بسم الله الرحمن الرحيم
“و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قومي إني بريء من ما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين” (سورة الأنعام)
لقد عودت الموريتانيين أن أكتب رأيي في كبريات القضايا الوطنية المطروحة، وعلى أن أعبر عن وجهة نظري في الشأن السياسي بكل وضوح، وبكل جرأة.. لأن الجرأة أولى أدوات الحق.. ومنذ دخولي الساحة السياسية الموريتانية لم أتوكأ على عصا العمل السياسي السري.. لقد كنت دائما أعمل فوق التراب، ولم تغرني يوما الكواليس المشبعة بإغراءات كثيرة.. وكنت أشفق على من أراهم يحفرون الأرضيات تحت أقدام منافسيهم. إنهم لا يخفون علينا
لم أكن من السياسيين الذين لا يكتبون للرأي العام لتوضيح رؤيتهم وأفكارهم.. فاحترام السياسي لمواطنيه يجب أن يترجم أولا في أن يكتب لهم رؤاه حتى يستفيدوا ويشكل لهم رافعة، أو يصوبوا ما كان من أرائه خطأ… إنني لا أحب السياسيين الذين يكتفون بالبوق ويبتعدون عن القلم.. القلم وثيقة تاريخية لنا أو علينا.. أما اليوم فإننا نشاهد ميل كثير من السياسيين نحو “الطاووسية”، إن صح التعبير، وهي الحرص على تقديم صورة شاشاتية ترويجية كاذبة في أغلب الأحيان، وفيها الكثير من التكلف والتطبع والتنطع والتمظهر الكاذب.
لقد قلت لولد الطايع 2003 إنني أرفض الإغراءات التي عرضها علي، ونصحته بثورة داخل نظامه وببدء ديمقراطية حقيقية سيكون هو المستفيد الأول منها.. لم يستوعب ما قلت له فدفعت ولد هيدالة للترشح ضده، فكان ما كان من ما يعرفه الجميع من ما لا داعي لبسطه هنا، فكانت بداية العد التنازلي لحكمه… كان يتصور أنه قمة الديمقراطية وأن البلد أصبح على القمر… كان فخامته في برج عال.. بل لعله كان في بالون انقطع حبله وصعد في الأجواء وكان يظن أن رجليه على الأرض بينما كان يسبح بعيدا جدا..إلا أن الحق سبحانه أخذ على نفسه أن لا يرفع شيئا إلا وضعه لتكون الكبرياء و العظمة و البقاء لله وحده.
كانت صورة واقع الرجل واضحة لي.. و كنت حقا أتأسف لحال أولئك الذين يحرصون على تنظيف جيوب الموتى السياسيين وتسجيل أسمائهم في سجل ورثتهم.. وقبل ذلك وبعد ذلك لم أكن لأرهن نفسي أو أبيع مصلحة شعبي بامتياز شخصي.. يحسبه البعض كذلك.. وأعتبره تكليفا شاقا..
اليوم، وموريتانيا تمر بالظروف الحالية، وهي لا تحتاج للشرح ولا للتشريح ولا التأطير و لا التكييف أو التعليل.. لأنها واقع ماثل للعيان.. يراه الجميع ويسمعه، إلا من كان به صمم بصيرة.. اليوم أجدني مضطرا بل ومطالبا بتوضيح وجهة نظري.. تماما كيوم عبرت عنها من داخل عنبر “أكوانتنامو واد الناقة”.. حين كنت وقتها ورفيقاي ولد هيداله وولد داداه في تلك الزنزانة.. فكتبت مرافعتي المشهورة تحت عنوان “ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه”.. و تماما، حين نصحت زعماء منسقية المعارضة الحاليين بان الرهان على الثورة الشعبية في واقع مجتمع كالمجتمع الموريتاني هو رهان خاطئ و خاسر، كمن يراهن على العاصفة في إصلاح الأبواب.
قبل الدخول في التفاصيل.. أودّ من هذه الحلقة التمهيدية الإشارة إلى بعض الأمور التي قد تكون سطحية ظاهريا وغير مهمة.. ولكن ستظهر دلالتها في الحلقات القادمة.
أولا، أعرف مسبقا أن هذه الحلقات ستثير من الغضب ما لم يثره غيرها في تاريخ هذا البلد.. و أتوقع أن تكون ردود الفعل قاسية بأنماطها السكينية المختلفة.. أعرف ذلك تمام المعرفة..
