كانوا ثلاثةً من قرّروا موقع المؤتمر، ولد اشدو وسيدي محمد ولد السميدع وعينين. ظروف أمنية وجغرافية قالت الكلمة الأخيرة؛ توكومادي. نواكشوط لم يكن مطروحاً، كان بين أحضان السلطة. والذين فكروا في دكار تذكروا عيون السلطة وخناجرها هناك.
توكومادي أيضاً وُلدت 1929، نفس عام ميلاد رجل المهمّة، وربما وجدها سانحة لتفاؤل سوف يحتاجه هناك. كانت قريبة من كيهيدي والنهر، غفتْ على ذراعه أربعين عاما، وبعيدة من نواكشوط؛ من أحضان السلطة وعيونها، وفي المنتصف بين كل القرى والمدن الستة التي فرّقت المؤتمرين المتسللين.
من بين كل القرى والمدن، أراد الأول على مستوى خريجي الدفعة الأولى من مدرسة المعلمين، عينين ولد أحمد الهادي، التحويل لقرية منسية بين أحراش الضفة ومستنقعاتها. تلك كانت مفاجأة كبيرة لوزير التعليم، حين سلّمه جائزة من أربع آلاف أوقية وكتاباً في التربية. “كان لديّ حتى وقت قريب، ثم سرقه أحد المعلّمين” يبتسم منظم مؤتمر تأسيس “الكادحين.”
على مشارف توكومادي
لم يكن سهلا بعد ذلك كله، أن يستسلم عينين للمزاج غير المرحب في الهزيع الأخير من ليل القرية. همسُ الجمع الفضولي الصغير بالبولارية بدأ ينحو إلى اتخاذ قرارات حاسمة؛ مدير المدرسة طمأنَ الجمع بإعادة المعلم في الصباح، باستصدار أمر من الوالي في كيهيدي. “لم يكن الجمع غاضباً من المعلم، كان الغضب على المختار الذي بعث معلما بيظانياً” تذكّر عينين.
كل ذلك كان عبارة عن سوء فهم كبير. ما زالت خاصرة الضفّة تنزف، وفي خضمّ ذلك لم تنتبه لمن يحمل السكين في يده. كان النصل في الخاصرة لكن من يحمل المقبض؟ ليلتَها وجّه “دمبه سي” الأنظار إلى يد السلطة، تحدث عن كل ذلك ببولارية فصيحة. ساعتها عمّد شيخ القريتين على ضفتيْ النهر، دمبه سي “فُلاّنياً،” وضمّدت توكومادي الجرح الأليم إلى حين.
حين جاء عينينَ إلى توكومادي، كان قد أصبح دمبه سي حتى قبل أن يعلم، اسم حركيّ أملته ضرورة التنظيم السرّي، والآن عليه أن يتحرك؛ أن يكتشف مهارات تنظيمية وتعبوية أقلّ سذاجة من تلك في سباق الفرنسي رازاك وولد حرمه. بعدُ توكومادي عن أحضان السلطة وعيونها، مشروط بإلقاء الشباك في نهرها بخفّة هامسة، والانتظار.
لا علاقة للانتظار في نظر عينين بالخمول، والآلاف الأربعة التي نقده وزير التعليم جعل للقرية نصيبا فيها، ألف أوقية لإصلاح القسم المدرسي الخرِب، كانت تلك حركة تنموية وتعبويّة في آن، ومن مال السلطة. ربما كانت هذه الحملة السياسية الأولى لحركة الكادحين. “كان عليّ أن أدخل لهم من مصالحهم.” تلك أيضاً لحظات الاختراق الأولى.
“دخل” عينينَ القرية بلطف. كان حاضراً في كل مصالحها، معلّماً وصديقاً وأخاً وأباً في بعض الأحيان، وعبأ لدعوته السرّية من أبنائها وبناتها حتى شيخ القرية؛ شيخ الضفتين. وأول المؤمنين كان المراقب؛ صاحب سؤال الهوية الصعب “ماذا أنت؟” وبين نساء القرية كانت هناك “صديقات” للدعوة من دون انتماء. الآن وقتُ مناسب لانفجار رعد في سماء توكومادي، رعد على الوضع الصامت.
كانوا سبعةً، غاب منهم واحدٌ ولم يتخلّف. ترامتْ أطراف الجغرافيا التي فرقت المتسللين، وفي المنتصف كانت توكومادي كعبةً رحّبتْ بحجّاجها على استحياء. وحده محمدو الناجي ولد محمد أحمد أبعدته بوسطيلة في الحوض الشرقي، وحين سلكت الطريقُ للالتحاق برفاقه، أوقفه محمدن ولد اشدو في كيفه عائداً من توكومادي، من المؤتمر.
بدقة لافتة، يتذكر عينين كل ذلك؛ من كيفه قدم ولد اشدّو، وجاء بدر الدين من قابو، وأشرع ولد عبد القادر السفين من لگوارب، ومن نواكشوط تسلل ولد عابدين، بينما حملت رياح الجنوب السميدع من دكار، بدا يومها أن كل الطرق بدّلتْ وجهتها، وأدّت إلى توكومادي.
