وشحت السفارة الفرنسية في العاصمة الموريتانية نواكشوط، نيابة عن الرئيس الفرنسي؛ وزير الخارجية الموريتاني السابق إسماعيل ولد الشيخ أحمد.
وألقى ولد الشيخ أحمد كلمة بمناسبة الحدث؛ وهذا نصها:
اسمحوا لي أولاً أن أرحب بحضور عدد من الشخصيات الرفيعة المستوى الذين شرفوني بمشاركتهم في هذه المراسم: أولاً، أصحاب المعالي، رئيسا الوزراء سيد محمد ولد بوبكر والشيخ العافية ولد محمد خونا، أصدقائي قبل كل شيء، الذين لا يحضرون هذا النوع من المناسبات إلا نادرا. إنني ممنون جداً لحضورهما.
كما يشرفني وجود أخي وصديقي محمد لمين ولد الذهبي، محافظ البنك المركزي، الذي رغم انشغالاته الكثيرة، أصر على التواجد معنا هذا المساء.
حضور العديد من زملائي الوزراء والسفراء والقناصل، والمنتخبين، ومدراء عامين، الخ، يسعدني حقاً، وكان بودي ذكر أسماءهم جميعاً، لكن القائمة ستكون طويلة للغاية. هؤلاء هم أصدقاء وبعضهم زملاء دراسة، حضروا ليشاركوني في هذا الحدث الاستثنائي، وأعرف أنهم يشعرون مثلي أنهم معنيون بهذا التكريم.
أعبر عن امتناني العميق لحضور الشخصيات البارزة من الأمم المتحدة والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني. إن اهتمامكم وتعبيركم عن الصداقة تجاه شخصي المتواضع، يسرني جدا.
عائلتي (وسأعود للحديث عنها) ممثلة هنا بشكل جميل، وأنا فخور بذلك. لقد كانت دائماً مصدر إلهام ودعم لي، كل فرد منها على طريقته الخاصة.
عند استلامي اليوم وسام الشرف من يد سعادة السفير الفرنسي، تتجلى أمامي صور متعددة من مسيرتي وعلاقتي العميقة والعاطفية مع هذه الثقافة الفرنسية الجميلة :
أولاً، جميع اللحظات الاستثنائية التي قضيناها كأطفال، أنا وعدد من الأصدقاء هنا، في المركز الثقافي الفرنسي، سواء في المكتبة الغنية في تلك الفترة أو جالسين على الرمال نشاهد أفلاماً قديمة ولكنها غنية بالمعلومات. أحد هذه الأفلام الوثائقية القصيرة، عن تاريخ راول فولرو وتفانيه في محاربة الجذام، كان له دور فيما ألهم حبي واتجاهي الى للعمل الإنساني. كتابه “ساعة الفقراء” قرأته واعدت قراءته بشغف وتابعت كذلك كامل سلسلة البرامج التي خصصت له اذاعة فرنسا الدولية.
رجوعا إلى المركز الثقافي، لقد قرأت بغبطة كبيرة كتبا عديدة، وأنا في السنة الأخيرة من الابتدائية، مثل “البؤساء” لفيكتور هيغو، ”مدام بوفاري” لجوستاف فلوبير، “الطاعون” لألبير كامي، وغيرها من الكتب، وربما لم أفهم كل شيء. لكنها تركت آثاراً لا تمحى في ذاكرتي ورغبة قوية في اكتشاف فرنسا.
عن المركز الثقافي ايضا، أود أن أذكر السيدة ماري-فرانسواز ديلاروزيير التي كانت تعرفني بالاسم (لقد حصلت على الجائزة الأولى في المركز الثقافي الفرنسي في سن الثالثة عشرة في مسابقة عن ترجمة الأمثال الموريتانية). بالنسبة لنا جميعاً، كانت أكثر من مجرد مديرة للمركز الثقافي، بل كانت تحب بعمق ما أصبح بلدها الذي ساهمت في التعريف به في فرنسا.
على عكس ما قاله صديقي بيروك، عن نفسه، في تقديم أحد كتبه الجميلة، لم يحدث أن سرقت كتباً من المركز الثقافي، اطمئنوا، سعادة السفير. كنت منضبطاً للغاية. لكن أحياناً كنت “أغش” في استعارتي للكتب، إما بتمديد فترة الإعارة أو باستخدام بطاقة صديق.