ولكن، أقول لنفسي، ولأولئك الذين سيفاجئهم مضمون ما سأنشر في وقت لاحق، أنني أعي تماما مسؤوليتي التاريخية في هذا الظرف، تماما كما وعيتها في الظروف السابقة، وأنني مستعد لتحمل ردود الفعل أيا كان شكلها معنويا أو حسيا… أليس من أوقد نارا لتضيء ظلاما دامسا عليه أن يدرك أن الحشرات بكل أشكالها ستقع عليه..!
بالطبع نعم.. إننا في زمن يقابل فيه من يقول الحق بإزعاج الحشرات و العظاءات والخفافيش الكلامية والبلطجيات العابرة للأخلاق.
هكذا أردت للبعض أن يفهم قبل أن تلتهمه النار الموقدة، إذا لم يستسغ الاستفادة من ضوئها ودفئها في طريق إرادة تجاوز الشتاء الوطني القارس.. “وڲاف حانوت أدويره“.
شكلت مدينة “أدويره” إحدى أولى “المدارس التجارية” الموريتانية.. نقطة التقاء للموريتانيين في أول صدمة المدينة، والتجارة المدنية/ الريفية.. كانت ملتقى ومعبرا للقادمين والرائحين بين الشاطئ العربي والإفريقي.. أيام كان الوطن واحدا.. كانت “أدويرة” معبرا لكثير من السياسيين والمثقفين والشعراء. وحيثما وجدت التجارة عبرت السياسة والثقافة..
في بداية القرن الماضي، كانت “أدويره” بالنسبة للموريتانيين بمثابة “هونغ كونغ”.. وكان العائد منها إلى الأرياف الموريتانية عائد من “كوكب الحوائج”.. حاملا المواد الغذائية والملابس ومؤن أهل البادية..
من “أدويره”، انطلق بعض أول التجار الموريتانيين في العصر الحديث… كم نحن بحاجة من خلال تاريخ هذه المدينة إلى من يروي جزئية مهمة من حياة شعبنا في نقطة تحول معينة.. ذلك مجال آخر من اختصاص الرواة والباحثين والمؤرخين.. ما يهمنا هنا هو قصة “وڲاف حانوت أدويره” و هي من أشهر القصص التي حفل بها مجتمع “أدويره” آنذاك.. حكى لي هذه القصة الطريفة أحد أعلامنا الأخيار. ارتأيت أن أوردها هنا لرمزيتها و ما تحمله من دلالات و عبر.قصة هذا الحانوت أنه كان الأكبر من نوعه في المدينة وكان صاحبه من أكبر ملاك الثروة التجارية آنذاك.. وكان يعمل في الحانوت عشرات البائعين والمساعدين، وذات يوم دخل عليهم شاب وسيم، في مقتبل العمر وطلب من رب الحانوت تشغيله.. فوافق هذا الأخير، وبدأ الشاب الوافد يتعلم عمليات البيع والشراء وتنظيم البضاعة وتفاصيلها.. ولأنه كان شابا يطفح حيوية ونشاطا فقد تعلم بسرعة قياسية، وأبلى في العمل بلاء حسنا، فقد أصبح الحانوت نظيفا، وبضاعته مرتبة بشكل جيد وجذاب وكان يعامل الزبائن بأخلاق طيبة تجعلهم يعودون إليه كل مرة، بل ولا يساومونه في الأسعار.. مضت فترة وتمكن خلالها “الوڲاف ” من إثبات جدارته، والوقوف على قدميه كأفضل عامل ماهر في التجارة.. ولم يكن ذلك إلا الخطوة الأولى.. فخلال إحدى جلساته مع رب عمله قال”الوڲاف”: ألم يتحسن العمل في الحانوت قليلا”.. فرد رب العمل “بالطبع.. أرباحنا تضاعفت بفضلك أنت.. وأصبحنا منظمين ولا يمكن لأحد منافستنا الآن”.. فرد “الوڲاف” قائلا: “لم أقم بأي شيء حتى الآن.. لأن زملائي لا يعرفون التجارة.. وكنت أطمح لأن نضاعف الأرباح أكثر، وأن نحول الحانوت إلى مؤسسة كبيرة تقوم خلال المستقبل بفتح فروع لها في مدن أخرى… لم يتردد رب الحانوت في اتخاذ ما اعتبره قرارا تاريخيا مفصليا في حياته المالية والتجارية.. فجمع عماله وأصدر قراره بتولي “الوڲاف” إدارة الحانوت وكل شؤونه.. بل وأعلن رب العمل أنه سيتوجه للبادية للاستمتاع بعطلته لأنه متعب من الإشراف على العمل منذ سنوات.. ولأنه الآن وجد الرجل المناسب في المكان المناسب.. أو “الوڲاف” المناسب في الحانوت المناسب.
