هزتني قصيدة الشيخ حمزة يوسف، لما فيها من صدق العاطفة الإيمانية، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتجاسرْتُ على ترجمتها إلى اللغة العربية وإرسال الترجمة إليه. ولا أزال أذكر هذه الأبيات من صدر القصيدة المترجَمة:
أحسدُ الرمل على ما لثــَمَــــتْ شفــتـــــاهُ من نـــثار القــَـــدمِ
والعناكــــيبَ على ما شيَّـــــدتْ من بيوتٍ في أعـالي القممِ
أحسد المزن على ما ظلَّلـتْ حبذا الـظـــلُّ بتلك الــدِّيَــــــــمِ
أنت يا مختارُ يا خير الورى رحــمة الله لكـــــل الأمــــــــــــم
أنت ملءُ القلب مني لم تدعْ قسمةً في القلب للمقتسم
وفي إحدى زياراتي لمدينة (سانتا كلارا) التي يقطن فيها الشيخ حمزة دعاني الشيخ الكريم دعوة كريمة في بيته، وأهداني ترجمته البديعة لقصيدة (البردة) إلى اللغة الانكليزية. ولفتَ نظري في تقديم الشيخ حمزة للكتاب قولُه إن كل ما سمعه من موسيقى الشرق والغرب لم يهزَّ وجدانَه كما هزَّه ترنُّم المرابط الحاج بأبيات البردة في السَّحَر. فامتلأ قلبي رهبة وعجباً من انتقال بذرة من محبة هذا النبي الكريم عبر المحيط، لتُزهر وتُثمر على مروج كاليفورنيا، وتتحول شعراً بديعا تصوغه عبقرية رجل أميركي وُلد ونشأ مسيحيا قبل أن يهديه الله للإسلام. فكم في هذا من آيات بينات على كرامة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومكانته العظيمة عند ربه.
وفي المقابل تذكرتُ كيف “صعِد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّفا ذاتَ يومٍ، فقال: (يا صَباحاه). فاجتمَعَتْ إليه قريشٌ، قالوا: ما لَك؟ قال: (أرأيتُم لو أخبَرتُكم أنَّ العدُوَّ يُصَبِّحُكم أو يُمَسِّيكم، أما كنتُم تُصَدِّقونَني). قالوا: بلى، قال: (فإني نذيرٌ لكم بينَ يدَي عذابٍ شديدٍ). فقال أبو لَهَبٍ: تَبًّا لك ألهذا جمَعْتَنا؟ فأنزَل اللهُ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب” (صحيح البخاري).
فكم من ملايين المسلمين رددوا (تبَّتْ يدا أبي لهب وتبَّ) طيلة أربعة عشر قرنا، تبكيتا من الله تعالى لذلك الفاجر الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا: “تبا لك ألهذا جمعتنا”؟!. فلم يكن أبو لهب يدرك أن تلك الكلمة العابرة المسيئة لنبي الله صلى الله عليه وسلم ستتحول لعنة أبدية عليه يرددها الملايين، ويتعبدون بها قرآنا يتلى إلى يوم الدين. وفي ذلك ما فيه من كرامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن كبْتٍ ومهانة لمن يعاديه أو يؤذيه. ويكفي في ذلك قول الله عز وجل:” إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا” (سورة الأحزاب، الآيتان 57-58). وليس من ريب أن من يطعن في رسول الله صلى الله عليه قد آذى الله ورسوله والمؤمنين.
إن محبة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم منحة من الله تعالى وتفضٌّلٌ محض، فمن أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا، ومن حُرمها فقد خسر خسرانا مبينا. وقد ينالها شاب من كاليفورنيا متحدِّر من أسرة مسيحية غير متدينة، ويُحرَمَها شاب من موريتانيا تربى في كنف أسرة مسلمة عميقة التدين. وهي منحة صُرفتْ عنها قلوب الجبارين والمستكبرين حتى الذين ربطتهم بالنبي الكريم أوثقُ عرى الأنساب، ونالتها قلوبٌ طيبة ونفوس فطرية لم تكن تربطها به أية رابطة أرضية. وما أبلغ ما وصف به الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي وقْع هذه الرحمة المهداة، وتفاوُتَ القلوب في تقبُّلها. قال ابن الجوزي: “هبَّت عواصفُ الأقدار، فخبَّ بحرُ التكليف، وتقلبتْ بيداءُ الوجود بساكني الأكوان، فانقلعتْ أطنابُ الأنساب، ووقعتْ خِيَمُ المتكبرين، فانقلب قصْرُ قيصر، وتبدَّد شمل أبي طالب، ووهَى عمل أبي جهل، وانكسر جيش كسرى… فلما طلع الفجر، وركد البحر، إذا أبو طالب غريقٌ في لُجَّة اليمِّ وسلمانُ على ساحل السلام، والوليدُ بن المغيرة يقْدُم قومَه في التيه وصهيبٌ قد قدم من قافلة الروم، وأبو جهل في رقْدة المخلّفة وبلالٌ ينادي: الصلاة خير من النوم” (ابن الجوزي: كتاب اللطائف).
