ناقشت مجموعة من المثقفين الموريتانيين، مساء أمس الخميس، كتاب « الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية » لمؤلفه محمد المختار الشنقيطي، وذلك في ندوة نظمها « المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية » الذي يتولى إدارته محمد جميل منصور، الرئيس السابق لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية « تواصل ».
ولد منصور في افتتاح الندوة النقاشية الأولى منذ توليه لإدارة المركز، قال إن الناس ربما تكون قد تعودت عليه في منابر أخرى، في إشارة إلى نشاطه السياسي كرئيس لواحد من أكبر الأحزاب السياسية في البلاد.
وقال ولد منصور إن كتاب الشنقيطي يتناول « الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، في مجال زمني ممتد من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، وفي مواضيع تنتقل من الفقه والأصول الشرعية الحاكمة إلى تفاصيل التراث وإنتاج المسلمين عبر التاريخ، إلى أغلب مدارس التفكير السياسي المعاصر ».
وعبر عن تمنياته أن « يتمكن الباحثون الرئيسيون والمعقبون والمناقشون من إثارة ما ينبغي إثارته في هذا المجال »، مشيراً إلى أن « المركز يرحب بكل الآراء والأفكار والملاحظات والانتقادات والإضافات حول تناوله هذا الكتاب ».
الكتاب يقع في حدود 607 صفحات، بما في ذلك الفهارس، تم نشره من طرف « منتدى العلاقات العربية والدولية » بمدينة الدوحة في قطر، من ضمن منشورات المنتدى للعام الجاري (2018).
ويبدأ الكتاب بمقدمة لراشد الغنوشي تحت عنوان « التقدم نحو الإسلام »، تقع في أربع صفحات، تليها مقدمة المؤلف وجاءت تحت عنوان « سيف الإمامة المسلول »، وجاءت هي الأخرى في 12 صفحة.
وتعاقب على النقاش في الندوة كل من الأستاذ يحيى ولد البراء الذي تناول « البعد الفقهي » في الكتاب، تلاه الباحث سيد أعمر ولد شيخنا متحدثاً عن « البعد الإصلاحي »، وختمت المداخلات الرسمية بالمؤرخ والدكتور ددود ولد عبد الله متناولاً « البعد التاريخي »، وجرت بعد ذلك نقاشات موسعة من طرف الحضور حول ما تضمنه الكتاب، شارك فيها وزراء سابقون ومثقفون وأكاديميون.
خصال وملاحظات
في حديثه عن « البعد الفقهي » في الكتاب، قال الباحث يحيى ولد البراء إن الكتاب « يمتاز بالعديد من الخصال، ولا غرابة فصاحبه أكايديمي متمكن من المعارف الحديثة، راسخ القدم في علوم المسلمين، متوقد الذهن، وكامل القدرة على التحليل، ومعروف بسعة الاطلاع على التراث الإسلامي بمختلف مدارسه ».
وأضاف ولد البراء أن من الخصال التي يمتاز بها الكتاب « العمق والتأني في التحليل، عدم الحشو »، كما قال إنه « كتاب مكثف المضامين، وفيه قوة الربط والإحكام المنهجي، ونجاعة الأسلوب الاستدلالي، وانسيابية اللغة مع ترفعها عن المعجم السياسي المتداول، هذا بالإضافة إلى التطواف الفكري في كطل العصور والفلسفات والنظريات ».
إلا أن ولد البراء استدرك قائلاً: « الكتاب كثير الحسنات والخصال، ولكن تبدو لي أيضاً فيه مجموعة من الملاحظات، قد تكون في نظر البعض حسنات، ولكنها تخرق نوعاً ما المواضعة العلمية التي عكسها الكتاب بجدارة ».
ومن ملاحظات ولد البراء على الكتاب قوله إنه « ينطلق من نتيجة يحاول تفسير المعطيات لدعمها وتعزيزها، كما عبر عن ذلك المؤلف عدة مرات في مختلف مراحل تحليله، فهذا وإن نجح فيه المؤلف فأحكم صياغته واستدل له بشكل قوي دون تلفيق أو لي لأعناق النصوص، فإنه يختلف عن التقاليد العلمية التي تسائل المعطيات لتصل إلى النتيجة ».