شعر “الوڲاف” أن الجو خلا له، فتخلص أولا من زملائه الذين يدينون بالولاء لرب الحانوت.. واكتتب عمالا جددا يضمن ولاءهم له، وتوجه نحو موردي البضائع مقدما طلبيات كبيرة لم يترددوا في إدانتها ل”الوڲاف” المعروف بجودة عمله وانضباطه وخبرته التجارية.. وخلال أسابيع كان الحانوت في أبهى صوره فقد تضاعف رصيده من البضاعة، وازداد زبائنه ومودعوه.. وكانت أخبار هذه “الإنجازات” تصل أولا بأول لرب العمل في باديته، وكان تطور الحانوت حديث سكان المدينة.. وهكذا استمرت الأمور.. إلى أن علم “الوڲاف” بأن رب عمله ينوي القدوم لإجراء الحسابات.. فأخذ “الوڲاف” يبيع بضائع الحانوت بأسعار مخفضة ولا يشتري بضائع جديدة، ثم جمع الأموال وأضاف إليها الودائع، وقام بتهريبها إلى “مكان آمن” خارج البلد.. وبالمقابل أخذ آلاف الكراتين الفارغة وملأ بها الحانوت بحيث يتصور من دخله أنه زاخر بالتجارة، عامر بالخير، كما يقولون،.. وهي الصورة التي تولدت لدى رب الحانوت فور عودته، حيث أخذه “الوڲاف” إلى غرفة داخلية وأغدق عليه بالضيافة والحديث الودي الطريف.. وقال له “اليوم استرح.. وغدا نقوم بجرد البضائع وإجراء الحسابات”.. الشيء الذي وافق عليه رب العمل بكل طيبة نفس، فأخذ لنفسه قسطا من الراحة عقب يوم سفر شاق، وما إن صلى العشاء حتى غط في نوم عميق.. عكس “الوڲاف” الذي استخرج حاوية بنزين ودخل الحانوت من باب خلفي وسكب البنزين وأشعل عود ثقاب ليخرج بسرعة ويدخل على رب عمله ويتكئ جنبه وكأن به خؤولة من أهل الكهف..
تصاعدت أعمدة الدخان من الحانوت قبل أن تتبعها ألسنة النيران ملتهمة الحانوت في ثوان حتى قبل أن ينتبه الحراس والعمال النائمون داخله والذين توفي بعضهم وأصيب البعض الآخر إصابات بليغة.
فيما هرع سكان المدينة إلى مكان الحريق حاملين ما تيسر من أدوات نجدة، كان رب العمل في الغرفة الداخلية يعاني من ضيق التنفس جراء الدخان وكان يحاول إيقاظ “وقافه” ليستطلع الأمر دون جدوى.. فـ”الوڲاف” المخلص يغط في نوم عميق مصطنع.. لكن الجلبة أيقظته في النهاية ليخرج هو ورب عمله من باب آخر ويهرعا إلى المشهد المروع حيث آلاف العيون الشاخصة تتفرج على النيران التي التهمت الحانوت.. “حجاب” ..”عين”.. عبارات تطايرت من أفواه المتفرجين وسكان المدينة البرءاء.. ورب العمل الحليم..
لقد مات ضحايا، ورقد آخرون فيما توفر من عناية طبية تقليدية.. وأصبح حريق حانوت أدويرة الموضوع الوحيد للنقاش والتكهنات بين جموع العامة والخاصة..
بالنسبة لرب العمل لم يكن هنالك أي مجال لإجراء الحسابات.. ف”الإنجازات” التهمها الحريق قضاء وقدرا.. والحريق لا يفرق بين بضائع الحانوت وديون مورديه ورصيده المالي والودائع..