تذكرتُ خواطر ابن الجوزي هذه وأنا أتابع من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم الجدل الدائر في موريتانيا حول المقال الرديء الذي كتبه أحد الشباب الأغرار، فتطاول فيه على مقام النبوة، وأبان عن جهل مركب للسيرة النبوية العطرة، وانجذابٍ بليدٍ إلى دعايات قومٍ أظلمتْ قلوبُهم وبصائرهم. ومن الجليِّ أن الغرَّ البليد الذي اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحيز العرقي والقبَلي يجهل تلك الملحمة العظيمة التي قادها ذلك النبي العظيم، فسقط فيها جبابرة الروم والفرس والعرب من غلاظ الأكباد المتكبرين: هرقل وأنوشروان وأبو جهل وأبو طالب والمغيرة.. وفاز فيها المستضعفون من ذوي السرائر النقية والنفوس الفطرية: سلمان وبلال وصهيب.
على أن ما أفزعني أكثرَ هو انتشار هذه الظاهرة في بلدان إسلامية عدة. إذ أذكر اتصالا من شباب في المدينة المنورة منذ عامين تقريبا، طلبوا خلاله لقاء معي لنقاش بعض الأمور الفكرية، فتواعدتُ معهم المسجد النبوي الشريف، ولما أدينا الصلاة معا، ذهبنا إلى مقهى وبدأنا الحديث. فكانت المفاجأة أن صارحني بعض أولئك الشباب -الذين صلوا معي للتو بالمسجد النبوي- بأنهم ملحدون قد فقدوا الثقة في دينهم، ووجدتُ من خلال الحوار أنهم ضحايا شبُهاتٍ فكرية التقطوها دون سابق معرفة عميقة بالإسلام. كما لقيتُ شبابا في دول عربية أخرى يحملون نفس الأفكار الإلحادية رغم أنهم يعملون في مواقع قيادية بمؤسسات إسلامية!! لكنهم يتسترون على إلحادهم خضوعا لسلطان المجتمع. وحدثني الثقة عن امرأة شابة تقود مؤسسة إسلامية ضخمة صارحتْه بأنها لم تعد تؤمن بالإسلام دينا، فهي في حيرة من أمرها بسبب المفارقة الغريبة التي تعيشها: قيادية إسلامية ملحدة!!
ولقد وجدتُ من خلال احتكاكي بهذا النمط من الشباب في دول إسلامية عديدة أن إلحادهم واستهزاءهم بالدين ليس صادرا عن نية كيدية، ولا عداء متعمد للإسلام والمسلمين، وإنما هي ورطة حقيقية وقعوا فيها بسبب ضعف الحصانة الفكرية، وبؤس النظم التعليمية التي تعلموا الإسلام من خلالها، والجدب الأخلاقي والروحي الذي يطبع جل المجتمعات الإسلامية اليوم، والمظالم الاجتماعية التي تُجترَح باسم الإسلام فتزلزل القلوب الرخوة، وبريق الحضارة الغربية المتفلتة من ربقة الدين. وجل أولئك الشباب يبحثون عن اليقين والدين القويم، ويدركون الورطة التي هم فيها.
وبعد تفكير طويل في هذه الحالات التي واجهتني في أكثر من بلد وجدتُ أن الدواء الكافي والبلسم الشافي هو المنهاج النبوي في التعامل مع المرتدين والطاعنين في مقام النبوة، وهو منهاج يعتمد الإقناع لا الإكراه، ويتوخَّى الحكمة وينظر إلى المآلات. لكنه منهاج يكاد يتلاشى من حياة المسلمين اليوم بسبب طغيان ثقافة الإكراه في مجتمعاتنا على حساب ثقافة الإقناع، وفرْط ثقتنا في الشروح والحواشي الفقهية التي نبتتْ على ضفاف الوحي عبر التاريخ، فأصبحت حجبا بين الناس وبين الوحي.
إن الله تعالى –وهو الخبير بعباده- أخبرنا أن “لا إكراه في الدين” (سورة البقرة، الآية 256) وهي آية وردت بأعمِّ صيغ العموم في اللغة العربية، صيغة النكرة في سياق النفي والنهي. ففي الآية نهيٌ صريح عن الإكراه في الدين، وفيها إخبارٌ صحيح أن الإكراه لا يثمر دينا حقيقيا مقبولا عند الله تعالى وإنما يورث نفاقا ملتبسا بلبوس الدين، أما التدين الحق الخالص لله تعالى فهو التدين المنقوع في الحرية دون سلطة من الدولة أو سطوة من المجتمع: “فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص” (سورة الزمر، الآية 3).
