لقد كان كل شيء طبيعياً في عاصمة النيجر نيامي، وكذا كل أقاليم النيجر الثمانية، كانت تعيش – كذلك – حالة اعتيادية من الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، ولا توجد أزمة سياسية سواء كانت دستورية أو غيرها، فالمعارضة موجودة وتعمل بأريحية كاملة، ولا يوجد سجين سياسي واحد في البلد، ويرفل الجميع تحت مظلة الدستور والقانون ضمن دولة مؤسسات مدنية.
كما اتسم الوضع الاقتصادي بالتحسن المستمر، والفرح يعم أرجاء البلاد، والتفاؤل على أشده بقرب الانتهاء من أنبوب نقل النفط الخام إلى شواطئ الأطلسي، ومن المقرر أن يتم تصديره عن طريق دولة بنين المجاورة، ليزداد إنتاج النفط مما قد ينعكس إيجابًا على الأوضاع المعيشية للسكان.
أما الوضع الأمني فقد شهد مؤخرا تحسنا ملحوظا، وحقق الجيش النيجري وكافة القوى المساندة له، نجاحاتٍ كبيرةً على الإرهاب ومجاميعه المسلحة التي تنشط في عدة مناطق، وتم رفع حالة الطوارئ عن معظم أقاليم النيجر ما يشي بدحر الإرهاب بشكل كبير!
ومنذ بعض الوقت لوحظ أن النيجر تعج بالوفود الاقتصادية والسياسية والأمنية من أوروبا وأمريكا وأسيا.. حيث يتم تقديم صورة النيجر على أساس أنها نموذج يحتذى به في التداول السلمي المدني على السلطة.
وأمام هذه اللوحة “الجميلة” تكبر جملة من التساؤلات منها:
لماذا حدث الانقلاب؟ ولمصلحة من؟ ومن يقف خلفه؟
إنها تساؤلات عديدة تدور على كل لسان، فالجميع يود أن يعرف ماذا حصل في النيجر منذ أيام؟
ويقف الجميع حائرا حول الأسباب الحقيقية لهذا الانقلاب، أو المحاولة الانقلابية، أو التمرد ، حسب زاوية الرؤية لكل واحد منا.
لقد بدت الساعات الأولى من يوم الأربعاء الماضي، وكأن الأمر مجرد خلاف “عادي” داخل مؤسسة الحرس الرئاسي، التي يكثر اللغط حول ما يجري فيها منذ أشهر! وتركز هذا اللغة حول تغييرات قادمة لتطويرها وتحديثها وتحسين أداءها المترهل حسب البعض، خصوصا أنها لم تغير آليات عملها منذ أيام الرئيس السابق محمدُّ يوسفو.
وسرعان ما بدأ الجميع يشعر أن الأمر تجاوز أن يكون مشكلة صغيرة، ليتحول فيما يبدو إلى أزمة جديّة مع نهاية اليوم الأول، حين أعلنت مجموعة صغيرة من القيادات العسكرية من مختلف الأسلاك، عزل الرئيس المدني المنتخب وإنشاء مجلس وطني للإنقاذ.
ومع اليوم الثاني أخذ تطور الأوضاع منحى متسارعا، حين أعلنت قيادات عسكرية إضافية في بيانات مختلفة مساندتها وانضمامها للمجلس الوطني للإنقاذ، وفي نفس الوقت ارتفعت الأصوات إقليميا ودوليا تندد وتشجب الانقلاب، ودعت مجموعة “إيكواس” المنظمة الإقليمية الأهم في غرب افريقيا، والتي تضم النيجر في عضويتها، دعت إلى عقد قمة طارئة في أبوجا بنيجيريا يوم الأحد 30 يوليو الماضي.
وللإجابة عن التساؤل المحوري حول أسباب الانقلاب؟ خصوصا في ظل الأوضاع الإيجابية التي استهل بها المقال، فمن المناسب التذكير بالأزمة الصامتة منذ مدة في أروقة الحزب الحاكم (PNDS TARYA) حول اتجاهين رئيسين:
اتجاه يدعو إلى مأسسة الحزب الذي يقترب من عقده الرابع، وهذا اتجاه يقوده الرئيس محمد بوعزوم، ومعه قيادات حزبية مهمة وفاعلة.
وذلك في مقابل اتجاه آخر يقوده الرئيس السابق محمد يوسفو، الذي يرى في نفسه الأب والمؤسس للحزب، وله الصلاحيات المطلقة، وهو من يحق له أن يقرر مستقبل الحزب.
وهناك لغط كبير في النيجر حول دور الرئيس السابق و ابنه الذي يتقلد منصب وزير الطاقة والمناجم في الحكومة المطاح بها، وذلك في ظل الحديث المتزايد عن توريث سياسي قادم يلعب فيه بوعزوم دور الممهد و المُسهّل!
ويعتبر تباين وجهات النظر والخلافات مسألة طبيعية، ومن صميم سمات الديمقراطية التقليدية بشكل عام، إلا أن هناك آليات لمعالجة هذه الخلافات، خصوصا من تربطهم علاقة صداقة وأخوة وزمالة لقرابة ثلاثة عقود ونيف!
ومما لا شك فيه أن المصالح تلعب دورها الحاسم في مثل هذه الحالات، ولذلك كان ملفتا للنظر غياب الرئيس السابق عن التعليق عن الأحداث الجارية في النيجر، في الأيام الأولى وهو المعروف عنه تدخله في كل كبيرة وصغيرة، خصوصا أنه يعد الأب الروحي للجنرال تشياني الذي قام بحجز الرئيس بوعزوم، وزعيم الانقلاب.
وفي مثل هذه الأحداث والمواقف الصعبة، فإن مسألة عدم الوضوح والتردد تدفع لتحول الشكوك والظنون والتخمينات إلى حقائق صادمة!
