ما يزال الجدل يدور في الساحة منذ إصابة رئيس الجمهورية برصاصة عن طريق الخطأ، نقل إثرها للعلاج في العاصمة الفرنسية باريس، وهي مناسبة ارتأيت أن أكشف من خلالها للرأي العام عن ما دار بيني مع الرجل في ثلاث مقابلات، أثيرت خلالها ملفات وقضايا مثيرة، كانت آخرها تحمل إحساسا لدى الرجل بأن هناك ما يدعو للقلق إلى درجة أنه كان يدرك استهدافه شخصيا، دون أن يحدد متى وكيف ومن هي الجهة المسؤولة، وكان واثقا من جنرالاته وقياداته العسكرية ومن قبضته الأمنية في المدن وعلى الحدود.
فقد قام الرجل بتغييرات طفيفة على مستوى الجيش والدرك والشرطة والجمارك والإدارة الإقليمية، ولم تكن على مستوى القيادات، تحرزا ربما من عناصر غير قيادية نظرا لطبيعة انتماءات الطيف السياسي المختلفة.
وهنا أبدأ في سرد ما دار بيني مع رئيس الجمهورية في المقابلات الثلاث:
فقد قابلت السيد رئيس الجمهورية المرة الأولى حاملا مبادرة التصالح التي كشفت لوسائل الإعلام بتفاصيلها، وهي المقابلة التي حمدت الله بعدها على سلامتي، نظرا لما لمسته من حدة في نبرة السيد الرئيس وجفاء في الأجوبة، وعدم بشاشة وصرامة المواقف ونبش الماضي. وصرحت آنذاك بأن مبادرتي فشلت وأن مبادرة السيد مسعود ولد بلخير رئيس الجمعية الوطنية ستكون أفشل. ذلك أنني لاحظت خلال لقائي بالرئيس وتفاعله مع الألفاظ، قناعته الراسخة والمطلقة المجسدة لرفضه الصريح لمشاركة المعارضة في أية حكومة ورفضه البات لحوار جديد وإصراره على وسيلة وحيدة لتقاسم السلطة هي الإنتخابات بناء على نتائج صناديق الإقتراع، صارحت الرأي العام حينها بفشلي -على الأقل– في هذه الخطوة وأكدت للجميع بأن ولد عبد العزيز لا يحاور ولا يناور.
سخر البعض من المبادرة وشكك البعض الآخر في النوايا وكان من ضمن حديث الرئيس كدليل على الرفض ما يلي:
دخلت في الصباح الباكر على ابنك عمك -ويعني معاوية ولد الطايع- حاملا بيميني حقيبة سوداء تحمل تظلمات من حرمه طالت جنودي وطالتني شخصيا ولم أستطع صبرها. لما دخلت عليه في هذا المكتب صرخ في وجهي بعبارات نابية لا تليق بمقامي، وأصبح الظلم ظلمان، فقررت من تلك اللحظة وفي داخلي أن أزيحه عن هذا الكرسي.
فكيف يتسنى لعاقل إذن أن أخاطر بحياتي وأعاني ما عانيته من نظام اعل ولد محمد فال وكذلك نظام سيدي ولد الشيخ عبد الله، وأهيئ المناخ لانتخابات شفافة ونزيهة وأفوز بأصوات أغلبية الشعب الموريتاني لأسلم السلطة هكذا لرجال من بينهم من سجل اسمه وأسماء عائلته في سجل السكان ومازال يشكك في مصداقية التقييد وعلنا.
لن أرضخ للظلم ولا للإبتزاز“.
هكذا لمست من الرجل، أنه لن يشرك المعارضة الناطحة، وخاصة بنهجها وأسلوبها الحالي.
