سار عبد الله ولد محمدي الي شنقيط بحثا عن تركة جد تفرقت تركته بين بيوت خربت وكتب تشتت.. وعاد يروي لنا مفاجأت رحلة الي وطن الأجداد.
تركنا شنقيط والشمس تسعى بهدوء للغياب وراء المرتفعات الجبلية.. القرص الذهبي لم يفلح في إرسال أشعة الدفء إلى أجسام هدتها رياح الصحراء القارسة.
منذ أيام ونحن بصحبة والدنا محمد المختار هو يشد من عقد الحبل الذي ربطنا بالمدينة القديمة منذ أن هاجر قاضي شنقيط وأبناء عمومته هربا من حرب بدت لهم “سريالية” بلغة أهل الحاضر، حين يتقاتل المتحاربون بالقسي والنبال ويصلون صفوفا متراصة بالجامع الكبير.
غاب القاضي سيدي عبد الله بن محمد في رمال الجنوب؛ واكتشف أولاده زراعة الحبوب في منبسطات “شمامه” لكنهم بقوا مشدودين إلى النخيل يبادلون الحبوب بالتمر، ويعودون في كل مرة، إلى شنقيط للتأكيد على عقود التملك من واحات النخيل إلى الكتب التي تفرقت اليوم أشتاتا بين المكتبات.
كانت رسالة القاضي وهو يقدم استقالته ويحمل كتبه انه تعب من الخلاف الذي شتت شمل القبائل وخرب المدن، وأنه بهجرته تلك ينقل جزءا من روح شنقيط إلى مكان آخر ويبث من علمها في صدور رجال آخرين ينقلونها بدورهم لأجيال تلو أخرى.
رسالة القاضي أعادها حفيده محمد المختار ولد أباه وهو يتحدث في بدء ندوة تأسيس (مؤسسة بلاد شنقيط) على مسامع نخبة موريتانية بامتياز جاءت لتبارك جهدا لن يثمر إلا بجهود الجميع بدون إقصاء ولا تمييز.
سلكنا الطريق الرملي الذي يعبر النهر الجاف باتجاه حيث كانت بداية شنقيط الأولى عبور النهر الجاف، أعاد إليَّ ذكرى دموع تلك المرأة الفاضلة التي ذرفتها مدرارا… كان ذلك في أواخر سبعينيات القرن الماضي حين سمعت أن بطحاء شنقيط سالت بعد سنوات عجاف.
لقد أيقظت الصورة في ذهنها من الذكريات والمواجع وتذكرت والدها الشيخ الجليل وهو يموت ساجدا قبيل صلاة الفجر بقليل حدث ذلك في مرتفع رملي جمع أفئدة أهل شنقيط حول بيوت ملئها العلم والصلاح .
في البدء كانت أبير
وصلنا إلى “آبير” .. المدينة طمرتها الرمال وكاد النسيان أن يطويها لولا جهود رجل يرتفع كقامات النخيل في واحاته.
محمدو لد أبنو؛ واحد من أولئك البناة.. الرجل مفعم بالتحدي وكسب الرهانات الصعبة قبل عقود من الزمن حمل مع شقيقه محمد محمود الثروة التي جمعاها من التجارة ليدكا بها الصخور العملاقة في مرتفع جبلي، ويسيّران الطريق إلى شنقيط بعد أن كان الوصول إليها ضربا من المجازفة المحفوفة بالمخاطر.
لم يبخل الرجل بماله وجهده وروحه، فقد قارب الموت عدة مرات وهو يسقط من المنحدرات الجبلية بينما وقف الناس يتفرجون عليه وهو يصنع المجد بمفرده .
فتح محمدو أبواب شنقيط العصية لكنه استقر في آبير احتجاجا على السياحة، التي كان يخشي أن تنحرف عن مسارها وتلوث سمعة المدينة وتفقدها هويتها.
يفخر ولد أبنو اليوم بالمسجد الرائع بمنارته التي تنتصب وحيدة وسط رمال الصحراء، وكأنها توأم مسجد شنقيط العتيق ومنها يتردد صوت الحق ليملأ ذلك الفضاء الواسع.
ولاستكمال فروض الضيافة؛ يطلب محمدو من زواره تحية مسجد يحرص على الصلاة فيه وحيدا وسط ذلك اليباب المقفر ..نصلي ركعتي التحية، فتلتقي الجباه بالرمل سجادة المسجد الناصعة، فتحس أنك أقرب إلى أصلك الذي كان من تراب.
تغيب في لحظات التأمل قبل أن ترتقي درجات سلم المنارة، ومن ذلك العلو تشاهد الامتداد اللانهائي حيث الكثبان الرملية تهدد بطمر كل شيء بعدما غطت تلك المدينة العامرة بالحياة والناس… التي تقف اليوم فوق أطلالها.
(تلك الواحة البعيدة في الأفق هي جزء من النخيل الذي تركه أجدادنا) يقول أحد رفقاء الرحلة..
شاعر مقاتل
نعود إلى شنقيط… يحرص الوالد محمد المختار أن نزور المقبرة؛ تلك أيضا شنقيط الأخرى.. التي لا بد من الوقوف على أهلها.
لم نفلح في العثور بعد على (عبد الرحمن) جدنا الذي ترك أولاده يلحقون بعمهم الغاضب.. لابد أنه ينام قرير العين قرب إخوته.. يرفع أحدهم لوحا صخرياً عملاقاً، نقرأ بوضوح اسم أحد فروع شجرة العائلة انه جدنا (محمد بن حبيب ).
