تباينت الأراء حين أطاح العسكر بحكم المقدم محمد خونا ولد هيداله الذي كان البعض يتهمه بالاستبداد وشحن السجون بخصومه السياسيين، بينما البعض الآخر يعتبر أن لو قدر له البقاء على رأس هرم السلطة فترة زمنية أطول، لتمكن من غرس فسيلة هيبة الدولة في نفسية ساكنة بلاد” السيبة” لكن لكل أجل كتاب
ولما طويت صفحات كتاب المقدم هيدالة، وحل محلها مجلد العقيد معاوية ولدسيدي أحمد ولد الطايع الذي استهلكت قراءته عقدين من عمر الشناقطة النجباء، كانت خلاصة تلك القراءة المرتبكة والمملة هي أن طرف الصحراء الجنوبي ستكون عليه مملكة أخرى!!!، إلى أن شاءت الأقدار أن يطير السيد معاوية إلى بلاد الحرمين الشريفين في إطار تعزية أسرة آل سعود إثر وفاة المرحوم، خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، بعد أن فوت قبل ذلك فرصة تعزية شعب الإمارات في وفاة راحله الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل انهيان طيب الله ثراه، حينئذ أعاد التاريخ نفسه ،فقد أزيح بنفس الطريقة التي أزاح بها غريمه ولد هيداله عن كرسي القصر الرمادي حين كان يحضر مؤتمرا للقمة الإفريقية في بوجنمبورا عاصمة بروندي ، لكن هذا الأخير أصر على العودة إلى بلده ، بينما فضل الآخر قضاء بقية حياته منفيا في ضيافة الإخوة القطرين الكريمة ،ربما بسبب صدمة الانقلاب الذي كان مدير أمنه العقيد أعلي ولد محمد فال، وإبن عمه الرئيس الحالي الجنرال عزيز من أبرز زعمائه في اللجنة العسكرية للعدالة والديمقراطية التي استقبلها الشعب بحفاوة وفرح شديدين، ساهما مساهمة فعالة في فك طوق خانق حاولت بعض الدول الغربية لفه حول رقاب ضباطه ،على رأس تلك الدول- بطبيعة الحال- الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن العقيد معاوية كان يسكن في برج عاجي تم تصميمه من طرف دهاقنة الحزب الجمهوري ليرى فخامته من نوافذه حركة الحياة على مناكب الجمهورية سارة للناظرين، بينما هي في حقيقتها في الاتجاه المعاكس لذلك، وهوما اعترف بمضمونه في خطابه الشهير في كيفة عاصمة ولاية العصابة، ولذلك أطيح به من حيث كان يعتقد الإخلاص والأمانة، وتلكم لعمري هي سنة مردعليها أغلب ضباط دول عالم الجنوب، وبدعم لوجستي من مخابرات دول الشمال الحريصة كل الحرص على ديمومة وجودها في بلاد (الرمال المتحركة) التي تعتبر حلقة وصل بالغة الأهمية بين قارة الأفارقة وخارطة عالمنا العربي
وقد أفرز ذلك مجيئ المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية برئاسة العقيد اعلي ولد محمد فال – الذي وصف موريتانيا إبان حكمه بالبقالة المليئة بالعلب الفارغة-على أنقاض سنين خلت من الحكم العجيف لمجموعة من أصحاب الرتب الرفيعة في الجيش تعاقبوا على الإطاحة بهرم السلطة كتعاقب الليل مع النهار، ورغم ذلك لم يتمكنوا من زحزحة بلاد المليون شاعر قيد أنملة عن مربع الفقر والفاقة وسوء التسيير، ونفوذ القبيلة الضارب أطنابه في تفاصيل وحيثيات حياتنا اليومية، ولذلك نال انقلاب المجلس مباركة الشعب بصفة لم يسبق لها مثيل، الأمر الذي ساهم في التعجيل بإعتراف دول الشمال بالانقلابيين ،لأنهم وعدوا بتسليم زمام السلطة للمدنيين دون شرط أو قيد. وعلى وقع أنغام تلك الجوقة بات الشعب الموريتاني يحلم ببزوغ فجر ذلك اليوم الجميل الذي سيستلم فيه زمام أمره بنفسه، ويعود جيشنا الوطني المحترم عودة محمودة وميمونة إلى ثكناته ليستأنف مباشرة مهمته الوطنية النبيلة، التي ذؤابتها الذود والمنافحة عن حوزة تراب الجمهورية الإسلامية الموريتانية