قابلت السيد الرئيس للمرة الثانية وباستدعاء منه، فوجدت أمامي في قاعة الانتظار سيدي ولد الداهي وولد محمد الراظي ووجيه آخر لا أعرفه، دامت المقابلة ذلك اليوم ما يربو على ساعة. وكان السؤال الأول الذي وجهه لي، هو الاستفسار عن وضعية آدرار: أحوال ساكنته الصحية والمعيشية، طريق أطار-تجكجة والأمطار، وبعد سردي لوضعية الولاية، انتقل من مقعده الخلفي إلى المقاعد الأمامية، وقال لي: “ولد احمين اعمر، هل رأيت في حياتك عمدة يصف رئيس جمهورية من العالم الثالث بالحمار.
قلت له لم أفهم يا سيادة الرئيس، رد قائلا: “ألم تقل في إحدى مقالاتك أنني أصفط وأكرش”، وانفجر ضاحكا وقال: “شاهدت لقطة في التلفزة الوطنية تظهر رؤساء أحزاب المعارضة أمام الجماهير في مسيرة لهم، يوهمون الناس بتشابك أيديهم كرمز للتضامن، وهم في الحقيقة يخافون السقوط لضعفهم”…..وواصل الضحك.
تجاوز السيد الرئيس السؤال دون أن أجيب عليه، فقد كان منفتحا وليس مرتاحا، ثم قال: “هل تدري يا ولد احمين اعمر أنني أكن تقديرا واحتراما خاصين لأحمد ولد سيدي بابه وأحمد ولد داداه وبا ممادو آلاسان وكذلك لمحمد ولد مولود؟
نعم احترمهم، لكن للأسف هؤلاء لم يفهموا أن الثورات تخلق نفسها ولا تخلق، وأن الدولة تحتاج إلى تجديد الطبقة السياسية إلى الشباب ودمائه الجديدة”. ثم وجه إلي السؤال: متى ولدت السيد العمدة؟، قلت له: “ولدت سنة 1961″، قام عن المقعد وتنقل إلى القاعة حتى شبع ضحكا إلى أن سالت دموعه، وعاد ليقول: “ظننتك من مواليد الأربعينيات” -وحمدا لله “اهل الحجر ما ينفكع“-.
واصل الرئيس قائلا: “إن الغريب والعجيب في أمر هؤلاء القوم كما قلت لك سابقا أن بعضهم سجل نفسه وأسرته وأمر ذويه وأتباعه بالتسجيل في السجل السكاني ويواصل إلى حد الآن الطعن في الحالة المدنية، والطعن في شرعية البرلمان والبلديات لانتهاء مأموريتها، ويرفضون في نفس الوقت، المشاركة في الانتخابات والاعتراف بأي شيء.
أنت ساندتني في الانتخابات وكنت في أطار، وتعرف أنهم شاركوا كلهم واعترفوا بالنتائج سوى من لم يحصل على شيء يذكر، حيث قال بان بطاقات التصويت احتوت على باء يهرول أو يقفز أو يطير، ما الحل إذا؟.
أنت تعرف السيد العمدة أن رجال الاعمال بأموالهم وصيتهم هزموا في أطار والشهادة لله أكان هناك تزوير. وأنتهز هذه الفرصة لأشرح لك خلفيات ملف رجال الاعمال الذين كنت تدافع عنهم.
لقد استباح رجال الأعمال والموظفين وغيرهم اموال الشعب الموريتاني من عهد ولد داداه إلى نهاية عهد ولد الطايع، أفسدوا الإدارة والمواطن في آن واحد بالرشوة والإبتزاز والتسلط بالمال، في حين لم يسجل التاريخ لأحدهم بناء مدرسة ولا مستوصف ولا سد ولا حتى إسعاف مريض. وهنا أعمم لا اعني رجال قبيلة “اسماسيد” فقط، بل كل الطبقة التي نهبت خيرات البلد، من وزراء وأمناء عامين ومدراء ومتنفذين في حزب الشعب والحزب الجمهوري وغيرهم.
