بدا قمر شنقيط بازغا، فيما شكل انعكاس ضوئه على منازل المدينة العتيقة ذات اللون الذهبي صورة باذخة الجمال؛ الشوارع خالية من المارة تقريباً، وكأن تاريخها الممتد على مدى سبعة قرون أعطاها وقاراً وهدوء، وقليل من الوحشة.
كان الجو أقرب للبرودة، إذ كان الشتاء يرسل تحذيراته الأولى لمدينة لا يعرف طقسها القصد إلا نادراً، لكن هذا الطقس يسحر السياح الأجانب، الذين بدأت جموعهم تأتي إلى مدينة شنقيط رويدا رويدا، بعد سنوات «عجاف» على العاملين في مجال السياحة في المدينة.
عاشت منطقة آدارار، وبالتحديد مدينة شنقيط سنوات من تراجع السياحة، بسبب عوامل منها التهديدات «الإرهابية»، تفاقمت أكثر بعد ظهور فيروس «كورونا» المستجد، الذي وضع قيودا كثيرة على السفر، وضرب السياحة في كل مناطق العالم.
في الصباح الباكر، وبالتحديد في «مكتبة آل محمد محمود»، وهي إحدى المكتبات السبع العريقة في شنقيط، كانت مجموعة من السياح الأوروبيين، قدم بعضهم من بلجيكا وآخرون من هولندا، يتابعون بلهفة محافظ المكتبة «سيف الإسلام» وهو يسرد حكاية مدينة شنقيط.
لدى «سيف الإسلام» طقوس مسرحية، يضفيها على حكاية «المدينة السابعة» في الإسلام، حكايات عن آلاف القوافل التي كانت تنطلق من شنقيط إلى مدينة تنبكتو، وعن ذلك اليوم الذي انطلقت فيه قافلة حجيج فيها 60 ألف بعير.
يتحدث «سيف الإسلام» بلغة فرنسية استعراضية، ويحكي للسياح عن أطلال مدينة شنقيط الأولى «آبير»، وعن العهد الثاني للمدينة وعن مؤسسيها، يتفاعل السياح مع سرده، مرة يتعجبون وأخرى يضحكون من النكت التي يطلقها بعفوية.
كان «سيف الإسلام» قد أصبح في أذهان السياح قطعة من «شنقيط»، ويمثل بالنسبة لهم نسخة باقية من رجال شنقيط الأوائل، يساعده في ذلك هندامه وملامح وجهه، ولونه المتماهي مع حجارة البيوت الشنقيطية.
ولكن الكنز الأكثرا سحراً، والذي يأخذ بألباب السياح، هو «المخطوطات» النادرة التي تزخر بها مدينة شنقيط، تلك «الكنوز التي ترقد في الصحراء»، ويحتاج الوصول إليها رحلة شاقة ومغامرة لن ينساها القادمون من أوروبا.
«كريستين» سيدة بلجيكية في عقدها السادس، تقول في حديث لـ «صحراء ميديا»، إنها تحلم منذ زمن بزيارة شنقيط، وتقول بانبهار إن جزء من تاريخ العلوم التي درست في الجامعات الأوروبية، يوجد منبعه في المخطوطات العربية، خصوصا مخطوطات شنقيط.
خارج المكتبات تنتظرُ عشرات النسوة اللاتي يحملن معهن موادا من الصناعات التقليدية، والتذكارات السياحية، هذا هو مصدر رزقهن الوحيد، الذي تعطل في السنوات الأخيرة، وبدأ ينتعش بخجل في الأسابيع الأخيرة.
تقول «عائشة» وهي سيدة تعمل منذ عقود في مجال بيع منتجات الصناعات التقليدية: «الفترة الأخيرة بدأت تشهد انتعاشا، صرنا نبيع يومياً بعض التذكارات، لكن هذا لا يعوض خسارة سنوات أمضيناها دون أن نبيع أي شيء».
أما «الحضرامي ولد آبراز»، وهو صاحب نزل فندقي في شنقيط، يرى أن السياحية لم تشف حتى الآن من تداعيات كورونا، مشيرا إلى أن بعض الدول لم تسمح بعد لرعايها بزيارة موريتانيا بسبب جائحة كورونا، ويضرب المثل بإيطاليا.
وأوضح الحضرامي، أن فترة منع السفر بين الدول، دمرت قطاع السياحة في المدينة، ويشكو من أن الحكومة لم تمنح إعانات مالية كانت قد وعدت بها قطاع الفنادق الأكثر تضررا من كورونا.
ولكن الحضرامي لا ينكر أن الأسابيع الأخيرة، بدأت تشهد توافد سياح على المدنية، وهم غالبا فرنسيون أو اسبان، كما يؤكد في حديث لصحراء ميديا، وهو ما انعكس بشكل جزئي على القطاع.
يرقب أهل شنقيط مهرجان «مدائن التراث» الذي سيقام هذا العام في مدينة «وادان»، وجميع المتوجهين نحو المهرجان سيمرون حتما بمدينتهم.
إنه موعد جديد مع الحركة التجارية والاقتصادية والسياحية، قبل أن تعود المدينة إلى سباتها السرمدي، وسط كثبان تزحف بهدوء وصمت قاتلين، لتبتلع أنين واحات بدأت تذبل بعد قرون من الصمود.