في البداية لم أتفاجأ مثل كثيرين بظهور سيف الإسلام القذافي شخصيًا في مقر مفوضية الانتخابات في مدينة سبها، جنوبي ليبيا.
وكنت على يقين من أنه لن يطيق صبرًا بأن يبقى بعيدًا عن الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي، وهو من ألف السلطة وبهرجتها لعقود طويلة.
لقد راودتني فكرة كتابة مقال عن سيف الإسلام، منذ حديثه لصحيفة نيويورك تايمز قبل أشهر، لكن احتراما لأشخاص أكن لهم تقديرا خاصا، صرفت النظر عن الفكرة وفي نفس الوقت أخذت التزاما على نفسي بأن أبتعد عن الشأن الليبي بشكل عام منذ سنوات.
لكن نظرا لأهمية وتطور الأحداث داخل وطني ليبيا، رأيت أنه من الواجب الأخلاقي والوطني الحديث عن هذه الخطوة الهامة والجريئة من السيد سيف الإسلام القذافي.
تعتبر ليبيا استثناء في محيطها، من ناحية تكوينها السياسي، فهي لا تحكمها تقاليد أو أعراف تابثة، مثل مصر حيث التقاليد الفرعونية المتوارثة، وتونس حيث التقاليد الدستورية البورقيبية، أو الجزائر حيث إرث حركة الجهاد وجبهة التحرير الوطني، أو المغرب حيث التقاليد العلوية العريقة في الحكم والإدارة.
فليبيا خليط متميز بين كل هذه التقاليد، ولكل منطقة جغرافية فيها خصائص تختلف عن المنطقة الأخرى.
لم تعرف ليبيا انتخابات رئاسية سابقا، وكانت مسألة انتخاب الرئيس وآلية انتخابه إحدى أهم العقبات الأساسية في مسودة الدستور المقترح من الهيئة التأسيسية.
فمن الناحية التاريخية، ومنذ مائة عام تقريبا لم تعرف ليبيا على مستوى الرئاسة إلا الملك الراحل إدريس السنوسي والعقيد القذافي.
لم يكن الملك الراحل شخصية عادية فمنذ قدومه إلى واحة الكفرة عام 1895 وعمره خمس سنوات، تلقى تعليما متميزا على يد أفضل العلماء والمشائخ، وعاصر أحداثا مهمة كبيرة، مثل تطور الحركة السنوسية من دعوة ثم طريقة ثم حركة، والحرب السنوسية الفرنسية في شمال تشاد والحرب العالمية الأولى والاحتلال الإيطالي إلى ليبيا، وتحصل على لقب أمير وعمره لم يتجاوز 25 عاما، وظل يحمله لثلاثة عقود ويتعامل معه الجميع على أنه القائد الفعلي لليبيا، إلى أن أصبح ملكا عام 1951.
ولم يكن العقيد القذافي شخصية عسكرية عادية، ولو أنه ابن زمانه، حين انتشرت الانقلابات العسكرية في أفريقيا بمعدل عشرين انقلابا كل عام، إلا أنه بشهادة من يختلف معه كان يمتلك مؤهلات سياسية وثقافية وقيادية كبيرة.
لم يعرف عن سيف الإسلام القذافي قيادته لأي عمل سياسي سابقا بشكل رسمي، إلا ترأسه لمؤسسة القذافي للجمعيات الخيرية والتنموية، وهي مؤسسة تعتمد على المبادرات والأعمال الإنسانية، ولم يكن فيها أي عمل مؤسس يمكن القياس عليه.
وفي نفس الوقت قيادته أو تبنيه أو دعمه لما كان يعرف بمشروع ليبيا الغد، لم يكن إطارا سياسيا واضحا، وهو مجرد تطوير وتحديث للنظام بعد خروجه من أزمة لوكوربي وعزلته الدولية، وبعد تسوية ملفاته مع الغرب، فلا يمكن اعتبار هذا المشروع تجربة يمكن القياس عليها.
مما لا شك فيه أنه كان هنالك مشروع توريث حقيقي للسلطة في ليبيا، وقد يكون سيف الإسلام هو الأقرب له من بين إخوته في ذلك الوقت، والأكثر حضورا ونفوذا في المشهد السياسي.
من المؤكد أن الأوضاع اختلفت كليا في ليبيا عن عام 2010، وبعد أكثر من عشرة أعوام حصلت أحداث كثيرة لها انعكاساتها على ليبيا داخليا وخارجيا.
يقول القائد الكبير الجنرال ديغول: «تحدث في السياسة وانظر إلى الخريطة».