وهكذا استمر الحال على هذا المنوال طيلة (19) شهرا كانت هي فترة حكم المجلس،رغم المؤشرات التي كانت تؤشرعلى ضبابيته وعدم جديته في تلبية وعوده،إلا أن الظروف المحلية والدولية قد أجبرته على الوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه في إشراقة رابعة نهار اشرأبت فيه أعناق الجميع لتنسم عبق العدالة والديمقراطية على أديم هذا الوطن الصبورعلى أبنائه العققة، حيث تمخض ذلك عن مجيئ رجل الاقتصاد الوقور السيد سيدي ولد الشيخ عبدالله إثر انتخابات أشرفت عليها المؤسسة العسكرية بنفسها،وشهدالرأي العام المحلي والدولي على نزاهتها،وبموجب ذلك تم تنصبه كأول رئيس مدني تفرزه صناديق الاقتراح، وثاني رئيس لايعرف فك وتركيب بندقية (كلاشين كوف)، يعتلي سدة الحكم في تاريخ البلاد، لكن فخامته قد فوت فرصة ذهبية ساقتها إليه الأقدار من حيث لايحتسب، كانت كفيلة بأن تجعل إدارة شؤون البلاد تعود إلى راحة المدنين المعطاءة مدى السنين والأيام، غير أنه بدلا من ذلك اتخذ سياسة المهادنة وإسباغ الحوافز المغرية على كبار الضباط الذين كان يعتقد أمانهم وأمانتهم ..من أولئك الذين أسبغ عليهم تلك الحوافز المغرية كما هو معروف رئيس الجمهورية الحالي الجنرال محمد ولد عبد العزيز- وما أدراك ما الامتيازات والعلاوات والأبهة التي يمتاز بها من يحمل تلك الرتبة الرفيعة التي ترمز للكفاءة والرفعة والوطنية، والتضحية والشجاعة والإقدام، والإيثار والنزاهة ونكران الذات مع الجنود أثناء تأدية الواجب الوطني إلى آخره- إلا أن ذلك لم يمنع ضرا ولم يجدي نفعا، وعليه فإن السيد الرئيس حين مارس صلاحياته الدستورية التي تخوله إقالة ونقل أي رتبة عسكرية مهما كانت رفعتها إلى وظيفة أخرى،حتى انقض عليه حامل تلك الرتبة الرفيعة وخلعه من السلطة كما تخلع ضرس العقل من مؤخرة الفكين، بحجة أن قرار عزله له هو وبعض رفاقه يمس الأمن الوطني ويمكن أن يتسبب في إراقة اللون الأحمر القاني على رمال صحرائنا الموحشة، الشيء الذي ترتبت عليه أزمة سياسية خانقة كادت أن تجر البلاد إلى ما لا تحمد عقباه، لولا قبول السيد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبدالله الاستقالة طواعية على خلفية اتفاق دكارالذي بموجبه أيضا قبلت المعارضة خوض انتخابات هي أول من يعلم أنها ستخسرها لامحالة
ورغم أن المعارضة وهي على تلك الحالة من الارتباك،كان من نصيبها وزارات مهمة سيادية هي الداخلية والمالية والإعلام، إضافة إلى رئاستها للجنة المستقلة للانتخابات، إلا أنها مع ذلك قد خسرت تلك الانتخابات خسارة مدوية اعترفت بها مكرهة لأنها لم تجد من الأدلة ما يكفي لإقناع الرأي العام المحلي والدولي، ويثبت وجود تجاوزات خطيرة تفند النتائج التي يدعى الطرف الفائز انه قد حصل عليها
ومن ذلك اليوم حتى لحظة كتابة هذه السطورتكاد أمواج مد وجزر بحر الفريقين تغرق البلاد، فتارة تحاول المعارضة النيل من ولد عبد العزيز وحزبه الحاكم عند أي سانحة تسنح لها، وتارة أخرى يكيل لها الحزب الحاكم الصاع صاعين، بينما الشعب يلعق جراحه العميقة ويتفرج على ذلك الصراع الديكي الذي لم يؤدي إلى إطفاء نارأسعار،ولا إلى إضفاء نماء وصحة وهدوء وهيبة ووقارعلى صفحة وجه البلاد. وعلى مطرقة ذلك الواقع المر نزلت من السماء سلسلة من الأزمات السياسية والأمنية لاقبل للبلاد بها، تطرح أكثر من علامة استفهام حول قدرة الحزب الحاكم على إدارة شؤون البلاد !!!، نذكر أبرزعيناتها الصارخة، وعينات أخرى لاتقل خطورة عنها، سنتطرق إليها لاحقا دون ترتيب لتواريخ حدوثها ألا وهي حادثة ” الرصاصة الصديقة” التي انطلقت من أديم منطقة ” اطويلة” نحو هدفها سيارة رئيس الدولة،حيث تم نقله إلى المستشفى العسكري بانواكشوط لإجراء اللازم، لكن خطورة الحادث وحرجه فرضت نقله على جناح السرعة إلى بلاد (العم سام) طلبا للاستشفاء والنقاهة.
