وبعد:
(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[[1]]url:#_ftn1 ).
لقد ضرب الصحابة أروع مثال لإخلاص الحب لهذا النبي الكريم وبذل النفوس رخيصة في سبيله، ذلك ما عبر عنه أبو عبيدة بن الحارث في بدر حين تمثل بأبيات أبي طالب عند استشهاده:
كذبتم وبيت الله نسلم محمدا ولما نقاتل دونه ونناضل
ونمنعه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا و الحلائل
أو عبر عنه سعد بن الربيع في أحد وما بعث به مع الذي لقيه حين استشهاده للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خيرا ما جازى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل: إن سعد بن الربيع يقول لكم: أنه لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف[[2]]url:#_ftn2 .
أو عبر عنه حسان حين أجاب أبا سفيان بن الحارث:
هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا تقيا رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
فما على أي فرد من أفراد الأمة إلا أن يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
فما بقاء الأمة بعد سب نبيها صلى الله عليه وسلم؟
(وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله[[3]]url:#_ftn3 ).
أما ما صدر من ذلك الكلب المسعور من ألفاظ شنيعة فلا تضر سواه وأين السماء من نبح الكلاب:
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
لم يختلف أهل العلم في أن من صدر منه ما يشعر بالاستخفاف والوقيعة في أي نبي من الأنبياء تصريحا كان أو تلويحا أنه مرتد عن دين الله والعياذ بالله وحده القتل ولا تقبل توبته ولا تنفعه استقالته أو فيئته قال أبو بكر بن المنذر أجمع أهل العلم عموما على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل وممن قال ذلك مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي قال القاضي أبو الفضل وهو مقتضى قول أبى بكر الصديق رضي الله عنه ولا تقبل توبته عند هؤلاء، وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأهل الكوفة والأوزاعي.
قال القاضي عياض ولا نعلم خلافا في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.
قال محمد بن سحنون أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب[[4]]url:#_ftn4 .
ولقد أخطأ من حاول أن يعصم دم هذا المرتد مستدلا بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) لأن هذه الآية إما منسوخ بقوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين وأغلظ عليهم) أو تخص أهل الكتاب وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية على ما ذكر القرطبي[[5]]url:#_ftn5 .
و قال ابن حزم في المحلى إنه لم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه[[6]]url:#_ftn6 ”
وبعد ذلك فإن قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) عموم في نفي إكراه الباطل أما الإكراه بالحق فإنه من الدين بدليل (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) كما قال ابن العربي في أحكامه[[7]]url:#_ftn7 .
ولكن الأدهى تضعيفه لحديث (من بدل دينه فاقتلوه) فالحديث أخرجه البخاري عن ابن عباس، وهذا الحديث يدل على أن المرتد الذي يقتل هو الذي يبدل بدين الإسلام دين الكفر، لأنه صلى الله عليه وسلم استثناه من قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، ثم ذكرهم، وذكر منهم: التارك لدينه.
وقال السندي في حاشيته على البخاري: شامل للرجل والمرأة، وهو ما عليه الجمهور خلافا لمن قال: أن المرتدة لا تقتل للنهي عن قتل النساء، وأجيب بأن ابن عباس راوي الحديث قد قال: تقتل المرتدة بل في حديث معاذ بسند حسن كما قال شيخنا وأيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها، وهو صريح في ذلك[[8]]url:#_ftn8 .
وقال في معالم السنن: وقد اختلف الناس فيما كان من علي كرم الله وجهه في أمر المرتدين فروى عكرمة أنه أحرقهم بالنار، وزعم بعضهم أنه لم يحرقهم بالنار ولكنه حفر لهم أسرابا ودخن عليهم واستتابهم فلم يتوبوا حتى قتلهم الدخان[[9]]url:#_ftn9 .
أما قوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل من سبه فمردود من وجوه:
منها أولا أنه قال من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله فنبه إلى أن سبب قتله لم يكن لكفره الأصلي وإنما لكونه آذى الله ورسوله.
وثانيا: أنه كان مأمورا بأن يستألف قلوب الناس ويمُيل قلوبهم إليه ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم ويداريهم ويقول لأصحابه إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا منفرين ويقول (يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا) ويقول (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)
وقال: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين)، وقال: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
ثالثا: أو يكون إنما كان أمر العفو مطلوبا به أول الأمر ولكن بعد أن استقر الإسلام امتنع التغاضي عنه كما فعل بابن أخطل وكعب الأشرف وعقبة بن أبي معيط[[10]]url:#_ftn10 .
ثم إن الحق بعد ذلك رأسا للنبي صلى الله عليه وسلم له العفو فيه لمقاصد شرعي لا للأمة مثله بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بذلك يتبين أن ما حاول به الشينقيطي أن يعصم به دم هذا الساب لا يرتقي لحجة.
أدلة ردته وقتله من الكتاب والسنة:
فمن القرآن: قوله جل من قائل: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) فمن لعنته في الدنيا القتل.
وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجا من قضائه ولم يسلم له ومن تنقصه فقد ناقض هذا.
وقال (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) وقال تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن يعْف عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ) قال أهل التفسير كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الإجماع فقد ذكرناه.
وأما من أدلة الآثار:
ففي المتفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فانتدب له محمد بن مسلمة، قتله غيلة دون دعوة بخلاف غيره من المشركين وعلل أن قتله لم يكن لشركه وإنما للأذى.
وفي صحيح البخاري بعثه لعبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع اليهودي لأنه كان يؤذيه صلى الله عليه وسلم.
كما في المتفق عليه أيضا من حديث أنس بعثه لمن قتل ابن خطل وقد قيل له إنه متعلق بأستار الكعبة وقد كانت له جاريتان تغنيان بسبه صلى الله عليه وسلم.
كما كانت تلك عاقبة كثير من المستهزئين كالنضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط وأمر بقتل جماعة منهم قبل الفتح وبعده فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه.
صلى الله عليه وسلم[[11]]url:#_ftn11 ).
وبلغ المهاجر بن أبى أمية أمير اليمن لأبى بكر رضي الله عنه أن امرأتين غنت إحداهما بسب النبي صلى الله عليه وسلم فقطع يدها ونزع ثناياها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتها فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي فعلت بالمرأة التي تغنت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر، وأما التي تغنت بهجاء المسلمين فإن كانت ممن يدعي الإسلام فأدب دون المثلة[[12]]url:#_ftn12 .
ولو لم يكن في المسألة إلا حكم سيدنا أبي بكر هذا لشفى وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، نسأل الله بجاه الرحمة المهداة أن يحفظ علينا إيماننا وأن يمسكنا بهديه إنه ولي ذلك والقادر عليه.