كما تحدث ولد البراء عن « تداخل بين الأحكام والحدود » في الكتاب، مشيراً إلى أنه « من المعروف أنه عندما نتكلم عن شيء، نحده قبل أن نحكم عليه، وفي هذا النص هناك تداخل كبير بين الأحكام والحدود، وهنالك أحياناً أحكام لا تليق بعمل من هذا القبيل »، وساق ولد البراء كمثال الفرة التي تقول: « كما وجد عبد الله العروي شيئاً من ظلال الحرية -يتحدث عن الحرية الإنسانية في الإسلام- في تهويمات الصوفية المتحررة من الضوابط الأخلاقية والتشريعية، وهذه الحرية الوهمية المنبتة عن صراع الحياة مجرد استبطان لمفاهيم عتيقة من الديانات الشرقية، لا صلة لها بالإسلام ومنهجه العلمي من قريب أو من بعيد »، كما ورد في الاقتباس من الكتاب.
وخلص ولد البراء في ملاحظاته على الكتاب إلى القول إنه تضمن « الوثوقية الزائدة عند إطلاق الأحكام ».
البداوة سبب الانهيار
أما الباحث سيد أعمر ولد شيخنا في سياق حديثه عن « البعد الإصلاحي » في الكتاب، قال إن الدكتور محمد المختار الشنقيطي « وفق في هذا الكتاب أيما توفيق عندما وضع يده على موضع الوجع في الحضارة الإسلامية ».
وقال ولد شيخنا إنه « عندما نزل الإسلام على العرب كانوا أهل فصاحة وبلاغة، ولذلك أبلوا بلاء حسنا في تبليغ الإسلام إلى شعوب الأرض، وكانوا أهل شجاعة وفروسية ولذلك كانوا سادة الفتح وفتحوا أقطارا عديدة في العالم، وتفوقوا على الروم الذين كانوا سادة الفتح تاريخياً، وكانوا -أي العرب- أيضاً أصحاب فطر سليمة ليست فيهم ملل ولا نحل ضالة قديمة، ولذلك حافظوا على نقاء عقيدة التوحيد ».
وأضاف ولد شيخنا أن « ثغرة العرب الوحيدة هي أنه ليس في تاريخهم تقاليد سياسية أو مؤسسية، أو دول قديمة لها تقاليد مؤسسية، ولذلك دفع الإسلام ضريبة تاريخ العرب السياسي والمؤسسي والدستوري »، معتبراً أن ذلك « سرعان ما تسبب في انحراف الحكم الإسلامي من حكم راشدي يعتمد الشورى والمشاورة، إلى ملك جبري، وبدأ مسار التدهور والانهيار في النظام السياسي الإسلامي ».
واعتبر ولد شيخنا أن كتاب الشنقيطي يعد بداية التفكير نحو حل المعضلة التي يمر بها العالم الإسلامي.
صفين والجمل
المؤرخ والدكتور ددود ولد عبد الله في سياق التعليق على « البعد التاريخي » في الكتاب، قال إن كتاب الشنقيطي « يعد من الكتب التي يجب أن تقرأ مرات ومرات، قبل أن يتم التعليق عليها، ولذلك لا أرى أن التعليقات التي نقدمها، أو على الأقل فيما يتعلق بما سأقدمه، إلا تعليقاً مبتسراً، لأن الكتاب حديث الصدور، عميق الأفكار ومحكم البناء، تأخذ فصوله برقاب البعض، ومن الصعب إصدار حكم إجمالي عليه، كما أنه من الصعب تتبعه فقرة فقرة ».
