بقلم/ محمد المختار ولد محمد فال
إذا كانت الحضارة الغربية تقدس مبدأ الحرية، داخل فضائها علي الأقل، فإن الحضارة الإسلامية ظلت تقدس مبدأ العدالة وتري فيه أولوية يجب تحقيقها والتضحية من أجلها وتري في المستبد العادل أيقونتها وضالتها التي تبحث عنها، إلا أن حالة الإختلال التي حكمت العلاقة بين الطرفين، فرضت الرؤية المتغلبة وحولتها إلي أولوية داخل العالم الإسلامي وفيصلا في العلاقة البينية، فأصبح المجتمع المدني بديلا عن المجتمع الأهلي وأضحت التحالفات الحزبية والتصنيفات اليمينية واليسارية أداة تعريف وسمة فاقعة، لتبيان حقائق الجماعات السياسية والمجموعات الأيديولوجية واستبدلت كلمة الخروج علي الحاكم الظالمأو إعلان الجهاد ضد الغازي بالثورة وأضحت الدولة بديلا عن الأمة….إلخ من مظاهر التحول- وليس التطور- التي ميزت حياة الناس في العالم الإسلامي، حيث أصبحت الرؤية ضبابية، بل معتمة والبدائل مستنسخة من تجارب جميع أصقاع العالم، دون تشذيب أو تهذيب أو اهتمام بتناقض الخلفية ومغايرة الواقع، ولعلنا في موريتانيا نقدم الدليل الأبرز علي تناقض الواقع المعاش مع طبيعة ” الخطط التحديثية والأدوات المستخدمة في هذه العملية، فالحزب السياسي، هو حزب رئيسه والمرفق العام، هو امتياز لمن يديره، وحتي السيادة والإستقلال داخل الفضاء الدولي، هي أمور مجال تنكيت وتندر.
حقائق يضيق الوقت عن سردها، لكنها تعكس تداخل المتخيل مع الواقع والعام مع الخاص والذاتي مع الموضوعي، عندما نكون بصدد أي مقاربة ذات صبغة سياسية أو اجتماعية أو إقتصادية وإنسانية في بلد إسمه موريتانيا، لذا نحن مضطرون اليوم للتذكير بهذه الجوانب، لأننا بصدد مناقشة نتائج حوار سياسي أراد له طرفاه أن يكون جامعا مانعا، فإذا به مجتزأ وغامض الدلالة والأهداف.
الحوار في الميزان
فالمتتبع لنتائج هذا الحوار السياسي بين الأغلبية والطرف المعارض الذي قبل به وذهب فيه حتي النهاية، يلاحظ مايلي:
– شكل تطويرا في أسلوب العملية الإنتخابية، بحيث زاد من عدد المنتخبين في الجمعية الوطنية- وهي أعباء مالية، قد لا تكتسي أولوية في ظل سياسة التقشف وضرورات شد الحزام- لكنها خطوة تزيد من حجم المشاركة في دوائر ذات ثقل سكاني علي الأقل.
– نفس الشيء يمكن أن يقال عن لجنة انتخابية دائمة من حيث التكاليف وموسمية في المهمة، أما الإنجاز الأهم، فهو منع الترحال السياسي للمقاعد الإنتخابية.
– لكن الخطيئة الكبرى كانت هي: الإبقاء علي مجلس الشيوخ، الذي لم يعد له من دور، سوي إفساد الحياة العامة وتغييب إرادة الناخب، من خلال شراء المستشارين وعملية البيع والشراء داخل الأوساط البلدية، بالإضافة إلي إثقال هذه الغرفة لكاهل البلد بميزانيتها الكبيرة، دون مردود واضح، لذا يجب أن توجه هذه الميزانية لسد الزيادة الجديدة في عدد أعضاء الغرفة الأخري والتخلص من هذه الغرفة عديمة الفائدة.
– وبالنظر إلي تحويل مسؤولية الوزير الأول، لتصبح أمام البرلمان وليس رئيس الجمهورية، فلعلها مجرد لعبة لغوية لا تتجاوز المستوي اللفظي، لأنه من حيث الواقع: لكل رئيس أغلبية داعمة له، تشكلها الأطر المنتفعة من نظامه، أو اللاهثة وراء الوظائف والباحثة عن قطعة من الكعكة الوطنية، بالإضافة إلي التحالف التليد بين ساسة العسكر ورأس المال، مستخدمين لذلك اليد القبلية الممدودة دائما لنيل الحظوة وجهاز الإدارة المفعل والمدرب والذي أصبح يتقن مهامه بامتياز.
