قادتني الاهتمامات الناجمة عن ظروف العمل الصحفي إلى الاطلاع بشكل كبير على الحالة العامة وتفاصيل المشهد السياسي في الدول العربية خلال العقدين الأخيرين، وخصوصا عقد ما يسمّى “الربيع العربي” الذي ما تزال دول عربية تدفع ثمن تبعاته الباهظة حتى اليوم، بعد أن حوّلها إلى دول فاشلة تفتقد إلى أبسط مقومات الحياة، لاسيما من الناحية الأمنية.
اطلاعي التام على الأوضاع العربية ومتابعتي المكثفة لها أرّقاني كثيرا على بلدي موريتانيا الذي أعرف هشاشته، رغم المقومات الكثيرة التي يتمتع بها.
طوال تلك السنوات العجاف كان الوطن بالنسبة إليّ يعيش على كف عفريت كما يقال، فبلدي موريتانيا ليس كغيره، فله خصوصياته، فهو بلد متنوع الثقافات والأعراق، يعاني من إرث قضايا اجتماعية صعبة، كادت تؤثر على وحدته الوطنية، وليس سرا، مثلا، ما تعانيه البلاد من إرث إنساني ثقيل ناجم عن مخلفات العبودية، وما يشاع عن تراكمات سببت إقصاء بعض الأقليات في فترات معينة من تاريخ البلد.
ومن الواضح الجلي تأثير الفقر وضعف الإمكانيات، وهو ما أدى إلى بروز طبقات اجتماعية متباينة، فضلا عن الفساد الذي صاحب وصول الديمقراطية إلى البلد، حيث أصبحت سرقة السياسي في الحزب الحاكم للمال العام مشروعة، مقابل ما يقوم به من استثمار المال العمومي في استمالة الناخبين وشراء ذممهم، لخلق قواعد شعبية تمنحه وزنا عند القيادة السياسية، وغير ذلك من الأمور التي يضيق المجال عن ذكرها.
هذا بالإضافة طبعاً إلى طموحات تيارات الإسلام السياسي التي لا تريد الخير للبلد، وتلعب على وتر زعزعة الأمن، ثم تحدي الإرهاب الذي ما يزال ينشط على حدود البلد حتى اليوم. لذلك كان الأمن وكل ما يتسبب في زعزعته، مثل الوحدة الوطنية والأزمات السياسية والفقر هواجس كبيرة تهدد وجود البلد بشكل عام. قبل خمس سنوات من الآن، كانت البلاد تمور مورا، وكان المشهد السياسي يعيش حالة احتراب وتراشق، وكانت أصوات التذمر تسمع في كل زاوية.
في هذا السياق وصل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى سدة الحكم ليبدأ مساره في القصر بخطوات هامة لحلحلة الأزمة السياسية لدى الوهلة الأولى، وأتبَع ذلك بخطوات عملية لتنفيذ وعوده في حملته الانتخابية الأولى، في إطار مكافحة الفقر والاهتمام بالطبقات الهشة من المجتمع؛ فأنشأ المندوبية العامة للتضامن ومكافحة الإقصاء، وقطع أشواطاً كبيرة لتعميم التأمين الصحي، الذي كان حكراً على الموظفين الحكوميين، ضمن حزمة إجراءات واسعة تستهدف الطبقة المغبونة.
خلفية الرجل العسكرية؛ وتقلّبه في مناصب القيادة في قطاعات الاستعلامات العسكرية والقيادة، وإدارة كامل ملف الأمن الوطني في فترة صعبة، وقيادته أركان الجيوش الوطنية خلال عشر سنوات، كل ذلك مكنه من متابعة الإشراف من موقع الفعل على الإستراتيجية الأمنية، وجعله يسبر أغوار ومكامن الضعف لتحويلها إلى مواطن قوة.
خاض الرجل رحلة تأطير الجيش وتهيئته للتعامل بحسم مع التحديات الخارجية، ووأد الإرهاب القادم من الخارج والداخل. ولد الشيخ الغزواني أشرف خلال مأموريته على مشاريع كبرى للبنى التحتية والخدمية مثل الماء والكهرباء والصحة والتعليم، والحقيقة أنه من المؤسف أن تكون دولة في هذا القرن أولوياتها توفير الخدمات الأساسية للمواطن.
لكن ما علينا.. البلد يعاني من تراكمات من آماد طويلة. وكانت جائحة كوفيد – 19 ضيفا ثقيلا في بداية مأمورية الرجل، لكن موريتانيا أدارت ملف الجائحة بثبات وتروّ، وخرجت منها بخسائر محدودة مقارنة مع العالم الآخر.
