن بودرباله، وأبُّـوهْ بن محمد مؤمل، وأحمد بن خَـدادِ…ودرست عدة سنوات متفرقة من الابتدائية الإعدادية والثانوية، حتى إن مما يضحكني الآن وأنا أتذكر تلك الحقبة من صِبايَ ومُراهَقَتي أني حلفت ذات مرَّةٍ أن لا أخرج من الولاية لمدة ثلاث سنوات، ولم أسافر خلال فترة اليمين إلا مرة إلى دمانْ وأخرى إلى “لحْـرَيْـشة” وكلا الموضعين منها بل قريب من أڭـجوجت العاصمة. حتى سألني بعض أهل انواكشوط عند قدومه إلينا قائلا: لمَ لا تأتي لانواكشوط؟ هل صحيح أنك حلفت كذا وكذا…؟!
هذا إلى كثير غيره من لَعِب الشباب والرحلات المغامِرَة التي جمعتني مع زملائي من طلَبَةِ القرآن في عطلتنا الأسبوعية (لخميسَه) التي كان يحلو لنا تنظيمها على حين غِرَّة خاصة عند ما تغمر السيول ضواحي المدينة البعيدة (كنا نمشي عدة كيلومترات لنصل “الربط” ونعوم ونتعارك فيسعد البعض بفوزه وقدرته على عوم مساحات خطيرة طوال النهار تقريبا…ويَشْرق البعض بل إن آخرين يغرقون أحيانا فنضطر إلى إنقاذهم (وأذكر مرة أن إحدى تلك التجارب المُرة كادت تودي بحياتي إذ حملت أحد الأصدقاء على ظهري لكنه لشدة اضطرابه وفزعه من المشهد المهول خنقني لا إراديا وتشبث بكتفيَّ حتى غمرتني المياه فاضطررت ـــ عفى الله عني ـــ إلى ضربه من تحت المياه حتى “تَــمَـلَّصْتُ منه!” ثم نهرته أن يضع يدَه على كتفي بهدوء وإلا سنهلك كِلانا فنجانا الله بفضله من تلك الواقعة وله الحمد والشكر!، كل ذلك وأشياء كثيرة أخرى من أطرف ما يحضرني منها أني تطوعت مَرّة لرفقة راعي إبل سكان المدينة (في موسم مناخي دافئ).
رسائل:
كثيرة هي تلك التي أتركُها للقارئ “الـمُنْـصِفِ” ليستخلصها من ظواهر الحقائق التي بحوزتي وثائقُها أو أسانيدها الرصينة إذا تطلّب الأمر إثباتها، مع أنما بين السطور قد يكون أهم
أما ما أؤكد عليه مرة أخرى من بين كلما سلف، فهو:
1/ بالنسبة للذكرى الزمنية (28 نوفمبر): للأمانة العلمية، نحن لم نَـنَل استقلالَنا انتزاعًا، الفييتناميون أوجعوا الفرنسيين مقاومة وقتلوا منهم الآلاف، والجزائريون كذلك، فرنسا صارت في أواخر الخمسينات مثقلة بذلك الكم من المستعمرات فقررت إتاحة حق تقرير المصير ب”نعم” أو “لا”، لم يدعونا نُفلِح في الاستقلال عنهم سنة 1958م، لكنهم سرعان ما استغنوا عنا من تلقائهم مطلع الستينات. الوطنيون الأفذاذ كانوا يوم توقيع الاتفاقية في السجون!
