شهدت مدينة نواكشوط منذ عدة أيام موجة حر تجاوزت عتبة الأربعين درجة مئوية، مصحوبة بعواصف رملية حجبت الرؤية في الشوارع، فكثرت انقطاعات التيار الكهربائي وغابت المياه عن بعض الأحياء، إنه «الصيف» في أبهى تجلياته، وقد تعود سكان نواكشوط على التعايش معه برحلات يومية نحو شاطئ المحيط الأطلسي أو «البحر» كما درجوا على تسميته.
ولكن «الصيف» هذا العام يرافقه فيروس «كورونا» المستجد، ضيفاً ثقيلاً بعد أن عاث فساداً في أرجاء العالم، ها هو يحط الرحال في هذه الصحراء القاحلة والحارقة، مفنداً نظريات العلماء التي قالت إنه ضعيف أمام درجات الحرارة المرتفعة.. فهل هناك أكثر ارتفاعاً من درجات الحرارة في هذه البلاد، وهو يتجول هنا منذ فترة.
ولكن مقاومة «كورونا» لارتفاع درجات الحرارة، وانتشاره الواسع في البلاد، كل ذلك لم يمنع سكان نواكشوط من كسر قواعد الحجر الصحي والتوجه نحو الشواطئ بحثاً عن نسمات عليلة من الهواء النقي، بعد أن خنقت الكمامات ودرجات الحرارة الأنفاس.
المشهد على شاطىء المحيط الأطلسي، يشبه المشهد المعهود في أي يوم من أيام يونيو الحارقة، الشيء المختلف هذه المرة هو ارتداء عشرات الأشخاص للكمامات، حينئذ تتذكر أن البلد يواجه معركة مع جائحة «كورنا»، وأن شبح الفيروس يتجول بين المصطافين على الشاطئ.
مع حلول ساعات المساء، وعندما كانت وزارة الصحة تستعد لإعلان الحصيلة اليومية للوباء، كان المئات من سكان نواكشوط يلوذون بالشاطىء هربا من حر العاصمة اللافح، ضاربين عرض الحائط بالتعليمات التي تحذر من التجمعات، والنصائح التي تحث على البقاء في البيوت قدر الإمكان.
يقول محمد: «منذ اليوم الأول من موجة الحر لم أغب عن الشاطئ، ولكني في الوقت ذاته، ألتزم بالنصائح الطبية، وأرتدي الكمامات، وأتفادى الاختلاط بالناس».
محمد ونسبة قليلة من مرتادي الشاطئ حرصوا على ارتداء الكمامات والالتزام بالحد الأدنى من التعليمات، بينما فضل الأغلبية الساحقة الاستمتاع بالهواء من دون أي حواجز وشرب الشاي من نفس الكؤوس، يتبادلونها على وقع الأحاديث التي لا تخلو في بعض الأحيان من قصص العدوى بالفيروس.
تتعدد مآرب الناس في الاستجمام على الشاطىء، فمنهم من خرج للصيد، ومنهم من جاء لأخذ قسط من الراحة والتمتع بنسمات البحر، ومنهم من فضل لعب كرة القدم أو ممارسة أنواع أخرى من الرياضة، ولكنهم جميعاً أتوا هنا فراراً من مدينة يخنقها الحر ويخيم عليها شبح الوباء.
وإن كان «كورونا» قد عطل الكثير من مناحي الحياة الاقتصادية في مدينة نواكشوط، إلا أن «موجة الحر» فتحت أبواب الرزق على شواطئ المدينة، فانتعشت المنتجعات وازدهرت مهن صغيرة مثل تأجير الجمال والخيول في جولات قصيرة على الشاطئ، مقابل مبالغ زهيدة.
قبيل غروب الشمس كان ثلاثة شبان يصطادون ويسابقون الزمن، لكن صناراتهم لم تجلب لهم الحظ، قالوا إن ارتفاع الموج هو السبب؛ بعد الغروب كانوا يطوون أمتعتهم ويعودون بخفي حنين، وبصدر مليء بهواء تفتقده نواكشوط، تلك المدينة التي تنام بالقرب من شاطئ لا وجود له في تفاصيل حياتها اليومية، إنها أقرب للصحراء منها للمحيط.
حالة استنفار يشهدها الشاطئ مع الغروب، فالجميع تذكر الإجراءات التي فرضتها السلطات، وبقيت دقائق معدودة قبل حظر التجول، ليبدأ سباق نحو المدينة لا يخلو من المغامرة، بينما فضلت بعض الأسر والمراهقين البقاء على الشاطئ، والمبيت هناك هرباً من «ليالي نواكشوط الحارة» ومن حظر التجول، ومن الروتين القاتل الذي فرضه «كورونا».