وقد وجدتُ أبلغ مثال على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المرتدين والطاعنين في مقام النبوة حادثتان رواهما جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أولاهما “أنَّ أعرابيًّا بايَع رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الإسلامِ، فأصاب الأعرابيَّ وعكٌ بالمدينةِ، فجاء الأعرابيُّ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ، أقِلْني بيْعَتي، فأبى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم جاءه فقال: أقِلْني بيعَتي، فأبى، ثم جاءه فقال :أقِلْني بيعَتي، فأبى، فخرَج الأعرابيُّ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنما المدينةُ كالكيرِ، تَنفي خبَثَها، وتنصَعُ طيبَها” (صحيح البخاري). فهذا الحديث نص صريح في حالة ارتداد رجل عن الإسلام بعد أن بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم بأي عقوبة كانت، فهل يدَّعي مدع أنه أحرصُ على دين الله وأقومُ على حدود الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومع ذلك وجد من الفقهاء من تنصل من دلالة هذا الحديث الصحيح الصريح في بابه، وتأوَّله تأويلات غريبة ادعوا فيها أن الأعرابي بايع على الهجرة لا على الإسلام، رغم نص الحديث صراحة أن بيعته التي استقال منها كانت “على الإسلامِ”.
أما مثال الطعن في مقام النبوة فهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “أتى رجلٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالجِعْرانَةِ مُنصرفَه من حُنَين، وفي ثوبِ بلالٍ فضةٌ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقبضُ منها يُعطى الناسَ، فقال: يا محمدُ اعدِلْ! قال: ويلَك! ومن يعدِلُ إذا لم أكن أعدلُ؟ لقد خبت وخسِرت إن لم أكن أعدِل .فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعْني يا رسول الله فأقتلْ هذا المنافقَ. فقال: معاذَ الله أن يتحدَّثَ الناسُ أني أقتلُ أصحابي. إنَّ هذا وأصحابَه يقرأون القُرآنَ لا يُجاوزُ حناجِرَهم يَمرُقونَ منه كما يمرُقُ السَّهمُ منَ الرَّمِيَّةِ “ (صحيح مسلم).
فهذا الحديث دليل صريح على أن عقوبة التطاول على مقام النبوة ليست حداًّ من حدود الله، وإنما هي مظهر من مظاهر السياسة الشرعية التي تخضع للظروف والملابسات وتحقيق المصالح الشرعية واعتبار المآلات. ولو كانت حداًّ من حدود الله لما تردد النبي صلى الله عليه وسلم في إنفاذها على هذا الأعرابي الجهول الذي طعن في مقام النبوة على رؤوس الأشهاد.
وفي ضوء الآية الكريمة والحديثين الشريفين أقترح على السلطة السياسية والقضائية في موريتانيا التعامل مع هذا الشاب المتطاول على مقام النبوة بمنطق السياسة الشرعية لا بمنطق الحدود، وأن تعامله معاملة المريض العليل القلب، المحروم من محبة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فتحجزه في السجن أو في بيت أهله، وتزوده بكتب في السيرة النبوية العطرة، ثم تُوكِل إلى عالمٍ ثقة أمرَ الحوار معه وتعليمه قبسا من مشكاة النبوة كل يوم. فإن أراد الله به خيرا فسوف يرعوي ويتوب، وإلا فالله غني عنه ولا خير للمسلمين فيه. وأسوأ رسالة يوجهها المسلمون اليوم إلى العالم اليوم –من منظور السياسة الشرعية- هي قتل المرتد أو المتطاول على مقام النبوة، لما في ذلك من الإيحاء بأن الناس متمسكون بالإسلام خوفا من قطع رقابهم، لا اقتناعا بأنه دين الحق. فالحرص على صورة الإسلام النقية هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يتسامح مع المنافقين والمرجفين والطاعنين، وهي غاية شرعية لا تزال وستظل قائمة.
أما المتحمسون الداعون إلى قطع الرقاب فإني أقدِّر حماستهم الإسلامية ومشاعرهم الإيمانية، وحُقَّ لهم ولنا الغضب لله ولرسوله. لكني أذكِّرهم بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أكثر حماسا منا ومنهم، وكان أشدَّ على المبطلين والمستهزئين، وقد قال: “دعْني يا رسول الله فأقتلْ هذا المنافقَ”. لكن الحكمة النبوية الحريصة على كسْب الألباب لا على قطْع الرقاب هي التي سادت في نهاية المطاف.. وهي التي يجب أن تسود دائما وإلى الأبد. فلا بديل عن كتاب الله وحكمة النبوة ميزانا لمن يحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم” (سورة آل عمران، الآية 31).