غير بعيد تنتصب لوحة أخرى.. ذلك سيدي عبد الله المعروف بـ(ول ارزكه) كان يمكن لهذا الشاعر والسياسي والرحالة أن يدفن في مكان آخر، ربما في فاس أو مكناس أو سوس أو جزء آخر من أرض الكبلة، فقد عاش في الجنوب، وخاض حروبا في الشمال، وذهب في سفارات، وشارك في تمرد على ملك، و أنقذ إمارة من السقوط المريع، ووضع لسنوات في لوائح الممنوعين من الدخول عند الحدود.
يكتفي ولد رازكه اليوم بمربع صغير من أرض صخرية، ولوحة كتبت بخط مغربي لا تخطئه العين ربما للتذكير بحياة انفق اغلبها في الترحال في تخوم مملكة العلويين .
لا تكتمل زيارة شنقيط دون الصلاة في مسجدها، اليوم يوم جمعة.. فرصة نادرة للمرء أن يري الشوارع المحيطة بالمسجد، وهي تضج بالحركة، الأزقة الملتوية تذكرك بمدن أخرى سبق أن زرتها تتطلع لفاس وأغاديز وتومبكتو.. وتعود إلى ذاكرتك أطلال أروان (في مالي) وهي تسلم روحها بعد سنوات من الجفاف والإهمال.. يجول في خاطرك أن المدن مثل البشر تولد وتشيخ ثم تموت..!
“هل تعيش شنقيط مصير مدن الملح؟؟“.. الأخرى تتساءل وأنت تعبر الطرق المليئة بالبيوت الخربة، “لا أحد يجرؤ على وضع لبنات جديدة في هذا الخراب” يقول لي أحد أبناء المدينة إذ كل ما سعي احدهم للإصلاح سفه الآخرون حلمه ووضعوا عمله في خانة البحث عن الشهرة في سبيل منصب انتخابي أو قبلي.
لماذا يكون مصير كل مبادرة لإحياء شنقيط أن تؤد في المهد يتساءل عمدة شنقيط محمد ولد عمارة فبجهود فردية استطاع العمدة الحصول على تمويل مستشفى لا يزال يحظى برعاية الإسبان حتى في سنوات القحط المالي التي لحقت بأوروبا في عقر دارها.
كان عمدة شنقيط يعول كثيرا على السياحة وخصوصا التضامنية منها، حيث انتزع من شركات أوروبية إرسال موظفيها لقضاء جزء من عطلهم في شنقيط، ألا أن الفرحة لم تكتمل، فسرعان ما عجلت الحرب على الإرهاب، وعمليات انتقام القاعدة بقرار حكومي فرنسي وضع موريتانيا في دائرة الخطر، وبذلك تلاشت أحلام العمدة كحبات الرمال التي تذرها الرياح كل يوم في سفوح المدينة العتيقة .
ما بقي من السياحة هي الفنادق التي نمت مثل الأعشاب، والأسماء المكتوبة باللاتينية، والمكتبات التي فقدت وظيفتها…اللوحات الخشبية تشير إلى أكثر من مكتبة تعرض للقلة من السياح مخطوطات قديمة، عملية بها من الفرجة أكثر ما فيها من التعلم.
كنوز تحتاج للترميم وللعناية وللباحثين، فثمة الكثير مما يمكن القيام به لكشف المستور من تاريخ شنقيط وتاريخ الإقليم كما حرص محمد المختار ولد أباه على التأكيد وهو يحث أهل شنقيط على العناية بذلك الموروث.
هل يكفي يومان لاستكمال زيارة شنقيط ولتقييم أثر استقالة جدنا من أهم منصب في المدينة في عصره؟؟ بالتأكيد لا يتسع الوقت المجتزئ من حضور الندوات لزيارة الأمكنة والإحاطة بكل شيء، والاستماع للرواة من أهل شنقيط الذين يروون لك التاريخ بطريقة مسلية وجذابة وكأنه جرى بالأمس.
قبيل الغروب
كان لا بد من الرحيل مجددا لعبور المنحدر الجبلي قبل استكمال الغروب… كنت مصرا على أن اسلك ذات طريق العودة التي سلكها جدنا قبل عقود طويلة، مع بعض المتغيرات في المسالك، إذ لم يكن قاضي شنقيط في حاجة للاستعانة بمحرك البحث “غوغل” لأنه لم يحدد بعد وجهة الوصول عندما قرر السفر لقد ترك الأمر لناقته وللظروف والمستقبل.
لكنه في النهاية استقر في أقصى الجنوب…!
وصلت وجهتي بعيد منتصف ليل أول ليلة من السنة الجديدة بساعتين…وجدت أهل البلدة وقد غطوا في نوم عميق متجاهلين
الحدود الزمنية الفاصلة بين السنتين وما يرافق ذلك من احتفال في المدن الكونية الأخرى.
استغرقت هجرة القاضي عدة أيام من السير المتواصل، من شنقيط إلا أنني اختصرتها في سبع ساعات عند ما وصلت الي “النباغيه“.
قبل الخلود إلى النوم بقليل خطرت في ذهني فكرة سريعة: أنني نجحت في منافسة وحيدة وفريدة مع جدي..!! هل كان يستطيع ذلك الرجل مجرد التفكير في عمر رحلة كهذه ؟؟ لا اعتقد أن مجرد التفكير المنطقي قد يؤدي لاحتمال كهذا في عصر الإبل والخيول إلا إذا كان ممن ينطبق عليهم المثل الذي يضرب على سبيل التعجيز واصفا من يسيرون السفن في البر… ماذا لو علم جَدي أنني كنت واحدا منهم ؟؟!.