ثم تأتي الصورة الثانية التي تخطر على بالي: رحلتي الأولى بالقطار كطالب، وأنا أعبر فرنسا في عربة نوم من باريس (محطة ليون) إلى مونبلييه في جنوب فرنسا (في الليل ولكن دون أن أستطيع النوم) صحبة رفيقي وصديقي من غورغول، آن إيدي (رحمه الله – فقد توفي بعد سنوات عدة من عودتنا إلى الوطن). شاركنا لحظات استثنائية بين بدوي شاب من واد الناگه، وشاب فلاني جاء تقريباً مباشرة من منطقة كيهيدي.
كانت هذه من بين السنوات الأولى التي حصل فيها أفضل طلاب من المدارس الثانوية في الداخل على المنح الدراسية الفرنسية – وقد حصل هو على منحة مستحقة.
وكنا الليلة قبل ذلك قد قضيناها في المأوى الطلابي الدولي في باريس ، وارتعشنا من شدة البرد طوال الليل دون أن نعرف أين توجد البطانيات في سرير مرتب ترتيبا دقيق ( البطانيات مخفية تحت الملاءات والوسائد).
وعندما وصلنا إلى مونبلييه، حيث أصبحنا لا نفترق، ونسكن في السكن الجامعي المسمى اتريولى، أصبنا بزكام قوي كلانا بعد أن ركضنا بفرح في ليلة باردة من ديسمبر، مرتدين البيجامات (وهو بدون قميص) نظراً لسعادتنا باكتشاف الثلج، وهو حدث نادر في مونبلييه.
الصورة الثالثة من بلدكم الجميل، سعادة السفير، التي تخطر على بالي، هي الأحدث حيث زرت فرنسا كوزير للشؤون الخارجية: قمة باو مع رؤساء الدول، اجتماع حول التعاون الأوروبي-المتوسطي في مرسيليا، عدة اجتماعات في باريس كنت أتشارك رئاستها مع نظيري وصديقي وزير الخارجية جان-إيف لودريان، مع كل الترتيبات والبروتوكولات الفخمة.
لا أستطيع أن أخفيكم، أصدقائي.. لا بد أن أخبركم أنه في تلك اللحظات، في دفء وفخامة القصور الرسمية الفاخرة في فرنسا – وكم هي رائعة وملهمة! – أدركت مدى المسافة التي قطعتها.
أصحاب المعالي والسعادة، أصدقائي الأعزاء،
لأجعلكم تدركون حقيقة كل هذا الطريق، يجب أن أعود عدة سنوات إلى الوراء. يجب أن أذكر بفخر واعتزاز امرأة استثنائية، أمي، أم الفضل بنت سيدي ولد الصديق؛ رحمها الله.
هذه المرأة، التي تطلقت في سن مبكرة نسبياً، قررت مغادرة قريتها في بوادي المذرذرة، لتوفر لأبنائها (صبيين صغيرين) التعليم الذي لم تحظ هي به في صغرها.
لقد كانت الرحلة طويلة ومليئة بالعقبات، لكن إصرارها وثباتها كانا اقوى. بفضل رؤيتها، وانضباطها، ولكن قبل كل شيء، بفضل حبها، ها أنا اليوم أمامكم بعد أن قطعت كل هذه المسافة التي تعرفونها، والتي وصفها سعادة السفير بكلمات أكثر بلاغة ولكن بكرم كبير تجاه شخصي، أشكره على ذلك.
والدي، الشيخ أحمد ولد باباه، أمده الله بطول العمر، الذي قضيت معه كل صيف في المناطق الصحراوية الجذابة والقاسية من لبييرات (مدرسة أخرى في الحياة)، اذا والدي كان هو الاخر إنسانا استثنائيا.
كان معلماً، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ في ذلك الوقت، والله يعلم كم كان المعلمون محترمين في عصرنا.
كان والدي صارماً ولا يطلب منا الا ما يطلب من نفسه، وكان محاطاً بمعرفة واسعة بتعاليم وقيم ديننا الإسلامي، في جوهره المالكي، المتسامح والإنساني. لقد قام بتربيتنا، أنا وإخوتي وأخواتي، بقوة ولكن أيضاً بمحبة، على أهمية الإيمان الإسلامي الخالص، وحب العمل، والإيثار، وقبل كل شيء التفاني من أجل خدمة الآخرين.
كان والدي سيكون فخوراً بالتأكيد لو كان بيننا هذا المساء، ولكنه للأسف طريح الفراش منذ بعض الوقت، لكن أخي سيدي المختار، الذي هنا، يمثله بجدارة، بكل معنى الكلمة.
طوال سنواتي في اليونيسف احتفظت بروح الإيثار والتفاني للآخرين التي غرسها والدي في نفسي، وتبقى اليونسف منظمة استثنائية تحمل مهمة جذابة.
