في زماننا الماضي كان العالم يجد صعوبة في الكثير من الأشياء، لعدم تواجد ما يساعدنا فيها كالتواصل بين أفراد المجتمع (الأهل، الأقارب، الأصدقاء..)، وإيصال الرسائل أو المعلومات المستعجلة الهامة من منطقة إلى أخرى (للعمل، للفتوى..) كانت هذه الأمور تتطلب وقتاً طويلا على عكس حاضرنا اليوم، فبعد النهضة التكنولوجية الحديثة أصبح كل ذلك مختلفاً، فمن الرسائل الخطية والبحث عمن ينقلونها على الخيل أو الإبل إلى تقنيات الاتصال الحديثة التي توصل الرسائل في رمشة عين بالصوت والصورة وغير ذلك.
فالحياة هي مسار طويل للوصول إلى ما نَهُمُّ به، ولذلك يتوجبُ على كل منا أن تعلُوّ همته لطلب العلم ونشر الخير لتعم الفائدة، والهمة في قاموس اللغة هي «ما هُمَّ به من أمر ليُفعل»، وأصحاب العلم النافع يصنع لهم علمهم دائما مكانة عالية. والإنسان كلما ارتفعت مكانته اتسعت رؤيته ولا يمكن لذلك أن يحدث إلا بعلو الهمة، فالهمة هي طريق مبسوط إلى القمة، يقول في ذالك شاعرُ بني عامر:
إذا لــم يكن للفتـى هـمـة .. تبوئه في العلا مصعدا
ونفس يعودها المكرمات .. والـمرء يـلزم مـا عُـوِّدا
ولم تَعْـدُ هـمـتـه نـفـسـه .. فليس ينال بها السـؤدُدا
تطور عالمنا اليوم بشكل إيجابي نوعاً ما، نتيجة لعلو الهمة واستثمار الثروة العلمية والتكنولوجيا لصنع وسائل الاتصال الحديثة وغيرها من التسهيلات للمجتمع، ومن أجمل ما قدم لنا من خلالها هو تقريب المسافات ما بين الأفراد وتسهيل صلة الرحم رغم بُعد المسافات، فقد حول هذا التقدم العالم الكبير الواسع إلى «قرية صغيرة» كما يقال. وقدمت لنا التطور و كثيرا من التسهيلات، لكن رغم كل تلك الحداثة و خاصة «مواقع التواصل الاجتماعي»، فإنها لم تستطع أن تخلو من السلبيات الضارة بالمجتمعات عامةً وبالمسلمين خاصة.
فالحداثة لعبت دورا كبيرا في التأثير على العالم، وإن بطريقة سلبية وتسببت في ظهور أكثر من مشكلة في مختلف مجالات الحياة وأخطرها على المؤمن هو هدر الوقت، وذلك بإستهلاك الطاقة في عمل ليست له فائدة وبالجلوس طيلة اليوم أمام شاشة الهاتف أو الكمبيوتر أو غيرهم من الأجهزة الإلكترونية.. رغم أننا نعلم جميعا أن الوقت ثروة، ويعد من الأشياء الثمينة والمهمة في حياة كل إنسان.
فالإنسان عبارة عن بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بعض منه فكل ثانية يقضيها تضيع من عمره، ولا يمكن استرجاعها لذلك دائما يجب علينا استغلال كل ثانية بعمل ما هو مفيد حتى لا نندم فيما بعد «حين لا ينفع الندم».. فمواقع التواصل الإجتماعي قليلها مفيد و كثيرها تافه، لأن الناس أصبحوا في عصرنا يضيعون وقتهم في أشياء ساذجة، ويسخرون من بعضهم البعض، فلا يجوز أن نجعل من أعراض الناس وأقدارهم محل مزحة وتندر، فالله سبحانه وتعالى يقول : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ، وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».
لا ننسى أيضا أن حب إضحاك الناس لا يجب أن يدفعنا لإتخاذ الكذب وسيلة، وقد حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم، فيكذب، ويل له ! ويل له !». كما في الترمذي.
والناس في استخدام التكنولوجيا الحديثة مذاهب، فمنهم من أثرت على سلوكه وأنماط تعامله، بالهيمنة على الفكر ومحاولة انتحال هوية لا تتماثل مع هوية الأمة وشخصيتها وانتمائها الثقافي، مما سبب له عزلة اجتماعية وانفصاما، مردهما التفرغ المخل والتفاعل غير المحدود مع وسائل الإتصال، وإهمال التواصل العادي بين الأفراد، إذ الإنسان في النهاية كائن اجتماعي، كما يقرر ابن خلدون.
يتركز ديننا (الإسلام) على الأمر الوسط، قال تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»، لذا لم يُطلق للشهوات والغرائز العنان، لتسبح أين شاءت وكيف شاءت، دون ضوابط توقفها، وروادع تردعها، من دين أو خلق أو عرف، كما هو شأن المذاهب الإباحية غير المؤمنة بالدين ولا بالفضيلة.
وفي النهاية يتوجب علينا أن نستغل الوسطية المميزة ونستقر على الوسط في جميع مجالات الحياة العقدية والفقهية والفكرية والسلوكية والسياسية والإعلامية، وفي العلاقة بغير المسلمين.
وخلاصة الأمر أن الإنسان يبقى الصانع الوحيد لحضارته عندما يحسن توظيف ملكاته في التعامل مع سائر الأمور، والواقع أن مراد الله من خلقه ومقاصده في ذلك، هو العبادة والعمارة، قال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، وقال: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ»، كما في البخاري.
لذلك يلزمنا كأمة مسلمة أن نعي خطورة وسائل التواصل الإجتماعي الحديثة، وأن لا نستخدمها إلا لغرض نرى فيه طريقا للرشاد، أو تغييرا لواقع غير مستقيم.
فوسائل التواصل الإجتماعي الحديثة نعمة، إن هي استخدمت في ما يرضي الله وما ينفع الناس، ونقمة على من أساء استخدامها، وأفرط دون ضوابط في الإدمان عليها، جاعلا منها وسيلة لمجرد ملء الفراغ والتنابز.
ولنقتدي بالسلف موصلين رسائل الفضيلة والنبل لمحيطنا، وللعالم أجمع، كما كانت تصل أصلا، فاتحة أبواب الخير وملهمة للإنسانية، بوضع النقاط على الحروف في استقصاء المفيد، ومواكبة الجديد الوافر، بحكمة وسعة وتوازن.