“لقد باتت الدولة أصغر من أن تحل المشكلات الكبيرة، وأكبر من أن تحل المشكلات الصغيرة”
دانيال بيل
يدور الآن نقاش لا يكاد يهدأ في أماكن عديدة من العالم حول دور الدولة ومكانتها وحول إعادة رسم الحدود بين الحيزين العام والخاص داخلها، والواقع أن أغلب النقد الموجه للدولة في هذه الأيام هو من باب انكماشها وتراجعها وضعف حضورها في العديد من المجالات، وتنازلها عن مهامها ووظائفها التقليدية لصالح الشركات الكبرى والمنظمات الأهلية والفاعلين الخصوصيين، ويصاحب هذا النقد عادة نوع من الحنين إلى الماضي الجميل، إلى زمن الدولة القوية الفاعلة الراعية لمصالح مواطنيها والحاضرة في مختلف الميادين والحقول، فجأة أصبح الناس يخافون علي الدولة التي كانوا يخافون منها.
بالنسبة لنا في موريتانيا لا يتعلق موضوع النقاش بضعف الدولة أو تَـغـَـوٌلِهَا، ولا بطغيان الخاص على العام أو العام على الخاص، بل بأمور أخرى، فلدى نٌخبنا الوطنية انشغالاتها واهتماماتها الخاصة، منها من مارس فضيلة الصمت زمناً طويلاً حتى نسى نفسه ونسيه الناس، ومنها من يصل بالنقاش إلى مستويات خطيرة ومتطرفة جداً، من المؤسف أن يكون أصحاب الأصوات المرتفعة هم أولئك الذين يعبرون صراحة عن رفضهم لهذا الكيان المسمى مجازاً بالدولة الموريتانية، إنه لا يعنيهم ولا يمثل إرادتهم ولا يرون لأنفسهم مستقبلاً ضمنه، يريدون شيئاً مختلفاً تماماً ويلحُون على فتح النقاش حول شكل الكيان الجديد وفي انتظار ذلك لا ضير من إيقاف مشروع الدولة وتصفيته أو إلغائه وصرف النظر عنه، أما الأكثر اعتدالاً من نخبنا فهم الذين مازالوا يطرحون فكرة إعادة بناء الدولة علي أسسٍ حديثةٍ (طبعاً بعد هدمها وتفكيكها)، ولو أن الدولة مجرد جهازٍ أو آلةٍ لكفانا أن نمتلك مفك براغي والقليل من المثابرة لنتمكن بسرعة من تفكيكها إلى مجموعة من قطع الغيار المتناثرة وبالسرعة نفسها يمكننا إعادة تركيبها وتشغيلها إذا لزم الأمر، لكنها ليست آلة، إنها أشبه بالبناء، بالمنزل الذي نستظل بسقفه ونحتمي بجدرانه، بالبيت الذي يؤوينا نسكنه ونعيش فيه ولا نمتلك سواه.
غالباً ما تكون الفئات الشابة من المجتمع هي الأكثر حساسيةً واستقطاباً للأزمات، وتأثراً بالمناقشات العامة، وبالفعل بدأت تتفشى بين شبابنا حالة مرضية من الكفر بالدولة والتشكيك في جدوائيتها والطعن في مشروعيتها، البعض يدفعه إلي ذلك شعور عميق باليأس وانسداد الأفق وغياب الأمل في غدٍ أفضل، والبعض تدفعه معارضة النظام القائم والرغبة في إسقاطه والتخلص منه إلى معارضة الدولة نفسِهَا وكأنه يتمثل قول الشاعر العربي :
إذا لم يكن للمرء في دولة أمرئٍ ***** نصيبُ ولاحظُ تمنى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير انهٍ ***** يرجّي سواها فهو يرجو انتقالها
هذا وقت عصيب بالنسبة لأنصار الدولة والمؤمنين بفكرتها، كيف لا ؟ وهم يرون قوافل التائبين من الدولة العائدين إلى أحضان قبائلهم منهم المحمل بالغنائم ومنهم خالي الوفاض الذي اكتفى من الغنيمة بالإياب، وعلى الطرف الآخر من الطريق يرون الإثنيات والعصبيات الدينية تحشد مقاتليها وتستعد لغزو الدولة ودَكِ حصونها وتقويضِ دعائمها ونهبِ ما تبقى من خيراتها ومواردها.
كيف لا ؟ وهم يرون أمام أعينهم مجتمعاً ينفرط عقده ويتحلل إلى إثنياتٍ وقبائل متصارعة، في وقت يواجه فيه كل مشكلات التخلف المعروفة، من جهل وفقر ومرض وتطرف، ومن محسوبية وارتجالية وفساد وسوء إدارة، فيما تتصدى لحل هذه المشكلات المعقدة طبقة من السياسيين غير الأكفاء المنخرطين في حرب أهلية سياسية.