وبالنظر إلى خريطة ليبيا حاليا والمنطقة عموما، نجد أنه منذ عام 2014 برز مشروعان يتنافسان ويتصارعان على قيادة ليبيا، مشروع في الشرق ومشروع في الغرب، ولكل منهما ارتباطاته وتحالفاته الإقليمية والدولية، ولنجاح أي مشروع سياسي في ليبيا، لابد من توفر ثلاث عوامل رئيسية، هي الجغرافيا والبيئة الحاضنة والبعد الإقليمي والدولي.
وفي هذا السياق وبالنظر إلي ظروف المنطقة والعالم من حولنا، من الصعب توقع ظهور مشروع ثالث يتجاوز المشروعان القائمان حاليا، وأمام سيف الإسلام القذافي تحديات وعقبات كبيرة جدا، أهمها التحدي القانوني الدولي، فليس من السهل عليه تجاوز هذه المطالبة في محكمة الجنايات الدولية، ورغم كل الاتصالات المباشرة وغير المباشرة من داعميه، إلا أن الأمر مازال ساريا، وهو عقبة كبرى حقيقية لم يستطع التخلص منها الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير، رغم أنه كان في السلطة وما قدمه من تنازلات في السياسة الدولية والإقليمية.
أما التحدي القانوني الداخلي فهو معقد جدا، وما يمكنه أن يواجه من عقبات قضائية من قبل شريحة واسعة من مختلف اتجاهات 17 فبراير، الذين رغم خلافاتهم البينية سيتفقون على خصومته.
أما التحدي السياسي فهو الرؤية والمشروع، فما يقوله مقربون منه لا يعدو كونه أماني وتخيلات، لا يمكن أن يطلق عليه رؤية أو مشروع إلى الآن.
وكان لافتا عدم ظهور قيادات بارزة من النظام السابق، لها مكانتها في الحياة السياسية، إلى جانبه أو تعبر عن دعمه بشكل مطلق.
في حديث مهم للمبعوت الأممي السابق غسان سلامة في طبرقة التونسية قبل أعوام، أمام نخب ليبية مهمة، قال لهم إن تحقيق حل في ليبيا لا بد له من توافر إرادتان: إرادة داخلية وإرادة خارجية ولا يمكن تحقيق حل من دونهما، لم يعجب كلامه بعض الحضور لكنه كان صادقا فيما قال.
واهم من يعتقد حاليا أن أزمة ليبيا هي مجرد أزمة داخلية، أو مجرد خلاف بين أطراف على شكل نظام الحكم أو تقاسم السلطة والثروة، فالأزمة أصبحت أزمة دولية، وحلها لن يكون بالسهولة التي يعتقد البعض، وقد تأخذ سنوات أخرى كثيرة حتى تنضج ظروف إقليمية ودولية تساعد إرادة سياسية وطنية جادة ومسؤولة على حلها.
من السهل على السيد سيف الإسلام القذافي أن يعلن ترشحه، سواء بالحضور المباشر أو عبر أي طريقة أخرى، فالإعلان عن الترشح شىء والقبول به شىء آخر، وتنفيذه شىء أخر، لكنه بهذه الخطوة سوف يدفع بنفسه إلى مكان سوف يصعب عليه إيجاد صيغة للتراجع عنه.
لقد كانت أمامه خيارات أخرى أكثر فاعلية، وأضمن له، ويمكنها أن تساعده في المستقبل، إذا رغب في لعب دور سياسي، لكنه أخذ أصعب الطرق وأكثرها مشقة.
يقول الملك الراحل الحسن الثاني إن السياسة كالفلاحة، يضرها القطف قبل الأوان، تماما كما يضرها القطف بعد الأوان.
لا شك أن لخطوة سيف الإسلام تداعيات كثيرة، وشخصيا أرى أن لها آثارا سلبية عليه مستقبلا خصوصا إذا كانت نتائجها ليست في مستوى هذه الخطوة الهامة والجريئة.
إن خطوته سوف تشكل ضغطا كبيرا على محيطه الاجتماعي، الذى للأسف عانى الكثير من الصعوبات خلال السنوات الماضية.
إن العمل السياسي هو عمل جاد ومسؤول، ولا مكان فيه للعواطف والمجاملات حتى مع أقرب الأقارب، وله أسس وأدوات وخطط وتنظيم، وليس مجرد منشورات على فيسبوك أو تغريدات تويتر، فهذه لا تصنع عملا سياسيا أو مشروعا وطنيا، وإنما حالة وهم وتخيلات سوف تنتهي مع أول لحظة حقيقة.
نسأل الله السلامة لكل أهلنا في ليبيا، وأن يحفظ كل قبائلنا من كل سوء ومكروه
ياسين عبدالقادر الزوي / باحت في الشؤون الأفريقية