لقد كان ملف البنك المركزي على طاولة ولد الطايع أيام الانقلاب، ويحتوي على تقارير تفيد بإلزامية إعادة المبالغ إلى خزينة الدولة… كان هذا الملف وأمثاله يندرجون في صميم اهتمامات تعهدي بمكافحة الفساد والمفسدين، وهو التزام أخذته على نفسي للشعب الموريتاني، وقد تم إدراج ذلك الملف في مقدمة الملفات، ليدرك غيرهم من أمثالهم أنه إذا ضرب الإمام خاف المؤذن، ولم يكن القصد إطلاقا الإساءة إلى قبيلة بذاتها ولا لرموزها، فهؤلاء جزء مني وأنا جزء منهم.
إنما جرى بيني مع محمد ولد بوعماتو وهو أخي وصديقي وابن عمي يندرج في نفس السياق، وهنا أصارحك -وأنا لست غبيا- أن من يريد الأصوات بالطرق الملتوية لا يمكنه معاداة رجال المال والأعمال.
لقد أقدمت على إزالة الكزرات ومنح القطع الأرضية لساكنيها، على أساس مخطط عمراني يتماشى مع ما يليق بعاصمتنا. وأنا أدرك تماما أن من هشم الصفيح وأخرج المواطنين، ليتركهم في العراء مقابل قطعة أرضية تكلف من العناء الشيء الكثير، لم يفعل ذلك للحصول على أصواتهم في أول استحقاقات، لكن مصلحة البلد تقتضي ذلك، والهدف ليس الربح أو الخسارة السياسية في الوقت الحالي، وإنما مصلحة الشعب على المدى الطويل. ولا يفوتني أن من بين الناس، بل أكثريتهم يفضلون قطعة خبز تخصهم وحدهم عن مدرسة أو مستوصف للجميع“.
في هذه الأثناء رن الهاتف وتنقل لأخذه وقال لمتحدث: “لا تتعب نفسك إنها ثلاث مائة أخرجوها من حيث دخلت”، وقطع المكالمة، ثم اخذ هاتفا آخر فرن الهاتف مرة ثانية فقال للمتحدث: “قلت لك أنها ثلاث مائة وقفت عليها بنفسي، والموضوع لا يقبل النقاش”، وأخذ الهاتف وقال لشخص آخر: “ابعث بالمفتشين للوقوف على حقيقة ما حدثتك عنه“.
ثم استأنف الحديث وقال لي: “لقد أوقفت المعارضة أنشطتها والتأمت لتوقع ميثاق شرف، ألا ترى أن المؤامرة مخلة بالشرف”. قلت له: “لم أفهم ما تقصدون السيد الرئيس”، قال لي: “لم يعودوا يفكرون في الثورة، ولا حتى في النضال السلمي، بل تجاوزوا تلك المرحلة وهم بصدد وسائل أخرى للحصول على السلطة.
حسب فهمك ماذا تريد المعارضة بالضبط”، قلت له: “أنه ما دام الأمر هكذا لا أعرف”، قال: “هل تعرف أن جشع البيظان من أكبر معوقات التنمية والإستقرار، أنظر إلى أسلوب مسعود وبيجل في التعاطي مع الشأن العام، هؤلاء حريصين كل الحرص بغض النظر عن من يحكم أو سيحكم على أمن واستقرار البلد، وأنت تعرف أن هناك اختلالات كبرى سببها، التباين الكبير في الثروة والمستوى العلمي والتشغيل ومستوى المعيشة“.
وقال لي أنه يفكر في خلق طبقة من رجال الاعمال من “الحراطين”، وكذلك إنشاء مصرف أو هيئة مالية يديرها أطر من طبقتهم، كما ينوي مضاعفة المدارس والمستوصفات ومرافق أخرى في آدوابه. ذكرته بقضية بيرام ولد الداه ولد اعبيدي، وقد ادرجت ملفه سابقا في مبادرتي التي تقدمت بها أصلا.