انطلت الحيلة على الجميع في المدينة وعلى رب العمل… الذي ودع “وقافه” بدموع حارة، مؤكدا له أنه لن يدخر جهدا في سبيل جمع مبلغ يكون بداية جديدة لهما..
ولأن أضعف رائحة لأي جريمة أقوى من أن تخفيها كل الأغطية مهما كانت سماكتها… فما هي إلا أيام، وأصبحت الحقيقة معروفة لدى الجميع.. قام “الوڲاف” بحرق الحانوت لإخفاء أثر جريمته ومخطط الخيانة الدنيء الذي رسمه وسهر الليالي من أجل تنفيذه.. لقد كان مستعدا أن يحرق كل شيء عمومي و يزهق الأرواح البريئة من أجل الاستيلاء على شيء من مصلحته الخاصة.
هل من هنا انطلقت عقدة الموريتانيين من الأنظمة الحانوتية التي تعاقبت على رقابهم؟.. العقدة من الحاكم الذي يقنبل البلد ويحرق أوصال الأمن والاستقرار الاجتماعي، ويحرك المياه القبلية والشرائحية والعرقية العكرة من أجل الاستيلاء على كل شيء – تافه في النهاية– ومن ثم حرق البلد لإخفاء جريمته؟!.
من هو النظام الحانوتي في تشخيصه لا في مظهره؟
إن المظاهر تتشابه غالبا ويسهل دفعها لأن تتشابه.. لكن في النهاية يسهل التفريق بين إناء ممتلئ وآخر فارغ، وسهل على الطبيب أن يفرق بين الشحم والورم.. وقد لا يكلف ذلك أكثر من إلقاء نظرة. في هذه المعالجة لن أشغل نفسي كثيرا بتشخيص الأنظمة الموريتانية.. إلا بقدر ما يخدم الرؤية التي سأعرضها على المواطن الموريتاني.. ليكون حكما قبل أن يأتي اليوم الذي “تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا” ويحكم الله فيه بين الناس وهو جل وتعالى أحكم الحاكمين.
هناك معطى بسيط يكفينا لتشخيص “حالة حانوتية” سلطوية..
يدرك الجميع أن أدوات البناء هي نفسها أدوات الهدم… إن رفع الأيدي والسواعد للأدوات لا يكفي لاستخلاص النوايا بأنها رفعت من أجل البناء… كما أن الإمساك بخيط لا يعني تسميك نسيج الحلة أو زركشتها، فقد يكون من أجل نقض الغزل بعد إبرامه. المشكلة هنا أن الخيوط الممسوكة كثيرة في الحلة الوطنية منذ الثامن والعشرين نوفمبر 1960، وإلى اليوم من 2013.. ولا تقل أيادي ذات أبعاد قبلية واجتماعية وعرقية وأيديولوجية خطورة عن القبضة الفوقية التي ظلت جاذبيتها تحرك مختلف الأسلاك في اتجاه نقض النسيج الوطني. إن ما تصورته ذات يوم حركات أيدلوجية موريتانية حراكا ثوريا انقلابيا قد تم بيعه على الورق بثمن الخيانة.. كان أول ذلك قيام أشخاص معدودين ببيع “حركة الكادحين”، والتي مثلت ثورة جادة قبل أن تتفرق إلى حركات متمايزة إيديولوجيا وبذلك تم استئصال رحمها حتى لا تنجب.. فعن أي أبناء أكلتهم الثورة يتحدث البعض ؟
من المفارقات المستمرة وإلى الآن أن خمسة عقود من الركود و اللاوعي لم تقنع الموريتانيين بأنهم يبنون في سفح الهاوية.. لأن أي مقعد وظيفي كاف لفرملة نضالات النخبة. فثمة حالة جنونية تجتاح الأكثرية الساحقة من النخبة السياسية في البلاد، وكلما أمعنت النظر فيما يتوهمه البعض وعيا وعملا وطنيا.. أدركت أن الوعي الموهوم ما هو إلا بمثابة تشجيع لنزلاء مصحة الأمراض العقلية على بناء حقل للرماية.
ومن المفارقات الأكثر إيلاما أن حاوية البنزين وعود الثقاب لم تعد حالة محتكرة على “وڲاف” حانوت أدويره”.. فقد صار الكل الآن – إلا من رحم ربك – مبللا بالزيت ومستعدا للعزف بأعواد الكبريت على أصابع الديناميت.