وبعد وصول السيد الرئيس للمشافي الفرنسية، أحيطت حالته الصحية بسورمن الكتمان والسرية، أوقعت طرف المعارضة في حيص بيص التصعيد ومحاولة استغلال ذلك الحدث لإقناع الرأي العالم المحلي والدولي بضرورة رحيل عزيز، لأنه أصبح في أعداد العاجزين عن تأدية مهامهم الموكلة إليهم، إلى أن فاجأ العالم بمؤتمره الصحفي القصير الذي عقده مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في باحة قصر الأليزيه، حينئذ استنتج الجميع أن ذلك السور الذي أحيط بطبيعة صحة عزيز وسياسة تقطير المعلومات الشحيحة المتعلقة بذلك، إنما هي خطة مترعة بالمكر ولدهاء السياسيين للإيقاع بالمعارضة وإصدامها في مقدمة رأسها للنيل من ماء وجهها حين يحين وقت ذلك، وقد أنجز حر ماوعد!
ورغم أن الحزب الحاكم برئاسة عزيز قد توالت عليه الأزمات الكبرى واحدة تلو الآخرى ابتداء من إقالة رئيس المحكمة العليا “السيد ولد الغيلاني” مرورا بصاعقة “رصاصة اطويلة الصديقة” التي تقدم ذكرها، ثم أزمة إنهاك رجال الأعمال بضرائب أرقامها فلكية ، بما فيهم السيد محمد ولد بوعماتو الذي كان هو” مهندس ” فوز ولد عبد العزيز في الانتخابات،وفي نفس الوقت هو رجل الأعمال الوحيد الذي إذا غاب تعمى لغيابه أعين الفقراء والمساكين، ثم الهرج والمرج الذي رافق مبادرة السيد الرئيس مسعود ولد بلخير، إلى فضيحة المتاجرة برواتب الجيش المزلزلة، وبين هذا وذاك تفاقم غلاء الأسعار بصفة فاحشة وطاحنة، ثم انتشار الجريمة بشكل لم يسبق له مثيل في العاصمة انواكشوط، وانتهاء بأم الفضائح المتعلقة بتسريب بعض المواقع الموريتانية لشريط مسجل يزعم أصحابه أن الشخص الذي يتكلم فيه هو رئيس الدولة عزيز، يعطي فيه التعليمات لمايسترو العملية العراقي علاوي بالكيفية التي يجب أن يتعامل بها مع عصابة صناديق العملة الصعبة الجاثمة في بنوك العاصمة الغانية” أكرا” وأخيرا وليس آخرا إثارة غبار الأرز الفاسد من جديد في سماء العاصمة انواكشوط بغية (إحداث أزمة ربو) حادة في صدر يحي ولد أحمد الواقف رئيس حزب عادل،إلا أن المعارضة رغم ضخامة حزمة تلك الأزمات وما تحتويه من مواد قابلة للانفجار في أي وقت لم تستطع أن تأتي ببراعة استهلال سياسية تجعل الرئيس عزيز ودهاقنة حزبه الحاكم يذعنون لطلب الرحيل أو على الأقل يقبلون زحزحة بوصلة سياستهم عدة سانتي مترات نحو الجهة التي تريدها، حتى يتمكنا من إيجاد أرضية مشتركة بينهما لإنقاذ البلاد من تبعات سلسلة الأزمات الحالية التي تكاد تجر البلاد إلى مالاتحمد عقباه لاقدر الله.