كان ولد عبد العزيز معجبا ببيرام ولد اعبيدي وحركة “إيرا”، ويعتبر أنها حركة انعتاقية لها ما يبررها، إلا أنه قال أن جل مشاكل هؤلاء تكمن في التحرر من الجوع والفقر والمرض وحين يزول ذلك الداء لن يعود للتبعية مبرر. ثم تعهد لي بالنظر في الملف، وأفرج عن بيرام ورفاقه لاحقا، وكان حينها قد حملني رسالة شفهية إلى بيرام مفادها أن المقدسات ومشاعر المسلمين خط احمر.
لقد أدركت من خلال هذه المقابلة الثانية، أن السيد الرئيس يتابع ما أصدره من بيانات وتصريحات حول الشأن العام، ففعلا سبق أن أصدرت بيانا أيام إزاحة أخي الجنرال محمد ولد الهادي من إدارة الأمن وما شاع من تفتيش لسفارتنا في بلجيكا والسفير ابن خالتي محمد محمود ولد ابراهيم اخليل، وكذلك إلغاء اتفاقيات المحامين مع مؤسسات الدولة، ومن ضمن المستفيدين حينها ابن عمي الاستاذ محمد يحيى ولد عبد القهار شيخ مقاطعة أوجفت. كتبت في هذا الصدد أن الجنرال أو السفير سارا أمام الرئيس فــ”كرشهما”، ونائب وشيخ المقاطعة صارا خلفه فصفطهما، على أساس شعار يكرره الساسة الموريتانيين على الدوام وهو: نحن أمامكم ووراءكم يا سيادة الرئيس”. وأضفت في هذا البيان أن نظارات السيد الرئيس قد تهشمت لما أزاح ولد الهادي عن الامن.
قابلته بعد ذلك للمرة الثالثة، وكان موعدي على تمام الساعة الثامنة صباحا ودخلت القاعة الثامنة إلا ربعا، فوجدت أمامي الوزير الأول الدكتور مولاي ولد محمد لقظف، والوزير سيدي ولد التاه، والجنرال أحمد ولد بكرن المدير العام للأمن الوطني، ووزير آخر اعتقد أنه وزير المالية، ثم دخل العلامة محمد المخطار ولد امباله.
كان السيد الرئيس ذلك اليوم مرتاحا وبشوشا، وأول ما سألني عنه ما ذكر من حمى وادي المتصدع أو الحمى النزيفية، فحدثته عن وضعية ولاية آدرار ومقاطعة أوجفت بصفة خاصة، وأمر الوزير الأول بإرسال سيارة إسعاف للمقاطعة وفرق طبية لعلاج الناس ومراقبة الأوضاع، وكذلك فرق من مكافحة الجراد للقضاء على الباعوض.
كما أمر بتجهيز المراكز الصحية، وطلب مني البقاء على اتصال مع الوزير الأول، وفعلا أرسلت سيارة إسعاف توجد حاليا في أوجفت، واتخذت كافة التدابير لمكافحة الملاريا، كما شدد على العناية بالأماكن التي تضررت قبل السنة الماضية في بلدية المداح وانتيركنت، وأرسلت على الفور الفرق المذكورة.
ثم سألني بعد ذلك عن صحة رجال الأعمال وخص بالذكر أحمد ولد سيدي أحمد ولد الطايع الأخ الشقيق لمعاوية، وأثنى عليه قائلا إنه: “شخصية وطنية مثالية لا يكذب ولا يخدع. لقد عارضني منذ اليوم الأول ومازال على موقفه دون تطرف ولا ذم ولا أذى“.
ثم قال: “هل علمت أن أصدقاءك وقعوا ميثاقين”. قلت: “منهم أصدقائي؟”، رد قائلا: “قيادات المعارضة”. ولم يذكر حزبا باسمه ولا شخصية بعينها، قلت له: “ليس لي علم بذلك، منذ أن تقدمت بمبادرتي لم أحضر لإجتماع ولا لندوة، وحتى أنني لم أزر مقر حزبي”. فقال: “لعلمك، لقد تم توقيع ميثاق شرف للإستهلاك الإعلامي، وهناك ميثاق آخر تقاسموا من خلاله السلطة، وكلهم يعرف الآن حصته من الحكومة الخيالية، والدليل أنهم لن ولم ينزلوا للشارع. والصمت الذي نلاحظه إنما هو استنتاج لما قد حصل“.