إلا أن الإتفاق لم يوضح لنا الإختصاصات المحددة لرئيس الوزراء وتلك المتبقية لرئيس الجمهورية، إنها حقيقة تؤكد المقولة المأثورة: “الشيطان يكمن في التفاصيل”.
– محاولته الواضحة لترويض السيد أحمد ولد داداد، بل وتحجيمه داخل مواقع ظل يرفض لأكثر من عشرين سنة مواقع أسمي منها، فهي محاولة مكشوفة إذن لإرغامه علي الترشح لمقاعد أدني من رئاسة الجمهورية، التي تعتبر بغيته وفضاؤه الوحيد الذي لا يقبل موقعا غيره.
– وبخصوص قصة تحريم الإنقلابات اللاحقة دون السابقة، فتلك قصة أخري تحتاج إلي محلل نفسي وليس سياسي، والأهم من هذا وذاك أن لا تكون نتائج الحوار الحالي، مثل نتائج اتفاق دكار، الذي ذبل بسرعة ووصف بأنه غير مقدس عند ثاني محطة وتحول الطرف المناوئ بفعل نتائجه إلي مجال للتندر والسخرية.
أما موريتانيا فلها قصة أخري
ذاك هو الإتفاق الذي رآى فيه المتحاورون حلا سحريا لجميع مشاكل موريتانيا الملحة، لكن الواقع له ملامح أخري وحقيقة جهلها أو تجاهلها المتحاورون، فالأمن لازال أمن النظام وليس الوطن والوظيفة لا زالت امتيازا يستحق الحاكم بموجبه التمجيد والتصفيق والتهليل ولا زال واقع الثروة الوطنية يسوده التكتم الشديد وحجب أي معلومة قد تصل إلي جمهور الناس وحتي خاصتهم، لأنها بكل بساطة هي بغية الحاكمين وأداة المتنفذين.. أما عامة الناس فليس لهم إلا الفتات وانتظار القادم مما وراء الحدود، وأغرب ما في الأمر أن حكامنا يضنون علينا بتفعيل ما يمكن أن ينبت الزرع ويدر الضرع.. أما ما في باطن الأرض وما تزخر به البحار، فهذا ملك خالص لهم ولخاصة خاصتهم وحرام أن يذوق طعمه غيرهم.
هذه هي المعادلة التي تحكم واقع موريتانيا اليوم والتي بموجبها يقصي المتفوق من المسابقات الوطنية لصالح طرف آخر لا يملك من المؤهلات، سوي أنه ابن فلان أو بنت علان.. موريتانيا التي أصبح كل قطاع فيها محتكرا من طرف أبناء صفوة العاملين فيه.. وفي أحسن الأحوال تتحول الغنيمة إلي امتياز قبلي، كل هذا يحدث دون أن نسمع أنين مظلوم أو صرخة من طرف ألئك الذين مورس عليهم هذا الظلم وهذا الغبن- قد يكون صوتهم خافتا لا نسمعه، حتي لاندخل في دائرة التعميم المخل(ولعله الهدوء الذي يسبق العاصفة، لأنهم في النهاية بشر)- والأدهي من ذلك أن من يمارسون هذا الظلم والتمييز ويمعنون في انتزاع حقوق الآخرين بغير حق ، لا يشعرون بتأنيب الضمير ولا بالإحراج أمام الآخرين، لأنه واقع تكرس وأصبح قاعدة لا وجود لاستثناء يشوش عليه أو يظهر مزايا النقيض.
فهل ترون أيها الساسة أن شعبا يقبل بواقع كهذا ويري في الدونية قدرا وفي الظلم واقعا لا مفر منه وفي الإفقار ونهب الثروات الوطنية، تفوقا وبطولة تستحق الإشادة وحري بصاحبها أن يجعل أمينا علي خزائن الأرض، لا لشيء إلا لأنه قد ينال منه: فتاتا أو وساطة أو مكانة لدي الآخر بالقرابة أو بالمصاهرة أو أي أي طريقة أخري يمكن أن يأتي من ورائها نفع مادي أو “معنوي”.