ولمن يصب في مصلحته الانقلاب؟
لا شك أن مصير هذا الانقلاب غامض، وقد جاء في ظروف وسياقات داخلية وخارجية تجعل من الصعب تقبله والتعاطي معه، فلا يمكن أن تحصل النيجر على ظروف سياسية واقتصادية وفرص استثمار أفضل مما حصلت عليه الآن.
وسوف يعود هذا الانقلاب في حال نجاحه بالحياة السياسية وتراكماتها في النيجر، إلى الصفر، ويعيد تعقيد المشهد السياسي والأمني إلى لحظة مزعجة، قد تم تجاوزها منذ زمن بعيد.
من يقف وراء الانقلاب؟
تدور تخمينات وفرضيات كثيرة، بعضها يتحدث عن أيادي خارجية لها علاقة بهذا الانقلاب، خصوصاً أنه منذ أشهر خرجت إشاعات كثيرة في وسائل التواصل الاجتماعي عن انقلاب في النيجر، ما أرغم الرئيس بوعزوم على الظهور في حديث مطول مع مجلة (جان أفريك) نفى خلاله هذه الإشاعات، ووجه اتهامات مباشرة لجماعة (فاغنر) في مالي بأن لها محاولات حقيقية لزعزعة استقرار النيجر.
يقدم الرئيس بوعزوم نفسه منذ مدة على إنه شريك قوي للمنظومة الغربية، وتحديدًا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ما يفسر الترحاب الكبير الذي لقيه في باريس وواشنطن، كما أن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنطوني بلينكن خصه بزيارة مطولة في مارس الماضي بنيامي، مع وفد مهم لتأكيد دعمه، وشراكة الغرب معه.
وبناء على كل ذلك فإن النيجر اليوم تعد حاضنة أكبر وأهم وجود عسكري غربي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا عموما.
ولكن منذ بداية الأزمة الأوكرانية – الروسية، يحتدم على أرض القارة الإفريقية صراع نفوذ وتقليم أظافر من نوع آخر بين القوى الغربية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.
ولا شك أن النيجر بما تمثله من موقع حيوي، وموارد ضخمة في باطن الأرض، هي ساحة مفضلة للصراع، مع توفر بيئة حاضنة له في المحيط الإقليمي.
ليس من السهل على المنظومة الغربية (الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي) تقبل صفعة مثل هذه؛ أن تدفع دولة مستقرة سياسيا وأمنيا إلى غياهب الجب، ومستقبل سياسي غامض، وتعطي جميع القادة الأفارقة رسالة سلبية عن عدم الجدوى من التعاون مع الغرب، الذي لن يقدم لك شيئا وأنت في أمس الحاجة إليه، حتى ولو كنت رئيسًا منتخبًا ديمقراطيا مثل الرئيس بوعزوم.
وأيضًا هيبة الغرب ومكانته سوف تكون على المحك، في مطالبته بنظم ديمقراطية ومؤسسات دستورية.
من الواضح أيضًا أن الاتجاه العام في تجمع الإيكواس، سيكون تصعيديا، ولن يكتفي بالمقاطعة فقط وعدم الاعتراف، خاصة مع وجود رئيس جديد لدولة نيجيريا الجار الأهم للنيجر، والعملاق الاقتصادي الكبير حيث الرئيس بولا تينوبو الذي يحمل من خصائص الرئيس السابق أوباسانجو الكثير من الحزم والشدة، والرئيس السنغالي ماكي سال الذي يطمح لدور إفريقي قيادي تظهره الأزمات والمواقف الصعبة، وكذلك الرئيس العاجي الحسن عبد الرحمن واتارا.
يفقد انقلاب النيجر أية حاضنة شعبية له حتى الآن، وحجم المظاهرات المؤيدة كان ضعيفًا، ومسألة تماسك القوات المسلحة النيجرية ومواجهتها للضغوطات الخارجية المختلفة هي مسألة صعبة للغاية وغير مضمونة.
لن يجد قادة الانقلاب في النيجر من يتجرأ ويقدم لهم الدعم الداخلي والخارجي، وسيجدون أنفسهم في موقف صعب، وكل يوم سيمر عليهم سوف يكون أثقل من سابقه.
النقطة الوحيدة القوية لقادة الانقلاب هي حجز حرية الرئيس، وخوف الجميع على سلامته، وهو ما يدفع للحذر الشديد في تنفيذ أي عمل عسكري لتحريره، وإلقاء القبض على قادة التمرد.
وتجدر الإشارة إلى أن القارة السمراء (خاصة منطقة الإيكواس)، حدثت فيها العديد من الحالات المشابهة، وعادت الشرعية الدستورية لوضعها الطبيعي. ومن المستغرب جدًا موقف البعض ممن يجزمون بأن الأمور قد حسمت في النيجر، بينما في حقيقة الأمر أنه لا يزال الوقت مبكرا لقول ذلك.
فالرئيس محمد بوعزوم شخصية صلبة وقوية وشجاعة، وتمتلك قدرًا كبيرًا من الإيمان والثقة بالنفس، ولو لم يكن كذلك لما تجرأ على خوض الانتخابات الرئاسية السابقة، وهزيمة الرئيس السابق ماهامان عثمان، ابن زيندر الذي ينحدر من عرقية الهوسا.
وليس من الحكمة الحديث عن نجاح الانقلاب من عدمه، غير أن هذا الأسبوع الجاري سيكون حاسما في تحديد اتجاه الأحداث في النيجر.. والأسابيع القادمة ستكون حبلي بالمزيد من التطورات!
ـــــ
ياسين عبدالقادر الزوي
باحث في الشؤون الإفريقية