وما قد حصل بمفهوم السيد الرئيس، أن هناك قرار مسبق تم اتخاذه لإختزال الطريق، ولا داعي بعده لأي نشاط سياسي.
إن محمد لد عبد العزيز رجل شجاع وجريء، قاس في ظاهره بسيط في باطنه لا يؤمن بضرورة الحارس ما دامت تقيد الحرية في الحركة. لذا رأيناه أكثر من مرة يخرج في أحياء الصفيح، وسط مئات المساكن المتشابكة وأفواج الجماهير دون حراسة ولا تمشيط للمنطقة قبل القدوم، رأيناه كذلك يتحاشى السير على السجاد الأحمر، ليترك الرسميين والحراس ويغوص في بحر من البشر بعاصمة تغص بالأجانب وغيرهم، إنه ببساطة لا يؤمن إلا بالقدر وإذا قدر الله أمرا هيأ له الأسباب.
إن حادثة “اطويله” كما أعتقد وكما أكد الرئيس صحيحة لكن الحلقة المفقودة تكمن في هاجس السيد الرئيس الأمني، وقد تخيل نظرا للشبهة في السيارة الصغيرة ولوحتها الاجنبية وركابها المدنيون أنها محاولة اغتيال تجسد عمليا ما كان يصبو إليه من يفترض أنهم أعداء، وكان ذلك سببا في محاولته الإفلات لتفادي الخطر، ليقع ما وقع. ومن هذا المنطلق فعلينا جميعا أن نسأل الله تبارك وتعالى بالشفاء العاجل للسيد الرئيس وعودته سالما، وحينها سيتضح للرأي العام السبيل الأمثل للخروج بالبلد إلى بر الأمان، دون اللجوء في الوقت الحالي إلى الحديث عن عجز الرئيس أو نبش النصوص لأي غرض كان.
فقد قام الرجل بتغييرات طفيفة على مستوى الجيش والدرك والشرطة والجمارك والإدارة الإقليمية، ولم تكن على مستوى القيادات، تحرزا ربما من عناصر غير قيادية نظرا لطبيعة انتماءات الطيف السياسي المختلفة.
وهنا أبدأ في سرد ما دار بيني مع رئيس الجمهورية في المقابلات الثلاث:
فقد قابلت السيد رئيس الجمهورية المرة الأولى حاملا مبادرة التصالح التي كشفت لوسائل الإعلام بتفاصيلها، وهي المقابلة التي حمدت الله بعدها على سلامتي، نظرا لما لمسته من حدة في نبرة السيد الرئيس وجفاء في الأجوبة، وعدم بشاشة وصرامة المواقف ونبش الماضي. وصرحت آنذاك بأن مبادرتي فشلت وأن مبادرة السيد مسعود ولد بلخير رئيس الجمعية الوطنية ستكون أفشل. ذلك أنني لاحظت خلال لقائي بالرئيس وتفاعله مع الألفاظ، قناعته الراسخة والمطلقة المجسدة لرفضه الصريح لمشاركة المعارضة في أية حكومة ورفضه البات لحوار جديد وإصراره على وسيلة وحيدة لتقاسم السلطة هي الإنتخابات بناء على نتائج صناديق الإقتراع، صارحت الرأي العام حينها بفشلي -على الأقل– في هذه الخطوة وأكدت للجميع بأن ولد عبد العزيز لا يحاور ولا يناور.