(يتواصل)
“و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قومي إني بريء من ما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين” (سورة الأنعام)
لقد عودت الموريتانيين أن أكتب رأيي في كبريات القضايا الوطنية المطروحة، وعلى أن أعبر عن وجهة نظري في الشأن السياسي بكل وضوح، وبكل جرأة.. لأن الجرأة أولى أدوات الحق.. ومنذ دخولي الساحة السياسية الموريتانية لم أتوكأ على عصا العمل السياسي السري.. لقد كنت دائما أعمل فوق التراب، ولم تغرني يوما الكواليس المشبعة بإغراءات كثيرة.. وكنت أشفق على من أراهم يحفرون الأرضيات تحت أقدام منافسيهم. إنهم لا يخفون علينا
لم أكن من السياسيين الذين لا يكتبون للرأي العام لتوضيح رؤيتهم وأفكارهم.. فاحترام السياسي لمواطنيه يجب أن يترجم أولا في أن يكتب لهم رؤاه حتى يستفيدوا ويشكل لهم رافعة، أو يصوبوا ما كان من أرائه خطأ… إنني لا أحب السياسيين الذين يكتفون بالبوق ويبتعدون عن القلم.. القلم وثيقة تاريخية لنا أو علينا.. أما اليوم فإننا نشاهد ميل كثير من السياسيين نحو “الطاووسية”، إن صح التعبير، وهي الحرص على تقديم صورة شاشاتية ترويجية كاذبة في أغلب الأحيان، وفيها الكثير من التكلف والتطبع والتنطع والتمظهر الكاذب.
لقد قلت لولد الطايع 2003 إنني أرفض الإغراءات التي عرضها علي، ونصحته بثورة داخل نظامه وببدء ديمقراطية حقيقية سيكون هو المستفيد الأول منها.. لم يستوعب ما قلت له فدفعت ولد هيدالة للترشح ضده، فكان ما كان من ما يعرفه الجميع من ما لا داعي لبسطه هنا، فكانت بداية العد التنازلي لحكمه… كان يتصور أنه قمة الديمقراطية وأن البلد أصبح على القمر… كان فخامته في برج عال.. بل لعله كان في بالون انقطع حبله وصعد في الأجواء وكان يظن أن رجليه على الأرض بينما كان يسبح بعيدا جدا..إلا أن الحق سبحانه أخذ على نفسه أن لا يرفع شيئا إلا وضعه لتكون الكبرياء و العظمة و البقاء لله وحده.
كانت صورة واقع الرجل واضحة لي.. و كنت حقا أتأسف لحال أولئك الذين يحرصون على تنظيف جيوب الموتى السياسيين وتسجيل أسمائهم في سجل ورثتهم.. وقبل ذلك وبعد ذلك لم أكن لأرهن نفسي أو أبيع مصلحة شعبي بامتياز شخصي.. يحسبه البعض كذلك.. وأعتبره تكليفا شاقا..
اليوم، وموريتانيا تمر بالظروف الحالية، وهي لا تحتاج للشرح ولا للتشريح ولا التأطير و لا التكييف أو التعليل.. لأنها واقع ماثل للعيان.. يراه الجميع ويسمعه، إلا من كان به صمم بصيرة.. اليوم أجدني مضطرا بل ومطالبا بتوضيح وجهة نظري.. تماما كيوم عبرت عنها من داخل عنبر “أكوانتنامو واد الناقة”.. حين كنت وقتها ورفيقاي ولد هيداله وولد داداه في تلك الزنزانة.. فكتبت مرافعتي المشهورة تحت عنوان “ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه”.. و تماما، حين نصحت زعماء منسقية المعارضة الحاليين بان الرهان على الثورة الشعبية في واقع مجتمع كالمجتمع الموريتاني هو رهان خاطئ و خاسر، كمن يراهن على العاصفة في إصلاح الأبواب.
قبل الدخول في التفاصيل.. أودّ من هذه الحلقة التمهيدية الإشارة إلى بعض الأمور التي قد تكون سطحية ظاهريا وغير مهمة.. ولكن ستظهر دلالتها في الحلقات القادمة.
أولا، أعرف مسبقا أن هذه الحلقات ستثير من الغضب ما لم يثره غيرها في تاريخ هذا البلد.. و أتوقع أن تكون ردود الفعل قاسية بأنماطها السكينية المختلفة.. أعرف ذلك تمام المعرفة..