لقد كان لي الشرف الكبير والفرصة النادرة للمشاركة في السنوات الأولى من برنامج التطعيم الموسع في بلدي مع فريق ملتزم بشكل استثنائي، حيث ارتفعت نسبة التلقيح من أقل من 30% إلى ما يقرب من 90%، مما أنقذ آلاف الأرواح من الأطفال الأبرياء؛ قمنا سوياً بالقضاء على الدودة الغينية التي كانت تفتك بمناطقنا الريفية، وغير ذلك من الكثير…
خلال سنوات عملي في اليونيسف، كنت أعمل ليلاً ونهاراً دون ان ابالي بالساعات. أليس من الصحيح أن “الرجل لا ينال حريته الا بالعمل”، كما قال رفيقي راول فوليور.
نعم، بالنسبة لي كانت اليونيسف جزءاً من حياتي وعائلتي.. لقد كانت ابنتي في ذلك الوقت، وهي طفلة، والتي أصبحت اليوم شخصية بارزة، تطلق عليها اسم “يونسيف بابا”، ظناً منها أن اباها يملك اليونيسف.
ماهو أكيد، كنت أنا، والدها، أنتمي لليونسيف وأنا فخور بذلك حتى اليوم.
ثم جاءت السنوات الجميلة التي قضيتها في الأمم المتحدة، عبر أربعة قارات، كممثل – رئيس بعثة، منسق مقيم، مدير إقليمي مساعد، ورئيس بعثة إيبولا، وخاصة المهمة الاستثنائية كمبعوث خاص للامين العام للامم المتحدة إلى اليمن.
مهمة كانت استراتيجية وذات مخاطر لا شك، لكنها ممتعة في نفس الوقت، حيث حاولت إحياء السلام في بلد دمرته الحرب، اليمن الجميل والتاريخي، حيث قضيت أياماً طويلة جداً (وليالي) من العمل في قصر البيان الجميل (في الكويت) أقود مفاوضات صعبة بين الأطراف اليمنية، أسافر في رحلات مكوكية بين صنعاء والرياض وأبوظبي ومسقط. هذه المرحلة من مسيرتي، الممتعة والغنية بالتجارب، تستحق رواية سأرويها في وقتها.
يمكنني، سعادة السفير، أن أستفيض في الحديث عن جميع مراحل حياتي، لكن الوقت هنا محدود وقد قدمتم بالفعل ملخصًا جيدًا. آمل أن تتاح لي الفرصة للحديث عن كل تلك التفاصيل في مناسبات أخرى.
أود أخيرًا أن أختم بتقديم تحية التقدير والاحترام لبعض الأشخاص الذين أثروا في مسيرتي الشخصية والمهنية:
أولاً، وأسمح لنفسي أن أسميه هكذا اليوم بشكل استثنائي، صديقي – في الحقيقة، تقاطعت طرقنا في الأردن حيث جاء لإكمال ماجستير في المدرسة العليا لعلوم الحرب المرموقة في عمان، حيث كنت انا مستشارًا في المكتب الإقليمي لليونيسف للدول العربية – نعم هو صديق، وليس أي صديق، فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي كان وراء عودتي إلى بلدي وتعييني كوزير للشؤون الخارجية، ولاحقاً كمدير لديوانه في الرئاسة؛ حيث خدمت بلدي بتفانٍ وإخلاص لأكثر من خمس سنوات. أنا فخور بذلك وممتن له بعمق.
لن أتوانى أبداً في ذكر امتناني وعرفاني بالجميل لأخي الكبير سيدي محمد ولد السمان، الموجود هنا، الذي كان أول من أخذني إلى المركز الثقافي الفرنسي، وبالرغم انه كان أفضل مني في الدراسة، ضحى بدراساته ليتيح لي تكميل دراستي العليا. إنه عملاق استثنائي في اللطف والسخاء، أثر في حياتي كلها.
وأخيراً، عائلتي كلها، إخواني وأخواتي وأبنائي وأبناء إخوتي وأصدقائي من الطفولة، الموجودين هنا – منهم من جاء من فرنسا بشكل استثنائي، محدثاً لي مفاجأة لحضور هذا الحدث – أصدقائي من الطفولة، أشكرهم من كل قلبي.
كما أشكر بعمق شخصاً آخر موجوداً هنا، كنت أود أن أميزه بشكل خاص. لكن التقاليد وصرامة التربية المحظرية المتجذرة في أعماق الترارزة تمنعني من ذلك: لكنها ستعرف نفسها.
تُعتبر هذه العائلة قوة استثنائية ترافقني في كل ما أفعله، بلا شروط ودون مقابل.
أشكركم جميعاً.