سخر البعض من المبادرة وشكك البعض الآخر في النوايا وكان من ضمن حديث الرئيس كدليل على الرفض ما يلي:
دخلت في الصباح الباكر على ابنك عمك -ويعني معاوية ولد الطايع- حاملا بيميني حقيبة سوداء تحمل تظلمات من حرمه طالت جنودي وطالتني شخصيا ولم أستطع صبرها. لما دخلت عليه في هذا المكتب صرخ في وجهي بعبارات نابية لا تليق بمقامي، وأصبح الظلم ظلمان، فقررت من تلك اللحظة وفي داخلي أن أزيحه عن هذا الكرسي.
فكيف يتسنى لعاقل إذن أن أخاطر بحياتي وأعاني ما عانيته من نظام اعل ولد محمد فال وكذلك نظام سيدي ولد الشيخ عبد الله، وأهيئ المناخ لانتخابات شفافة ونزيهة وأفوز بأصوات أغلبية الشعب الموريتاني لأسلم السلطة هكذا لرجال من بينهم من سجل اسمه وأسماء عائلته في سجل السكان ومازال يشكك في مصداقية التقييد وعلنا.
لن أرضخ للظلم ولا للإبتزاز“.
هكذا لمست من الرجل، أنه لن يشرك المعارضة الناطحة، وخاصة بنهجها وأسلوبها الحالي.
قابلت السيد الرئيس للمرة الثانية وباستدعاء منه، فوجدت أمامي في قاعة الانتظار سيدي ولد الداهي وولد محمد الراظي ووجيه آخر لا أعرفه، دامت المقابلة ذلك اليوم ما يربو على ساعة. وكان السؤال الأول الذي وجهه لي، هو الاستفسار عن وضعية آدرار: أحوال ساكنته الصحية والمعيشية، طريق أطار-تجكجة والأمطار، وبعد سردي لوضعية الولاية، انتقل من مقعده الخلفي إلى المقاعد الأمامية، وقال لي: “ولد احمين اعمر، هل رأيت في حياتك عمدة يصف رئيس جمهورية من العالم الثالث بالحمار.
قلت له لم أفهم يا سيادة الرئيس، رد قائلا: “ألم تقل في إحدى مقالاتك أنني أصفط وأكرش”، وانفجر ضاحكا وقال: “شاهدت لقطة في التلفزة الوطنية تظهر رؤساء أحزاب المعارضة أمام الجماهير في مسيرة لهم، يوهمون الناس بتشابك أيديهم كرمز للتضامن، وهم في الحقيقة يخافون السقوط لضعفهم”…..وواصل الضحك.
تجاوز السيد الرئيس السؤال دون أن أجيب عليه، فقد كان منفتحا وليس مرتاحا، ثم قال: “هل تدري يا ولد احمين اعمر أنني أكن تقديرا واحتراما خاصين لأحمد ولد سيدي بابه وأحمد ولد داداه وبا ممادو آلاسان وكذلك لمحمد ولد مولود؟
نعم احترمهم، لكن للأسف هؤلاء لم يفهموا أن الثورات تخلق نفسها ولا تخلق، وأن الدولة تحتاج إلى تجديد الطبقة السياسية إلى الشباب ودمائه الجديدة”. ثم وجه إلي السؤال: متى ولدت السيد العمدة؟، قلت له: “ولدت سنة 1961″، قام عن المقعد وتنقل إلى القاعة حتى شبع ضحكا إلى أن سالت دموعه، وعاد ليقول: “ظننتك من مواليد الأربعينيات” -وحمدا لله “اهل الحجر ما ينفكع“-.
واصل الرئيس قائلا: “إن الغريب والعجيب في أمر هؤلاء القوم كما قلت لك سابقا أن بعضهم سجل نفسه وأسرته وأمر ذويه وأتباعه بالتسجيل في السجل السكاني ويواصل إلى حد الآن الطعن في الحالة المدنية، والطعن في شرعية البرلمان والبلديات لانتهاء مأموريتها، ويرفضون في نفس الوقت، المشاركة في الانتخابات والاعتراف بأي شيء.