ولكن، أقول لنفسي، ولأولئك الذين سيفاجئهم مضمون ما سأنشر في وقت لاحق، أنني أعي تماما مسؤوليتي التاريخية في هذا الظرف، تماما كما وعيتها في الظروف السابقة، وأنني مستعد لتحمل ردود الفعل أيا كان شكلها معنويا أو حسيا… أليس من أوقد نارا لتضيء ظلاما دامسا عليه أن يدرك أن الحشرات بكل أشكالها ستقع عليه..!
بالطبع نعم.. إننا في زمن يقابل فيه من يقول الحق بإزعاج الحشرات و العظاءات والخفافيش الكلامية والبلطجيات العابرة للأخلاق.
هكذا أردت للبعض أن يفهم قبل أن تلتهمه النار الموقدة، إذا لم يستسغ الاستفادة من ضوئها ودفئها في طريق إرادة تجاوز الشتاء الوطني القارس.. “وڲاف حانوت أدويره“.
شكلت مدينة “أدويره” إحدى أولى “المدارس التجارية” الموريتانية.. نقطة التقاء للموريتانيين في أول صدمة المدينة، والتجارة المدنية/ الريفية.. كانت ملتقى ومعبرا للقادمين والرائحين بين الشاطئ العربي والإفريقي.. أيام كان الوطن واحدا.. كانت “أدويرة” معبرا لكثير من السياسيين والمثقفين والشعراء. وحيثما وجدت التجارة عبرت السياسة والثقافة..
في بداية القرن الماضي، كانت “أدويره” بالنسبة للموريتانيين بمثابة “هونغ كونغ”.. وكان العائد منها إلى الأرياف الموريتانية عائد من “كوكب الحوائج”.. حاملا المواد الغذائية والملابس ومؤن أهل البادية..
من “أدويره”، انطلق بعض أول التجار الموريتانيين في العصر الحديث… كم نحن بحاجة من خلال تاريخ هذه المدينة إلى من يروي جزئية مهمة من حياة شعبنا في نقطة تحول معينة.. ذلك مجال آخر من اختصاص الرواة والباحثين والمؤرخين.. ما يهمنا هنا هو قصة “وڲاف حانوت أدويره” و هي من أشهر القصص التي حفل بها مجتمع “أدويره” آنذاك.. حكى لي هذه القصة الطريفة أحد أعلامنا الأخيار. ارتأيت أن أوردها هنا لرمزيتها و ما تحمله من دلالات و عبر.قصة هذا الحانوت أنه كان الأكبر من نوعه في المدينة وكان صاحبه من أكبر ملاك الثروة التجارية آنذاك.. وكان يعمل في الحانوت عشرات البائعين والمساعدين، وذات يوم دخل عليهم شاب وسيم، في مقتبل العمر وطلب من رب الحانوت تشغيله.. فوافق هذا الأخير، وبدأ الشاب الوافد يتعلم عمليات البيع والشراء وتنظيم البضاعة وتفاصيلها.. ولأنه كان شابا يطفح حيوية ونشاطا فقد تعلم بسرعة قياسية، وأبلى في العمل بلاء حسنا، فقد أصبح الحانوت نظيفا، وبضاعته مرتبة بشكل جيد وجذاب وكان يعامل الزبائن بأخلاق طيبة تجعلهم يعودون إليه كل مرة، بل ولا يساومونه في الأسعار.. مضت فترة وتمكن خلالها “الوڲاف ” من إثبات جدارته، والوقوف على قدميه كأفضل عامل ماهر في التجارة.. ولم يكن ذلك إلا الخطوة الأولى.. فخلال إحدى جلساته مع رب عمله قال”الوڲاف”: ألم يتحسن العمل في الحانوت قليلا”.. فرد رب العمل “بالطبع.. أرباحنا تضاعفت بفضلك أنت.. وأصبحنا منظمين ولا يمكن لأحد منافستنا الآن”.. فرد “الوڲاف” قائلا: “لم أقم بأي شيء حتى الآن.. لأن زملائي لا يعرفون التجارة.. وكنت أطمح لأن نضاعف الأرباح أكثر، وأن نحول الحانوت إلى مؤسسة كبيرة تقوم خلال المستقبل بفتح فروع لها في مدن أخرى… لم يتردد رب الحانوت في اتخاذ ما اعتبره قرارا تاريخيا مفصليا في حياته المالية والتجارية.. فجمع عماله وأصدر قراره بتولي “الوڲاف” إدارة الحانوت وكل شؤونه.. بل وأعلن رب العمل أنه سيتوجه للبادية للاستمتاع بعطلته لأنه متعب من الإشراف على العمل منذ سنوات.. ولأنه الآن وجد الرجل المناسب في المكان المناسب.. أو “الوڲاف” المناسب في الحانوت المناسب.