وقال ولد عبد الله في سياق التعليق على مؤلف الكتاب: « الشنقيطي شخصية فذة، ليست في السياق الموريتاني، ولا أعتقد أنه هو نفسه يوجد فكريا وذهنيا في السياق الموريتاني، وإنما هو موجود في السياق الإسلامي بشكل عام، وهذه محمدة له، لأن الانكفاء والانغلاق في السياق الموريتاني من ضمن المشكلات التي يعاني منها المثقف الموريتاني »، قبل أن يضيف أنه « باحث موسوعي يتسلح بالأدوات العلمية الصحيحة، ولكنه مع ذلك مفكر متزن ينتمي إلى مدرسة لا يتنكر لها بل يدافع عنها بحجة قوية ورأي يستنجد له بكل الأسلحة العلمية المطلوبة، وهو مفكر يفكر خارج الصندوق كما يقول الإنجليز ».
وفي تعليقه على الكتاب، قال ولد عبد الله: « الفصل الثالث يتحدث عن فراغ على تخوم الامبراطوريات، العرب في تلك الفترة وتاريخهم عبارة عن فراغ سياسي على تخوم مجموعة من الامبراطوريات، طبعاً من المعلوم أنه في التاريخ العربي هنالك حديث عن ممالك الغساسنة ولخم والحيرة، ولكن الأستاذ الشنقيطي لا يعتد بشيء من هذا، بل يطبق عليه مفهوماً يستعيره من مفكر ألماني يدعى (شفينغلير) وهو مفهوم (التشكل الكاذب)، يقول هذا المفكر إن المبراطوريات الكبرى تتشكل على هوامشها وبتأثر منها بعض المجموعات، وتقلدها تقليداً غير صحيح، وبالتالي هذا نوع من (التشكل الكاذب)، وهذا يعطيكم فكرة أولى عن قوة الجهاز المفاهيمي الذي يتناول به الشنقيطي التاريخ العربي الإسلامي ».
وأضاف ولد عبد الله أن « هذا الفراغ السياسي هو الذي نشأ فيه الوحي (..) وبالتالي نلاحظ أن الرسالة الإسلامية في بعدها السياسي تفاعلت إلى حد ما مع فراغ سياسي في التقاليد المؤسسية، وفي تقاليد الانضباط، وبالتالي هذا الفراغ وهذه الفوضى المتأصلة هي التي يعتبر الشنقيطي أنها تغلبت في نهاية المطاف على المذاهب القوية التي جاء بها الإسلام وانحرفت بها، ويعتبر أن هذا الانحراف بدأ منذ منتصف ولاية عثمان، وبالتالي إلى حد ما انحرفت الخلافة الراشدة وبدأنا نقترب من الفتنة التي هي في نهاية المطاف النهاية الكبرى لهذا القوس من الحكم الصالح الذي لم يستمر أكثر من أربعين سنة تقريباً ».
ويضيف ولد عبد الله في تعليقه على الكتاب: « يقول الشنقيطي أيضاً إن الفراغ هو الذي ساعد في انتشار الرسالة الإسلامية، لأنها لم تجد من يقف في وجهها، ولكنه يحس أن في هذا نوعاً من التناقض الذي يحاول التغلب عليه عندما يشير إلى أن هنالك (ثمرتان متناقضتان)، إحداهما سلبية والأخرى إيجابية، ولكن لنا أن نتساءل هل المتناقض هو الثمرتان أو التحليل ؟ »، وفق تعبير ولد عبد الله.
وقال ددود ولد عبد الله إن « الشنقيطي لديه آراء قوية، وآراءه تصبح قريبة من الآراء العقدية، وهو في نفس الوقت ينتقد كيف تحولت بعض المواقف السياسية إلى عقائد ثابتة راسخة يتصارع حولها المسلمون مدى الدهر، ولكنه هو نفسه يأخذ مواقف تصبح بالنسبة له غير قابلة للنقاش »، وضرب المثال على ذلك بموقف الشنقيطي من معركة صفين ومعاوية ابن أبي سفيان، رئضي الله عنه.