كاتب هذه السطور لا يمتلك القناعة ولا الرغبة في الدفاع عن إرث من الفشلِ والتخبطِ وغيابِ الرؤيةِ والاستشرافْ، وهدرِ الفرصِ والطاقاتِ والإمكاناتِ، لكنه على عكس العدميين والسوداويين يرفض التخلي عن مشروع الدولة، ويميز الفرق الكبير بين النقد العلمي البناء الذي يمارسه الشخص بشجاعة في لحظة مصارحة مع النفس، وبين جلد الذات والانهزامية واجترار المعاناة ونشر ثقافة اليأس والإحباط لدى الآخرين، وهو يكره الدولة السلبية التي تكتفي بتسيير الأزمات، ويفضل الدولة الإيجابية المبادرة والفاعلة، لكنه أيضاً يدرك أن دولة الحد الأدنى تظل أفضل كثيراً من اللادولة، أي من الفوضى والحرب الأهلية.
إن للسوء درجاتٍ، هذا ما نحاول شرحه في هذه السطور، ومن أجل ذلك يقدم لنا التاريخ فائدة عظيمة، فخلال القرن الماضي فقط مَـرَ مجتمعنا بثلاث مراحل مختلفة، في الأولى كانت الفوضى والسيبة والحروب العبثية التي لم تتوقف إلا مع قدوم المستعمر وسيطرته على عموم البلاد، وفي الثانية ذاق الشعب مرارة الظلم والاضطهاد لستة عقودٍ كاملةٍ هي عمر الاستعمار الفرنسي لبلادنا، وفي الأخيرة بزغ فجرٌ الدولة الوطنية الحديثة التي مازلنا نعيش في كنفها حتى اليوم، وباستطاعتنا الآن أن نٌـقَـيـِمَ بتجردٍ وموضوعيةٍ تلك الحقب والمراحل المختلفة، وأن ندعي بكل ثقة أن الاستقلال وقيام الدولة الوطنية كان أهم وأجمل ما حدث في تاريخنا، وأن حياتنا خلال الخمسين سنة الماضية كانت أرحم من حياة السلب والنهب والقتل والمتاجرة بالبشر التي عاشها أجدادنا قبل مجيء المحتل، وهي بكل تأكيد أفضل من حياة الذلِ والقهرِ تحت نير الاستعمار الأجنبي.
يمكننا أن نكون متشائمين وغاضبين، إنما يجب أن نبقى منصفين وموضوعيين في أحكامنا، يمكننا أيضا بل من واجبنا أن نتمرد ونثور ونرفض وننتقد واقعنا البائس – فهذه ليست موريتانيا التي نريدها أو نحلم بها أو نرضاها لأنفسنا أو لأبنائنا – إنما علينا الاعتراف أن هذا الوطن – على علاته وعيوبه الكثيرة – هو من علمنا، وعالجنا، وأمننا من الجوع والخوف، ومنحنا الهوية الوطنية الجامعة، هذا الكيان المغضوب عليه – المسمي موريتانيا – هو الذي بني المدارس والمستشفيات، وشق الطرق، وحفر الآبار، فتضاعف متوسط أعمار سكانه، وارتفعت نسبة المتعلمين منهم، وانخفضت نسب الفقر والأمية، وتوقف البدو الرحل عن التناحر، واستقروا في المدن والقرى، وتحسنت ظروف معيشتهم، كل ذلك تحقق خلال خمسة عقود فقط، فماذا حققت القبيلة خلال خمسة قرون ؟
مع الأسف تعلمنا دروس التاريخ أن الدولة حالة طارئة، وأن بقائها ليس أمراً حتمياً ولا مؤكداً ولا مفروغاً منه، وقد شهد الكثيرون منا خلال حياتهم ميلاد دولٍ وفناء أخرى، وهو ما يدعونا حقاً إلى القلق على مستقبل دولتنا المنهكة، لقد وصلنا أخيراً إلى مفترق الطرق، وصار لزاما علينا أن نقرر فإما التقدم إلى الأمام وإما التقهقر والنكوص والتراجع إلى الخلف، إننا في وضعٍ لا نحسد عليه.
هذه إذن لحظة حاسمة ومفصلية، نحن فيها بأمس الحاجة إلى التعرف على أنفسنا، وإعادة اكتشاف نقاط قوتنا ومواطن ضعفنا وأسباب تخلفنا وانحطاطنا، وإلى استحضار أمجاد أمتنا وبطولاتها، ومخاطبة عوامل وحدتها ومصادر منعتها وحصانتها، حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، وحتى لا نرمي الطفل مع الغسيل الوسخ كما يقول الفرنسيون.
نواكشوط بتاريخ:28/05/2013