لعل ذلك كان أحد أيام صيف عام 1982 أو 1983. كنت أزور صديق الطفولة موسى بن الدين في حي زمزم بأبي تلميت، واستأذنت في السلام على والده المرحوم سيدي محمد الدين. كان الدين أحد الرجال الذين تشعر بأهميتهم من خلال أحاديث الآخرين، أما هز فلم يكن يوحي لك بغير أهميتك أنت مهما صغر شأنك، كما هو حالي أوان زيارته تلك.
يومها وقفت بالباب، ولكن قبل أن أسلم وجدت الرجل يصلي وقد هوى ساجدا. قلت أنتظره حتى يفرغ ثم أسلم عليه. ولبثت برهة ونظرت فوجدته لايزال ساجدا.. برهة أخرى ثم عاودت النظر.. ثم شدني منظر الرجل الساجد.. كانت تلك أول مرة أرى فيها سجودا بذلك القدر من الجلال.. انتقل الخشوع إلى نفسي وتمنيت لو أسجد مثله.. لكنه انتبه لوجودي فيما يبدو فأكمل صلاته وسلم.
كنت قبل تلك المرة منبهرا بالرجل الذي تقلد العديد من الوزارات وساهم في إنشاء الوطن الذي كنت حينها أراه بمزيج من الأماني والأحلام، لذلك لم أفهم أن يترك المرحوم الدين جاه الحكومة وأبهة الوزارة من أجل إدارة معهد أبي تلميت الإسلامي !!
اليوم وقد رحل الرجل الفاضل إلى بارئه، أتذكر سجوده ذاك في بيته بزمزم، حيث لايظن أحدا يراه سوى خالقه، فأرجو له الخير، وإن كنا نحن الأحياء ضنينين بمن نحب، فعزاؤنا ما شهد به أهل الخير للراحل العزيز. فكأن لسان الحال ينشد مع العلامة محمد بن أبي مدين رحمه الله قوله وقد استعد الدين رحمه الله للذهاب إلى الحج:
بين الحبيب أخي السناء السيد
بين أطل على الورى بمؤيـد
روح السرور مقامه ورواحه
يدع السـرور كأنه لم يوجــد
قالوا الرحيل غدية أو قربهـا
فالحال منشدة وإن لم تنشـد
“لامرحبا بغد ولا أهلا به
إن كان توديع الأحبة في غد”
كان الدين رحمه الله حبيبا إلى العلماء لذلك ما إن عاد من الحج حتى استقبله شيخ المشائخ وأبو العلماء، محمد عالي بن عبد الودود رحمه الله، بقطعة شعرية شهد له فيها بخير كثير؛ فقال فيه رحمهما الله:
إنـا لنفــرح بالأميــــن الـديـــــن
بالواضح الوجه المنير الديـــــن
بالطاهر القلب الوجيه المرتضى
بالباسم الثغـر الأديب الصيـــِّـن
من لا يبالي جـاره في حـالــــة
ألا يقــوم بحـقـــه المـتعـيـــــن
من ليس بالراضي بذكر خامل
من ليس بالـزاهي ولا المتزيـن
من ليس ياخذ في الأمور بشبهة
لم يرض إلا بالحــلال البـيــــن
من لاتراه باســـرا في زائــــر
من ليس بالجافي ولا المتلـون
إنا نُرَجِّي أن يدوم لنـــــا كــذا
لا أن يزيد على الكمال الممكن.
رحم الله الدين وأسكنه فسيح جناته، فقد بلغ حد الكمال الممكن، وكان نموذجا من الرجال لايتكرر.