آخر مرة التقيته فيها كان عائدا من المستشفى، وقد استبشر أن علاجه لربما آتى أكله، فيعلق مبتسمًا بأنه ربما يعيش لسنة أخرى، لكن القدر لم يمهله فأسلم الروح إلي بارئها أسابيع بعد ذلك في أحد مستشفيات الرباط.
ذلكم هو محمد بن عيسي الرجل الاستثنائي الذي أنجبته أصيلة في أربعينيات القرن العشرين، امتهن الصحافة وعاش بين القاهرة ونيويورك وواشنطن، وجال في أفريقيا معدا لأفلام وثائقية.
بعد ذلك دخل في مسار جديد؛ نائباً في البرلمان المغربي ثم وزيرا للثقافة والخارجية، ولكنه ظل قبل كل شيء رجل ثقافة عرف كيف يطوعها لخدمة التنمية.
وحده بن عيسي من نجح في تجربة تلك الخلطة السحرية التي تمزج بين الثقافة والسياسة، كثيرون غيره فشلت تجاربهم، حين سقطوا عند أولى منحنيات الطريق.
في بيته الدافئ بالرباط وجدته مبتسما كعادته، متدثرا بوشاح، ومن خلفة علقت صور أبنائه وأحفاده، وكأنما أراد الاستمساك بدفء العشيرة التي ظل قريبا منها، تلك العشيرة التي تبدأ بقرابة الدم ثم تمتد إلى أصدقائه فجميع سكان أصيلة الذين ظل طيلة حياته الأب والحضن لهم، يكرس حياته للبحث عما يقرّبهم إليه من روابط ووشائج.
لم أكن أصدق أن تأتي اللحظة التي نستعرض فيها علاقاتنا بالطول والعرض، فتعود بنا الذاكرة إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث يمتطي معنا بن عيسى طائرة هليكوبتر عسكرية لتنقلنا من مطار الرباط إلى الراشدية، حيث عشنا أياما نتدبر العلاقة بين الشعر الحساني والملحون، ونستمع إلى عميد الأدب الحساني الأستاذ الراحل محمدن ولد سيد إبراهيم وهو يلقي روائع الغزل التي أطربت الجمهور أيما طرب، وفي جلسات أخرى قدر لنا أن نسمع من الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر روائع شعره ونوادر حكاياته التي تضاهي أروع وأجمل القصائد.
بعدها أصبحت من الضيوف الدائمين على المهرجان الثقافي الذي دأب على تنظيمه شهر أغسطس من كل عام في بلدته الرائعة “أصيلة”؛ لم أكن من الذين ينتظرون أن تصلهم دعوة، فقد كان المهرجان جزءا من برنامجي الاعتيادي.
التخلف عن موسم أصيلة كان فيه نوع من الحرمان، فهو فرصة لأن نلتقي الطيب صالح وبلند الحيدري وجورج بهجوري وأحمد المديني وميشيل كيلو وعمرو موسي ومحمد شكري وحسن عبد الرحمن، وغيرهم كثيرون.
أصيلة ظلت حريصة على تنويع زوارها، فكانت تستقبلُ نجوم السينما المصرية جنبا إلى جنب مع الشعراء والروائيين وأهل السياسة، وخبراء الاقتصاد والأمن، لتصبح أصيلة واحدة من أهم المنصات الأفريقية والعربية، في دهاليزها يتعارف ضيوف من مشارب شتى، فتنشأ روابط وتتجسد أفكار ومشاريع.
في العقد الأخير آمن محمد بن عيسي بكون أفريقيا هي قارة المستقبل وأرض الفرص، فبدأت تستحوذ على حيز مهم من أنشطة الموسم الثقافي، ولكن العلاقة بين أصيلة وأفريقيا تعود إلى بداية التأسيس، حين اعتاد الرئيس السنغالي الراحل ليبولد سيدار سنغور أن يؤم أصيلة، وهو في تقاعده السياسي وتفرغه للشعر.
وعلى خطاه سار ماكي صال، حين جاء في أحد أيام رئاسته، ليلقي خطابا رائعا عن دور الثقافة في التنمية، وأصر على أن يسلك ذات الدرب الذي ظل سنغور يسلكه صحبة محمد بن عيسي، رافضا كل نصائح البروتوكول لتجنب مسار طويل وضوضاء أكبر.
عقد بن عيسى الكثير من الندوات عن أفريقيا، وتناولها من زوايا كثيرة ومتنوعة، فسلط الضوء على الصحراء الكبرى بكل ما تحمله من تعقيدات ومشاكل، وناقش مسألة الحدود الشائكة والمعيقة للتنمية، وتدبّر مستقبل الطاقة في قارة تمتلك الكثير من الموارد ولكنها تواجه النقص والندرة.
لم يترك أي موضوع يهم القارة إلا أفرده وأشبعه نقاشا، فقد كان يتألم لحال الأمة، ويرى في القارة السمراء مستقبلا كبيرا وغامضا في الوقت ذاته، فتجتمع عنده ثنائيات الأمل والألم، والرجاء والخوف.
ظلَّ بن عيسى يطرحُ الاسئلة الكبرى حول الحاضر والمستقبل، حول الثقافة والتنمية، وحين كانت جلسات نقاش الموسم غير كافية لاستيعاب الأسئلة وتحليل الأجوبة، وإشباع الرغبة في النقاش، كان ينقل النخب في الأماسي الدافئة إلى بيته؛ تلك التحفة العمرانية وسط أزقة المدينة القديمة، فتراهم متحلقين حوله يتحدثون عن القضايا التي تشغل بال الأمة.
نخبة من بلاد شتى، يتحدث الجيران بعضهم إلى بعض، يبلغون رسائل ويتقاسمون أسرارًا. تجد اللاتيني القادم من أقصى يسار الثورة، والفلسطيني المتشبع بافكار التحرر، وتسمع المثقف التونسي والليبي يتحدثان عن جروح لم تندمل بعد.
حولهم يوزع الرجل النكت والأسئلة المحرمة، ثم لا يتوانى عن احتضان الكل، كدأبه يوم أسس هذا الصرح الثقافي النادر في تلك البلدة الصغيرة المشبعة برائحة الثقافة والسردين والأسئلة المؤجلة.
رحمك الله يا سي محمد وملأ قبرك نورا كما ملأت حياة الكثيرين بالمحبة والأمل.