مريم المنير – صحراء ميديا
«كنتُ جالسا في مكتبي بالرئاسة، صبيحة يوم 16 مارس 1981، حين سمعتُ فجأة صوت الرصاص يعلو في أرجاء القصر، ولم يطل الأمد، حتى دخل أعضاء فرقة الكوماندوز، مكتبي؛ بعد أن قتلوا عدة جنود، لتصبح أفواه مسدساتهم موجهةً نحوي، كان الموت قريبا حينها، لكن أحد القادة أمر جنده بتركي وشأني.. لقد أنقذ حياتي».
كانت تلك إحدى أصعب اللحظات التي عايشها غابرييل حتي، المعروف بـ”غابو”، المسيحي المشرقي، الذي استطاع أن يندمج في مجتمع يغلب عليه الطابع الإسلامي؛ خلال تعاقبه على عدة مناصب إدارية في موريتانيا، ولكنها ليست اللحظة الوحيدة التي نجى فيها من موت محقق.
من هوّ غابرييل؟
في منزله الهادئ، الذي شيّده والده قبل ستين عاما، في قلب العاصمة نواكشوط، كان يجلس غابرييل ليحكي قصة أسرته المهاجرة، من لبنان، إلى أعماق الشرق الموريتاني؛ قائلا: « اللبنانيون كما تعلمون شعب جوّال، وكذلك كانت أسرتي »، ثم يسترسل، « وصل والدي إلى داكار عام 1920، وعند وصوله التقى موريتانيين قادوه إلى سانت لويس التي أقام بها عشر سنين قبل أن يستقر مع ابنة عمه في مدينة بوغى شرقي موريتانيا ».
كان غابرييل يحكي قصة حياته الحافلة؛ بتواريخ موثقّة، وبنظرات ثاقبة، ونبرة هادئة، وملامح شابة، تضفي عليها لحيته الحليقة، مظهراً شبابياً، لا يشي بعمره المتقدم، فهو يدخل عقده الثامن، بعد أن عايش أهم المحطات المفصلية التي مرت بها موريتانيا.
ولد غابرييل في بوغى عام 1943، ودرس سنواته الأولى في ابتدائية بوغى؛ ثم عاد مع والديهْ إلى سانت لويس، ليكمل تعليمه الثانوي، في ثانوية فيديرب (Faidherbe).
ومع بدء تشكل الدولة الموريتانية، في عام 1960، رأى والد غابرييل الذي كان يتاجر في سانت لويس، أن المدينة الفتية نواكشوط، ربما تدر عليه ربحا أكثر، فباع ممتلكاته في سانت لويس وانتقل إلى نواكشوط.
حين وصل غابرييل إلى نواكشوط، كانت مجرد مدينة مطمورة بالرمال، لا يزيد عدد سكانها على ثلاثة آلاف شخص، والبنايات الحكومية حينها لا تتعدى بضعة منازل في قلب العاصمة؛ يقول « كنت أسكن في لكصر، وأذكر أننا كنا نساعد السائق الذي يقلنا يوميا إلى الثانوية، لإخراج سيارته من الكثبان، ليوصلنا إلى الثانوية التي تقع قرب مقر الإذاعة حاليا».
يقول غابرييل « حصلت على الباكالوريا عام 1963، وكنت أرغب حينها في أن أكون أستاذا للرياضة، فقد كنت رياضيا »، لكن ظروفا أخرى صرفته إلى دراسة القانون، في فرنسا.
وفي عام 1972 عاد غابرييل إلى موريتانيا، حاملا شهادة الليسانس في القانون، وشهادة من المعهد الدولي للإدارة العمومية، لتبدأ من هناك « مسيرته كإداري مدني ».
الإدارة
في صبيحة السابع والعشرين من مايو 1979 كنت استعد رفقة زوجتي، ناديا الجعفري، للذهاب إلى داكار ضمن الوفد الرسمي المرافق للنائب الأول لرئيس اللجنة العسكرية، رئيس الوزراء، المقدم أحمد ولد بوسيف، لكنّ ظرفا طارئا في الرئاسة فرض عليّ البقاء في نواكشوط.
تحطمت الطائرة في عرض البحر، وقضى جميع من فيها، وكتب لغابرييل أن ينجو من موت محقق، ولن تكون تلك هي المرة الأخيرة التي يواجه فيها غابرييل الموت خلال عمله في الرئاسة.
لقد تقلّد غابرييل، عدة مناصب إدارية، ذكرها على الترتيب، قائلا: « في عام 1972، كنت مديرا عاما للمطبعة الوطنية، وبعدها استدعيت للرئاسة، لأعين مستشارا، وبعد ذلك أمينا عاما مساعدا مكلفا بالشؤون الإدارية بالرئاسة ».
يستعرض « حتي »، الأحداث المفصلية في تاريخ موريتانيا المعاصر، والتي كان شاهدا عليها خلال تقلده تلك المناصب، كإنشاء « العملة الوطنية، وتأميم ميفارما، والاتفاقيات الموقعة مع فرنسا، واتفاقية باريس »، يقول: « كنت حاضرا خلال توقيع اتفاقيات مدريد، ذلك أنني حينها كنت أعمل في وزارة الدولة المعنية بالسيادة الداخلية، وبرفقة أحمد ولد محمد صالح ذهبت إلى الداخلة لإنهاء الأمور الإدارية ».
تَعاقبُ الإنقلابيين على موريتانيا، منذ عام 1978 لم يؤثر على منصب غابرييل في الرئاسة، فقد عمل مع سبعة رؤساء، بدءًا بالمختار ولد داداه، وانتهاءً بمعاوية ولد سيد أحمد الطايع.
بناء موريتانيا
بعد أن خاض غابرييل كل تلك التجارب، قاده شغفه القديم، بالرياضة إلى الاهتمام بها أكثر، ترأس الاتحادية الوطنية لكرة السلة، والكرة الطائرة، وكان هو أول لجنة أولمبية في موريتانيا، وكان أول رئيس لها، وذلك بعد أن كان لاعباً في منتخبات وطنية لكرة السلة والكرة الطائرة.
ثم كان أحد المؤسسين لحوض آرگين، إثر اهتمامه بالبيئة، يتحدث غابرييل عن تلك التجربة قائلا: « عملت في البيئة وكنت مهتما جدا بما يتعلق بالشواطئ، مع Theodore Monod، ثم أنشأنا حوض آرگين، وبعد ذلك أنشأنا المؤسسة الدولية، وعينت المدير العام لحوض آرگين، وشاركت في وضع السياسة العامة الإيكولوجية (البيئية) في موريتانيا ».
ويسترسل “غابو” في الكلام « خلال مسيرتي كنت موظفاً دوليا على أعلى مستوى، فقد كنت مديرا لمكتب المدير العام للفاو في افريقيا، لمدة 6 سنوات؛ ثم استدعيت من طرف الرئاسة لشغل منصبٍ هنا ».
ويختم غابرييل كلامه بقوله: « هذه بعض الأنشطة التي قمت بها خلال مسيرتي، وأنا فخور بها جداً ».
لا يعرف غابرييل رغم السنوات الطويلة التي عاش في موريتانيا، إلا النزر اليسير من العربية، غير أن ذلك لم يمنعه من أن يكون جزءًا من تاريخ موريتانيا، بل وذاكرتها الحية.