وأضاف ولد عبد الله في هذا السياق: « إنه يعتبر معركة صفين انتصار للقوة على الحق، وانتصار للبغي على العدل، كما يعتبر أن ما يقوله البعض من أن معاوية لم يكن يبحث عن الخلافة ولا يريد الحكم إلا بعد موت علي، يعتبر أن كل هذا لا أهمية له، ويستدل بنصوص أخرى على أن معاوية كان يريد الحكم منذ البداية، وقضيته عبارة عن صراع سياسي دنيوي، ولكنه -في الوقت ذاته- لا يرى أن هنالك أي جانب دنيوي فيما يتعلق بمعركة الجمل، وهي بالنسبة له هي مجرد اختلاف في الاجتهاد، بل إنها معركة غير مقصودة ».
وحول الفرق بين معركتي صفين والجمل، قال ولد عبد الله: « هنا نحتاج إلى نوع من السؤال للأستاذ -الشنقيطي- حول الفرق الذي يراه جوهرياً بين المعارضة الأولى والمعارضة الثانية، أو بين المعارضة التي كانت في الحجاز والمعارضات الموجودة في الشام، وفي الحقيقة هو لديه موقف في قضية الشام، فهو يعتبر أن تقريبا أديولوجيا الخروج على التقليد السياسي الإسلامي واستبداله بتقليد سياسي جديد كل هذا تخلق ونشأ في الشام ».
وأضاف في السياق ذاته: « هنا بإمكاننا أن نتساءل: ما دمنا نعتبر أن ما حدث في الجمل ليس انحرافا، فلماذا نعتبر منتصف خلافة عثمان كانت انحرافا ؟، من ناحية يقول إن معركة صفين هي بداية الانحراف، ومن ناحية أخرى يقول إن الانحراف بدأ من منتصف خلافة عثمان، إذا هنا قد نحتاج إلى بعض الأسئلة ».
وخلص ولد عبد الله إلى القول إنه لاحظ أن الشنقيطي في كتابه « يعتبر أن التراث هو الذي يكتب التاريخ، والتاريخ ليس صراعاً بين إرادات إنسانية، ولكنه صراع ما بين تقاليد تراثية »، قبل أن يشير إلى أن الشنقيطي « يرى أن البداوة العربية هي التي تغلبت على مبادئ الرسالة الإسلامية، فكانت الفتنة الكبرى، وأن العامل الأساسي في نشوء الفتنة الكبرى هو تقاليد تراث البداوة العربية التي تغلبت على الخلافة وأسقطتها، هنا كنا نود أن يكون الأستاذ الشنقيطي توقف أكثر مع الأطروحة الكبرى التي قدمها هشام جعيط ».
وخلص ولد عبد الله إلى القول إن الشنقيطي اطلع على أطروحة هشام جعيط، ويحيل إليها حول الفتنة الكبرى، ولكنه لم يتوقف عندها كثيراً.
دعوة للغليان
الوزير السابق والفقيه إسلمو ولد سيدي المصطف في تعقيبه على الكتاب قال إنه تضمن دعوة صريحة « للغليان »، منتقداً حديث الشنقيطي في الكتاب عن أن الحل هو الانتقال من « القتنة إلى الثورة »، مشيراً إلى أن الثورة هي في كنهها مجرد فتنة.
وقال ولد سيدي المصطف إن الشنقيطي لا يخفي دعوته للغليان حين يقول إن دراسته « يجب أن تكون الشرارة الأولى التي تخرق جدار الفقه السلطاني ».
كما أخذ ولد سيدي المصطف على الدراسة التي قام بها الشنقيطي ما قال إنه « تغييب الفقه »، وقال: « الفقه مغيب في هذه الدراسة على اتساعها وعمقها »، مشيراً إلى أن ذلك ربما يدخل في سياق التهجم على الفقهاء الذي أصبح موضة جديدة.
وأكد الوزير السابق في نهاية مداخلته، على سبيل النكتة، أن الدراسة تحمل بصمات الشنقيطي ولا يمكن إلا أن يكون هو كاتبها لأنها تشبهه كثيراً.