طُرفة: الشيخ الـمُجَدِّد محمد بن أحمد مسكه كان في دَمانْ مع رحالات من فصيلته أهل أخمد بن عبد الله، منهم محمد بن حبيب، اتفقوا أن يُصَوتوا ضد المستعمر، ولأن المستعمر يعلم بذلك تلقائيا لأن أحمد باب النهضوي من تلك الفصيلة، قرر (المستعمر) أن يُفرهم في مكتب خاص! ثم لما أتوا بمن أمكنهم من أهلهم لم يُسمح التصويت إلا لمن له بطاقة وهو قليل جِدًّا فلم يصوت ضد المستعمر إلا أربعون تقريبا! أما في المكاتب الأخرى فقد سُجِّل أن 1700 شخص (زورًا) صوَّتوا لصالح القاء تحت ظلّ فرنسا (صوت الكثيرون دون بطاقات طبعا)! ثم تمشى شيخنا راجلا إلى معسكر “المخزن” يريد ما يحمله إلى أڭـجوجتْ، وركب سيارة عسكرية صغيرة رفقة ملازم فرنسيّ حدَثٍ ــ وكان محمد حينها يتعلم مبادئ الفرنسية ـــ فسأل الملازم الفرنسيّ: إني لأعجبُ لسيارة بهذا الحجم من الصغر تحمل 1700 راكب!!!!) فردَّ عليه النصرانيّ بِنَـبْرَةِ تهديد: ” سترى ما سنفعله غدًا ب Sékou Touré” .
لكن على كل،
المهم الحاصل في النهاية هو أن الجلاء عن أرضنا قد تم فعلا، فلا داعي لنفسد على أنفسنا الفرحة! أليس كذلك؟!
2/ سالت دماء المقاتلين الشجعان من أهل الشوكة في مقارعة المستعمر، تيتمت أبناؤهم وتأيمت نسوانهم….لكن طيف الزوايا مع مقاومته الثقافية شارك أيضا في ميادين الضِّراب: مات في الجهاد عديد منهم: البخاري بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامِ، أبناء ابنُ عمر…الزعيم حَـــمَّ ولد عبد الرحمن كان عنده “غَـــزِّي” يقاتل في ضواحي أڭـجوجت حتى أهدروا دمه وجعلوا لمن يأتي برأسه مكافئة سخية (كان هذا قبل الاتفاق على مسالمتهم فيما بعد).
البطل المجاهد الشهم الذي ولد امسيكه، كان وحده جيشاكاملا ضرب المستعمر في المقاتل، ورغم كون ساحة معاركه معهم كانت بالأساس في البراكنة وڭـورڭـولْ، إلا أن لنا الفخر بكونه ينتمي إلى أرضنا.
3/ إلى المؤرخين والكتاب الذين يحترمون ضمائرَهم قبل أن يولوا الاحترام لآراء الآخر: احترموا مشاعرَ من تكتبون عنهم، فليس التأليف حكرا على أي كان، وما كان عطاء ربكَـ محظورا (صدق الله العظيم). وخزائن كنوز الوثائق العريقة وملك الآبار والحقول الزراعية وإشهادات العلماء والأمراء ووثائق المحاكم الغربية والوطنية…..كل ما شاء الله أن نتداركه من ذلك فهو بالأيدي ولله الحمد والشكر.
4/ مرحبًا بكل الوافدين علينا لإحياء ذكرى الاستقلال، وفدتم على أرض متسعة، خصبة، متنوعة التضاريس، خُلِقت فيها الإبل، ورُفِعت سماؤها، وسُطِحَت أرضُها، ونُصِبَتْ جِبالُها…عندها اكتفاء ذاتي في كل ما تحتاجه تقريبا: القمح، التمر، اللبن، المعادن (بالمفهوم الخام)…لكن الأهم من كل ذلك هو اكتفاؤها الذاتي بالعقول الموهوبة، والرجالات العصامية !