هل ترون أيها “الساسة” أن زعيما لقبيلة أو إبنا الوجيه درجا تالدا عن تالد علي التملق للسلطة المستعمرة ووريثتها المحلية، سيصبح بين عشية وضحاها مساندا لحرية الفرد ولديموقراطية الإنتخاب؟ ماذا سيجني من ورائهما؟ وهل ترون في الفرد الذي يري أن ثمن صوته هو: عشاء دسم عند وجيه محلي، يحصل عليه بعد مشقة في الذهاب والإياب، هل ترون أن شخصا كهذا سيحتفي بنزاهة الإنتخابات وبوجود لجنة مستقلة للإنتخابات؟ وماذا يعني له الترحال السياسي وتحويل مسؤولية رئيس الوزراء إلي البرلمان الذي يلا حظ يوميا حجم تجاهله لهمومه ومشكلاته واندفاعه المرضي وراء أبسط إماءة من طرف السلط المتعاقبة، برلمان تحكمه قوي لا يستطيع تخيل ماهيتها ولا طبيعة مهامها.
إننا أيها “الساسة” في بلد يبدو في ظاهره بسيطا وواضحا، لكن ساكنته من أشد الشعوب تعقيدا، يمتاز الفرد فيه بازدواجية مربكة وتحكمه سلطة لا تمتلك رؤية واضحة لطبيعة مهمتها، سلطة تعطي الصدارة لمصالح القائمين عليها، تتحكم فيها النزعة الفردية والمصالح الفئوية، فما لم تتحول هذه السلطة إلي خادم للشعب- وليس متسلط عليه- وتري في مصالحه أولويتها القصوي، وتصبح سلطة تستحي من اللا إنجاز وترسم سياساتها وفقا لحسابات وطنية، سلطة تعطي الأولوية للكفاءة وليس للقرابة، تدرك أن مهمتها هي خدمة الوطن وليس الفئات، سلطة تفرض خطابا وطنيا وتشيع عدلا بين الناس في الحقوق والواجبات وتعرف بعمق دلالات التاريخ وحقائق الجغرافيا، فلن يصلح حال هذا البلد ولن يتعافي من أزماته ومعضلاته المستحكمة.
فمشاكل موريتانيا الآن ليست في رؤيتكم لكيفية الوصول إلي السلطة ولا فيما تصنعون اليوم- والذي هو مطابق في العمق لما صنع هؤلاء وأولئك من قبل- وإنما هي ببساطة ضرورة تأمين الغذاء والدواء لجميع ساكنة هذا البلد، بحيث يأمن المواطن في مأكله ومشربه وسكنه وعلاجه وفي توفير العمل المستحق لمن استطاع بجده وكده أن يتفوق وينجز، وعندها يصبح الإنسان قادرا علي الإختيار، والتصرف باستقلالية في حياته العامة والخاصة، بحيث لم يعد مرغما أن يطأطئ رأسه- بفعل الحاجة- لمن يسومه سوء العذاب ويرغمه علي أن يزكي الجاهل ويفاخر باللص ويهلل للفاجر وللإنتهازي.
هل تعرفون أيها “الساسة” أن لا أحد يقرأ برامج المرشحين للرئاسة؟ وأن لا أحد يبارك ترشيح أي مرشح إلا من خلال ما يناله من ماله؟ ألا تعرفون أن القرية الواحدة بل القرى المتعددة، والحي بأكمله ينتظرون أحيانا رأي هذا الفرد أو ذاك ليصوتوا لمرشحهم “المفضل”؟
إنها مأساتنا المتمثلة في كوننا – وربما بفعل الفاقة والبداوة- نمتلك جميعا مهارات عالية في فن الحصول علي المنافع المادية، ونتصف بتفانينا المطلق في كل ما هو فردي وذاتي، لكن نخبنا بدائية علي مستوي الإبداع السياسي، فكلما توهمنا في شخص أو في مجموعة خبرة سياسية متميزة، فإذا بهم جميعا يسقطون عند أول امتحان، لذا نحن بحاجة إلي مران سياسي غير الذي نردد ونمارس.. وبحاجة كذلك إلى عقول تنتج ولا تردد ما تسمعه كالببغاء، كفاآت تستوعب المدارس السياسية وتضيف لها إبداعا يستجيب لواقعنا المحلي، فرغم تعدد الأسماء والمسميات وكثرة اليافطات عندنا، ورغم طول التجربة السياسية وتنوعها ، فلا زلنا أمام جمود ذهني وبلادة تبدو وكأنها مستحكمة، فهل قدم لنا فريق سياسي واحد رؤية تحليلية تعبر بطريقة عقلانية عن واقع موريتانيا؟ هل هناك ثوابت وطنية تتفق عليها جميع الأطراف السياسية؟ ألم يترك الساسة الموريتانيون بلدهم نهبا للشائعات وللمتربصين؟ ألم يبقي- ومنذ نشأته- مجرد مشروع دولة يعتقد كل متطرف وكل انتهازي أنه قادر علي صياغته وفقا لهواه هو أو من يحركه في الخارج؟ ألا يشكل واقعا كهذا خفة سياسية وسطحية يجب أن تشكل إدانة لجميع المتصدرين للشأن العام؟
الحقيقة المرة
رغم أن شعبنا الموريتاني كان ضمن واقعه التقليدي ينبذ كل ما يشين ويحتقر في نفس الوقت السارق ويفرض عليه أن يعيش دونية تؤدي به إلي الهجرة من محيطه والتخفي عن معارفه، لكن العقود الأخيرة – وبالتحديد، منذ أن حكم العسكر موريتانيا- ظهرت خلالها بوادر لنهب المال العام، كان يشار إلي رموزها بالبنان ومحل نقد من طرف الخاصة والعامة، لكن الظاهرة تطورت لاحقا، لتشمل حتي رؤساء الجمهورية، الذين أصبح بعضهم يري لنفسه الفضل علي الغير من خلال ما جمع من ثروة وما كدس من أرصدة في البنوك المحلية والأجنبية.. حتي أن سكان نواكشوط أصبحوا يتحدثون في مجالسهم الخاصة عن مفاخرته بثرواته الطائلة، والتي ما كان له أن يفكر في رقمها الفلكي، لو لم ينصب نفسه بالقوة أمينا علي هذا البلد وساكنيه ويتحكم في شارده ووارده.