لست في وارد تعداد إنجازات ولد الشيخ الغزواني خلال مأموريته الماضية، ولست أيضا من الذين يعتبرون أن البلد لا يعاني من بعض المشاكل، وأنا أعرف أنه ما زال أمام الرجل الكثير من العمل للانتصار على التحديات المعيشة، والتي من أهمها انتظارات الطبقة السياسية الداعمة له ومطالب القبائل، ومحاصصات الشرائح والطبقات الاجتماعية وجميعهم يتعاملون مع الرئيس بمنطق مادي خالص، فكل من دعم الرئيس يريد منه مقابل ذلك تمكينا وتعيينا وحظوة، وأولهم منتسبو الحزب الحاكم الذين يتعاملون مع الدولة بمنطق مادي بحت، هذا هو دأبهم منذ الاستقلال.
لا أحد، إلا من رحم ربك، يقيم وزناً لمنطق واجبات الدولة التقليدية على الشعب، ولا بالإيمان بمبادئ الحزب الأيديولوجية كخدمة للوطن وليس خدمة لشخص الرئيس. أحزاب السلطة في موريتانيا هي أحزاب ذات مدة صلاحية محدودة ترتبط بولاية الرئيس وتذبل بمجرد انتهائها.
ليس سرا أن الديمقراطية الموريتانية تعاني من ثغرات بنيوية منذ التأسيس، ولكنها مع الزمن تتغلب عليها، وهذا باب حديث آخر ليس هذا محله. مربط الفرس أنني قرأت بتمعن بيان الرئيس ولد الشيخ الغزواني الذي أعلن فيه ترشحه لمأمورية ثانية، وقد أثلج صدري كثيرا تأكيده أن مأموريته المقبلة ستكون للشباب ومن أجل الشباب. وأنا متيقن أن مأموريته القادمة ستكون أفضل بكثير من سابقاتها، بل ستكون نقلة نوعية في تاريخ البلد.
سبب هذا اليقين هو حرص الرجل المعهود على الوفاء بالتزاماته، ومركزية الشباب في عملية البناء والتنمية. حظيت بمقابلة الرئيس ولد الشيخ الغزواني عدة مرات، بوصفي مواطنا موريتانيا، وبحكم مشاغلي كإعلامي يشعر بالخوف على بلده، وقد شرحت أسباب هذا الخوف الذي سردته في المقدمة؛ لذلك سأسجل شهادتي في الرجل بتجرد تام .
الرئيس ولد الشيخ غزواني يمتلك خصائص إيجابية عديدة أسعدتني كثيرا عند أول لقاء به، منها أنه مستمع جيد يشعرك بأهمية ما تقول؛ ويجيبك عنه بالتفصيل وبالترتيب الذي سقته في حديثك، هذا بالإضافة إلى تمتعه بذاكرة قوية، وكونه ملماً بكل صغيرة وكبيرة.
يتميز أيضاً بمعطى آخر بالغ الأهمية وهو التواضع والأدب وسعة الثقافة، ولا غرو في ذلك، فتلك من عوامل التربية، وهو ما انعكس على سعيه لأخلقة وتطبيع المناخ السياسي، والتنظير لخطاب يتسامى على لغة التخوين الخشبية. ومن نافلة القول ذكر مهاراته في نسج العلاقات مع القادة ورؤساء الدول، وهو ما منحه سمعة جيدة في محيطه العربي والأفريقي وحتى العالمي.
نجاح ولد الشيخ الغزواني في إدارة ملف علاقات موريتانيا الخارجية تجلى واضحا في الإجماع عليه رئيسا للاتحاد الأفريقي، وهو ما سيمكنه في منتصف شهر يوليو قبل نهاية مأموريته الأولى بأسبوعين من الجلوس إلى طاولة قمة العشرين، جنبا إلى جنب مع أقوى زعماء العالم، ممثلا للاتحاد الأفريقي؛ وهي فرصة سانحة لعقد لقاءات مع قادة العالم الأكثر تأثيرا، وهو ما سيمنحه بالتأكيد دفعة قوية ستستثمر لا شك حال فوزه في الانتخابات المقبلة.
الجو السياسي الذي خلقه الرئيس ولد الشيخ الغزواني واستثمر فيه خلال مأموريته الأولى سيمنحه لا شك العبور إلى مأمورية ثانية مهما كان المنافس؛ لأن مصلحة البلد داخليا وخارجيا، والتحديات المحيطة به تستدعي منح الرئيس الكيّس المتبصر محمد ولد الشيخ الغزواني مأمورية ثانية، لينجز ما يطمح إليه من إعادة التأسيس، كما تستدعي من الطبقة السياسية مساعدة الرجل في تحقيق آمال الشعب الموريتاني الذي عانى كثيرا منذ نشأة الدولة الموريتانية.
*نقلا عن صحيفة العرب اللندنية