ما أود أن أخلص إليه ـــ وقد دعمته بأمثلة سابقة ـــ هو أن هذه المدينة الوديعة البسيطة أشعَّت بأنوارها مختلفة الألوان لا على جوارها الموريتانيّ فقط، بل وعلى العالم إذ أنجبت أو احتضنت أو كانت مرْقَدَ فحول العلماء، وأبطال القُـوَّاد، وفطاحلة الشعراء الذين سارت بأخبارهم “في الأقاليم الرَّكابِين”…
وهذه محاولة لترجمة مضامين هذه الكتابة بالثقافة الحسانية:
منْ خَـبْـرْ السّاحلْ مَـــــــا اتْــمـلّْ …. لَـبْــحَاثْ ؤُلَــا تـطَّــــالڭْـ
الـجُـغْـرَافِــيَّ مَــــــا اتْــقـلّْ ….. والتّـارِيخْ أَلَّ خَــالـڭْـ
5/ اعتذار غير مُلزم أصلًا!:
أرجو من مئات القراء الذين يبحثون بعواطفهم عن ذكر آبائهم أو أسماء قبائلهم…أن يتفهموا ديباجةَ اصطلاحي المذكور في المقدمة، ولا يعتبوا عليَّ تقيدي بالموضوع… لكن كل صفحات المواقع والوسائط الاجتماعية مفتوحة على مِصْراعَـيْها، فليكتب من شاء عما شاء، فأرجو من الله القدير أن لا يصدر مني إلا ما أراني سبحانه وتعالى أنه هو الصواب وعين الحقيقة وفيه رضاه، فلا يَدِينُ ولد حبيب لأي مخلوق بالكتابة إلا رسول الله عليه بئاله صلوات الله تبارك وتعالى وسلام الله. وقد حصلت عقَدت بعض هذا المعنى بقولي:
مَـهْـمَا انْـبَـرَيْـتُ لِـتَـارِيخٍ أُدَوِّنُــهُ … عَـلَـيَّ ذلِكَـ حَـتْـمًا غَـيْـرُ مُـفْتَـرَضِ
فاعْــلَمْ هُـدِيتَ إلى إِدْرَاكِ مـرتبتي …. أنْ لست أكتبُ إطلاقًـا “على الغرض!”
كما يقول المثل الحساني!
خاتمة (أسأل الله حُسنها):
أرجو أن أكون وُفِّـقْتُ للإيفاء بوعدي للقارئ أن يَجِدَ المقال نوعيًّا (كَـيْفًا وكَـمًّا)، كما أرجو أن أكون بارًّا (بالولاية) وعندي غرائب أخبارها على رأي المختار بن هدَّار في مساجلته مع محمد سعد بوه بن آدَّ (وهو بالمناسبة نزيل أڭـجوجتْ طيَّبَ الله ثراه).
لم تقدم أيها القادم على قوم شغلهم الشاغل استخراج المعادنِ فقط، بل إنهم أخرجوا للعالم ولا يزالون يستخرجون من كنوز الحضارة والمعارف والفنون ما تقصر عبارتي عنه أضعافَ ما في باطن أراضيهم.
قدمتم يا أهل موريتانيا، ويا وفود العالم، على أرض تميزت بالإبداع في التفكير الذي تجسد في التأليف:
- كتاب البادية للشيخ محمد المامِ: إبداع في التأليف في الفقه. عَدُّه لحصى الأرض والقول بكُروِيَّـتِها…. إبداع مَـحَلِّـيّ: بمفهوم سَبقِه على أهل بلادِه الذين لم يكن متاحا لهم اكتشاف تلك المجرَّات الفكرية باستفاضة…
- العمران لابن الفلالي: ظاهرة مُـلْهِمة في الأمانة العلمية في كتابة التاريخ.
ولنا ـــ نحن أهل أڭْجوجتْ ـــ بعد هذا كله يومنا هذا ميزة عن كل باقي الوطن الحبيب:
تآليف شيخ الإسلام محمد بن أحمد مسكه هي الإنتاج الموريتاني الأكثر تداولًا على مستوى العالم الإسلامي.
ما أتيقنه بعد سعيي أشواطًا بين جَـبَـلَي المكان والزمان ـــ وأنا أستحضر قولَ ابن الفلالي:
احْنَ والدْنَ ي الـعَظِيم…..سَــكَّــنَّ فـمْـهَــامـهْ خَــلْـوَاتْ
تـسْـكِـينتْ ذرِّيــتْ إبْـرَاهيمْ….ألْــمَــكَّه مَـــاهُ بزْرُعَــاتْ
على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامُه،
ما أتَـيَـقَّنه هو باختصار: أن الله جَلَّ جلالًه لم ولن يُـضَيِّعَـنا.
كتبه باسم حجارِ أڭـجوجت الكريمة: البشير بن أحمد مسكه بن حبيب بن بارك الله فيه بن أحمد بازيد.