شعر “الوڲاف” أن الجو خلا له، فتخلص أولا من زملائه الذين يدينون بالولاء لرب الحانوت.. واكتتب عمالا جددا يضمن ولاءهم له، وتوجه نحو موردي البضائع مقدما طلبيات كبيرة لم يترددوا في إدانتها ل”الوڲاف” المعروف بجودة عمله وانضباطه وخبرته التجارية.. وخلال أسابيع كان الحانوت في أبهى صوره فقد تضاعف رصيده من البضاعة، وازداد زبائنه ومودعوه.. وكانت أخبار هذه “الإنجازات” تصل أولا بأول لرب العمل في باديته، وكان تطور الحانوت حديث سكان المدينة.. وهكذا استمرت الأمور.. إلى أن علم “الوڲاف” بأن رب عمله ينوي القدوم لإجراء الحسابات.. فأخذ “الوڲاف” يبيع بضائع الحانوت بأسعار مخفضة ولا يشتري بضائع جديدة، ثم جمع الأموال وأضاف إليها الودائع، وقام بتهريبها إلى “مكان آمن” خارج البلد.. وبالمقابل أخذ آلاف الكراتين الفارغة وملأ بها الحانوت بحيث يتصور من دخله أنه زاخر بالتجارة، عامر بالخير، كما يقولون،.. وهي الصورة التي تولدت لدى رب الحانوت فور عودته، حيث أخذه “الوڲاف” إلى غرفة داخلية وأغدق عليه بالضيافة والحديث الودي الطريف.. وقال له “اليوم استرح.. وغدا نقوم بجرد البضائع وإجراء الحسابات”.. الشيء الذي وافق عليه رب العمل بكل طيبة نفس، فأخذ لنفسه قسطا من الراحة عقب يوم سفر شاق، وما إن صلى العشاء حتى غط في نوم عميق.. عكس “الوڲاف” الذي استخرج حاوية بنزين ودخل الحانوت من باب خلفي وسكب البنزين وأشعل عود ثقاب ليخرج بسرعة ويدخل على رب عمله ويتكئ جنبه وكأن به خؤولة من أهل الكهف..
تصاعدت أعمدة الدخان من الحانوت قبل أن تتبعها ألسنة النيران ملتهمة الحانوت في ثوان حتى قبل أن ينتبه الحراس والعمال النائمون داخله والذين توفي بعضهم وأصيب البعض الآخر إصابات بليغة.
فيما هرع سكان المدينة إلى مكان الحريق حاملين ما تيسر من أدوات نجدة، كان رب العمل في الغرفة الداخلية يعاني من ضيق التنفس جراء الدخان وكان يحاول إيقاظ “وقافه” ليستطلع الأمر دون جدوى.. فـ”الوڲاف” المخلص يغط في نوم عميق مصطنع.. لكن الجلبة أيقظته في النهاية ليخرج هو ورب عمله من باب آخر ويهرعا إلى المشهد المروع حيث آلاف العيون الشاخصة تتفرج على النيران التي التهمت الحانوت.. “حجاب” ..”عين”.. عبارات تطايرت من أفواه المتفرجين وسكان المدينة البرءاء.. ورب العمل الحليم..
لقد مات ضحايا، ورقد آخرون فيما توفر من عناية طبية تقليدية.. وأصبح حريق حانوت أدويرة الموضوع الوحيد للنقاش والتكهنات بين جموع العامة والخاصة..
بالنسبة لرب العمل لم يكن هنالك أي مجال لإجراء الحسابات.. ف”الإنجازات” التهمها الحريق قضاء وقدرا.. والحريق لا يفرق بين بضائع الحانوت وديون مورديه ورصيده المالي والودائع..