فمن هذا الباب كان علي “ساسة الحوار” أن يلجوا ومنه وحده كانوا يستطيعون النفاذ إلي قلوب الموريتانيين المنهكين في مجملهم ماديا والمدقعين في غالبيتهم فقرا، بفعل هذا الغبن و هذا النهب الذي كان سببا لواقعهم المفجع، والذي يفرض علي ” أولي الأمر منهم” أن يتذكروا قصة عمر بن الخطاب مع المجاهدين، عندما قال له بعضهم: لا سمعا ولا طاعة، وعندما استفسر، قيل له: لأنك أخذت أكثر من نصيب الفرد الواحد منا من ثياب الفيء، فلما علموا أنه جمع ثوبه مع ثوب ابنه، قيل له الآن سمعا وطاعة.
فأول ما يجب علي الساسة معرفته، هو: أن الخوف انتقل من الشعوب إلي الحكام، بفضل من الله ونعمة منه وبالتالي فلم يعد مقبولا أن يخنعوا- خوفا علي الأقل- لذا كان عليهم وضع آلية من خلال حوارهم “السياسي هذا”، ترد إلي الشعب الموريتاني أمواله المنهوبة من طرف مجموعة أمنها علي مصالحه،بالرضي أو بالإكراه، فاختارت خدمة نفسها علي حساب وطنها.
– فأول شخص كان يجب أن يشكل قدوة ويتنازل عن ثروته هو زعيم البلاد وقدوة نخبها، هذه الثروة التي يقدرها البعض بالبلايين والبعض الآخر يري أنها أصبحت بالتريليونات- يتنازل عنها لصالح مشاريع تخدم وطنه وشعبه وله في ثروة مبارك وغيره خير مرشد ومعين علي هذا التوجه المربح في الدنيا وفي الآخرة.
– وثانيها استرداد جميع ما نهب في عهد النظام الحالي.
– وثالثها استرداد جميع ما نهب خلال العقود الأخيرة.. وما أكثره وأوضح رجالاته.
فالدليل واضح، تؤكده حقيقة الفقر المدقع الذي كان يعيشه هؤلاء عند تقلدهم للمناصب وغناهم الفاحش والمقزز أثناء وبعد خروجهم من الموقع الذي كانوا يديرون منه المرافق العمومية.
وعندها فقط يمكن للمواطنين أن يصفقوا لإصلاح كهذا وبهذه الطريقة وحدها تكونوا أيها ” الساسة” قد حققتم لموريتانيا إنجازا يستحق التقدير والإشادة وستدركون أن هذا هو ما يحتاجه شعبكم وبلدكم حقا وستكتشفون حقيقة طبيعة الأولويات الملحة، والمتمثلة في ضرورة إزالة الفقر وتصحيح الإعوجاج وتكريس العدالة.. وعندها سيهلل لكم الشعب، كل الشعب أيها المتحاورون إذا أنتم صعدتم علي الكرسي أو بقيتم في الساحة “تناضلون”.
هذه هي أولوية المواطن وتلك أولوياتكم أنتم والتي لم نجد من بينها قطعا: ” من أين لك هذا؟ “، لأن جل رموزكم سيصبحون في النهاية من أول ضحاياها.