قبل ذلك، كان عينين صديقاً لعبد الرحمن ولد امين، رئيس المركز الإداري في سيفي، وعطلات أسبوع كثيرة جمعتهما في توكومادي أو ماتامْ، وحين أزف استقبال متسلّلي المؤتمر، كان عليه أن يودّعه عند باب سيارة الأجرة، على فرَض السفر للأهل قرب بوتيلميت. كان صديقاً للإداري “وليس للإدارة.” وبالطبع على بعد ثلاثين كيلو مترا من ماتام، كان على عينين أن يتذكّر شوقاً قديماً به لقريب يتاجر في القرية. و نزل.
في توكومادي
هناك كان على ميعاد مع زوار فجر غير معتادين، والنهر والليل حملا الزورق مرة أخرى في صمت، وخاصرة توكومادي كانت عطوفا هذه المرة، في ضاحية قريبة منها ألقوا عصا التسلل. الآن، بعيداً من أحضان السلطة، رقدت الخناجر في الأغماد، وأغمضت العيون في الجفون. ولثلاث أيام كانت “الصديقات” الصلة بالعالم، حملن الماء والزاد والخبر.
الآن كانوا ستةً. حواريّون عليهم كتابة إنجيل الحركة. عُروبيّون سابقون رأوا فجأة أن الوطن واحد يجمع قوميات متنوعة، تشترك الأرضَ والمصير والعدوّ كذلك، كان قريباً وواضحاً؛ النظام القائم؛ الإقطاع البلديّ والبيروقراطية الماليّة ممثلة في “ميفرما” وشركات فرنسية أخرى، لا مصلحة لها في تغيير الوضع القائم. “أولئك الذين لا مصلحة لهم في التغيير لن يشاركوا فيه.” يقطع عينينَ والكادحون.
كانت الغاية بديهية دائما؛ الوصول للسلطة. وفي توكومادي عرف المؤتمرون الوسيلة أيضا؛ العمال والفلاحون والعبيد، فئات وطبقات نسيها النظام في الهامش، وتذكرها الديمقراطيون الوطنيون ذلك المساء، أعلنوها همساً قاعدةً لتثبيت أقدامهم في مواجهة السلطة، وسُلّما للوصول إليها وانتزاعها، لكن بسلميّة. العنف سيأتي سنوات بعد ذلك. نيّته على الأقل.
انطلق الستة رسلاً ومبشرين بكتابة العهد الجديد. وكان غليان سنوات الستينات في بعض مآسيه سعيداً للكادحين، حملتْ صُدف ذلك العام 68 أحداث ازويرات المؤلمة، فتحت الشرطة النار على صدور العمّال لحماية مصالح فرنسيّة. كانت تلك على كل حال معموديّة وقربانا احتاجتهما الحركة من دماء أبنائها، وأعطتها مصداقيّة بين آخرين في حاجة للتبنّي.
سنوات سبع وخمسون مرّت على كل ذلك، ولا جسور هناك تجري تحتها المياه خفيفةً، لقد جرَف النهر كل ذلك بقسوة، إلا القليل منه حمله عينينَ إلى ستوديوهات صحراء 24. واليوم حين يتذكر كل ذلك يحزّ في نفسه ما اعتبره فرصة الكادحين الضائعة؛ “لم نخلّف جيلاً يحمل المشعل من بعدنا.” لَربّما لفت المجلد الضخم بجواره طوالَ شهادته نظره. بين دفّتيه رقدَ الرجل ذو المهمّة؛ محارب الطواحين الجسور “دون كيشوت.”
الأحد, 9 مارس
24/24 :
- الرئيس الجيبوتي يوشح محمد الحسن لبات تقديرًا لجهوده في تعزيز السلم
- موريتانيا.. ندوة تدرس استخدام الرقمنة لتقليص وفيات الأمهات (إعلان)
- هدوء في معبر كوكي بعد “توتر ” ونواكشوط تنسق مع دول الجوار
- استطباب نواذيبو: حادثة «الإسعاف» تصرفٌ فردي وسنتخذ الإجراءات المناسبة
- الدرك يوقف سيارة إسعاف تحمل 8 مهاجرين إلى نواذيبو
- موريتانيا.. شركة للمياه تطلق ماركة مياه معدنية جديدة (إعلان)
- “عينينَ” من “توكومادي”.. اللحظات العسيرة الأولى لميلاد “كادح” (2/2)
- مالي تعلن إجراءات جديدة لتسهيل إقامة مواطنيها في موريتانيا
“عينينَ” من “توكومادي”.. اللحظات العسيرة الأولى لميلاد “كادح” (2/2)


Screenshot
شاركها.
فيسبوك
تويتر
واتساب
لينكدإن
البريد الإلكتروني