انطلت الحيلة على الجميع في المدينة وعلى رب العمل… الذي ودع “وقافه” بدموع حارة، مؤكدا له أنه لن يدخر جهدا في سبيل جمع مبلغ يكون بداية جديدة لهما..
ولأن أضعف رائحة لأي جريمة أقوى من أن تخفيها كل الأغطية مهما كانت سماكتها… فما هي إلا أيام، وأصبحت الحقيقة معروفة لدى الجميع.. قام “الوڲاف” بحرق الحانوت لإخفاء أثر جريمته ومخطط الخيانة الدنيء الذي رسمه وسهر الليالي من أجل تنفيذه.. لقد كان مستعدا أن يحرق كل شيء عمومي و يزهق الأرواح البريئة من أجل الاستيلاء على شيء من مصلحته الخاصة.
هل من هنا انطلقت عقدة الموريتانيين من الأنظمة الحانوتية التي تعاقبت على رقابهم؟.. العقدة من الحاكم الذي يقنبل البلد ويحرق أوصال الأمن والاستقرار الاجتماعي، ويحرك المياه القبلية والشرائحية والعرقية العكرة من أجل الاستيلاء على كل شيء – تافه في النهاية– ومن ثم حرق البلد لإخفاء جريمته؟!.
من هو النظام الحانوتي في تشخيصه لا في مظهره؟
إن المظاهر تتشابه غالبا ويسهل دفعها لأن تتشابه.. لكن في النهاية يسهل التفريق بين إناء ممتلئ وآخر فارغ، وسهل على الطبيب أن يفرق بين الشحم والورم.. وقد لا يكلف ذلك أكثر من إلقاء نظرة. في هذه المعالجة لن أشغل نفسي كثيرا بتشخيص الأنظمة الموريتانية.. إلا بقدر ما يخدم الرؤية التي سأعرضها على المواطن الموريتاني.. ليكون حكما قبل أن يأتي اليوم الذي “تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا” ويحكم الله فيه بين الناس وهو جل وتعالى أحكم الحاكمين.
هناك معطى بسيط يكفينا لتشخيص “حالة حانوتية” سلطوية..
يدرك الجميع أن أدوات البناء هي نفسها أدوات الهدم… إن رفع الأيدي والسواعد للأدوات لا يكفي لاستخلاص النوايا بأنها رفعت من أجل البناء… كما أن الإمساك بخيط لا يعني تسميك نسيج الحلة أو زركشتها، فقد يكون من أجل نقض الغزل بعد إبرامه. المشكلة هنا أن الخيوط الممسوكة كثيرة في الحلة الوطنية منذ الثامن والعشرين نوفمبر 1960، وإلى اليوم من 2013.. ولا تقل أيادي ذات أبعاد قبلية واجتماعية وعرقية وأيديولوجية خطورة عن القبضة الفوقية التي ظلت جاذبيتها تحرك مختلف الأسلاك في اتجاه نقض النسيج الوطني. إن ما تصورته ذات يوم حركات أيدلوجية موريتانية حراكا ثوريا انقلابيا قد تم بيعه على الورق بثمن الخيانة.. كان أول ذلك قيام أشخاص معدودين ببيع “حركة الكادحين”، والتي مثلت ثورة جادة قبل أن تتفرق إلى حركات متمايزة إيديولوجيا وبذلك تم استئصال رحمها حتى لا تنجب.. فعن أي أبناء أكلتهم الثورة يتحدث البعض ؟
من المفارقات المستمرة وإلى الآن أن خمسة عقود من الركود و اللاوعي لم تقنع الموريتانيين بأنهم يبنون في سفح الهاوية.. لأن أي مقعد وظيفي كاف لفرملة نضالات النخبة. فثمة حالة جنونية تجتاح الأكثرية الساحقة من النخبة السياسية في البلاد، وكلما أمعنت النظر فيما يتوهمه البعض وعيا وعملا وطنيا.. أدركت أن الوعي الموهوم ما هو إلا بمثابة تشجيع لنزلاء مصحة الأمراض العقلية على بناء حقل للرماية.
ومن المفارقات الأكثر إيلاما أن حاوية البنزين وعود الثقاب لم تعد حالة محتكرة على “وڲاف” حانوت أدويره”.. فقد صار الكل الآن – إلا من رحم ربك – مبللا بالزيت ومستعدا للعزف بأعواد الكبريت على أصابع الديناميت.
(يتواصل)