أنت ساندتني في الانتخابات وكنت في أطار، وتعرف أنهم شاركوا كلهم واعترفوا بالنتائج سوى من لم يحصل على شيء يذكر، حيث قال بان بطاقات التصويت احتوت على باء يهرول أو يقفز أو يطير، ما الحل إذا؟.
أنت تعرف السيد العمدة أن رجال الاعمال بأموالهم وصيتهم هزموا في أطار والشهادة لله أكان هناك تزوير. وأنتهز هذه الفرصة لأشرح لك خلفيات ملف رجال الاعمال الذين كنت تدافع عنهم.
لقد استباح رجال الأعمال والموظفين وغيرهم اموال الشعب الموريتاني من عهد ولد داداه إلى نهاية عهد ولد الطايع، أفسدوا الإدارة والمواطن في آن واحد بالرشوة والإبتزاز والتسلط بالمال، في حين لم يسجل التاريخ لأحدهم بناء مدرسة ولا مستوصف ولا سد ولا حتى إسعاف مريض. وهنا أعمم لا اعني رجال قبيلة “اسماسيد” فقط، بل كل الطبقة التي نهبت خيرات البلد، من وزراء وأمناء عامين ومدراء ومتنفذين في حزب الشعب والحزب الجمهوري وغيرهم.
لقد كان ملف البنك المركزي على طاولة ولد الطايع أيام الانقلاب، ويحتوي على تقارير تفيد بإلزامية إعادة المبالغ إلى خزينة الدولة… كان هذا الملف وأمثاله يندرجون في صميم اهتمامات تعهدي بمكافحة الفساد والمفسدين، وهو التزام أخذته على نفسي للشعب الموريتاني، وقد تم إدراج ذلك الملف في مقدمة الملفات، ليدرك غيرهم من أمثالهم أنه إذا ضرب الإمام خاف المؤذن، ولم يكن القصد إطلاقا الإساءة إلى قبيلة بذاتها ولا لرموزها، فهؤلاء جزء مني وأنا جزء منهم.
إنما جرى بيني مع محمد ولد بوعماتو وهو أخي وصديقي وابن عمي يندرج في نفس السياق، وهنا أصارحك -وأنا لست غبيا- أن من يريد الأصوات بالطرق الملتوية لا يمكنه معاداة رجال المال والأعمال.
لقد أقدمت على إزالة الكزرات ومنح القطع الأرضية لساكنيها، على أساس مخطط عمراني يتماشى مع ما يليق بعاصمتنا. وأنا أدرك تماما أن من هشم الصفيح وأخرج المواطنين، ليتركهم في العراء مقابل قطعة أرضية تكلف من العناء الشيء الكثير، لم يفعل ذلك للحصول على أصواتهم في أول استحقاقات، لكن مصلحة البلد تقتضي ذلك، والهدف ليس الربح أو الخسارة السياسية في الوقت الحالي، وإنما مصلحة الشعب على المدى الطويل. ولا يفوتني أن من بين الناس، بل أكثريتهم يفضلون قطعة خبز تخصهم وحدهم عن مدرسة أو مستوصف للجميع“.
في هذه الأثناء رن الهاتف وتنقل لأخذه وقال لمتحدث: “لا تتعب نفسك إنها ثلاث مائة أخرجوها من حيث دخلت”، وقطع المكالمة، ثم اخذ هاتفا آخر فرن الهاتف مرة ثانية فقال للمتحدث: “قلت لك أنها ثلاث مائة وقفت عليها بنفسي، والموضوع لا يقبل النقاش”، وأخذ الهاتف وقال لشخص آخر: “ابعث بالمفتشين للوقوف على حقيقة ما حدثتك عنه“.
ثم استأنف الحديث وقال لي: “لقد أوقفت المعارضة أنشطتها والتأمت لتوقع ميثاق شرف، ألا ترى أن المؤامرة مخلة بالشرف”. قلت له: “لم أفهم ما تقصدون السيد الرئيس”، قال لي: “لم يعودوا يفكرون في الثورة، ولا حتى في النضال السلمي، بل تجاوزوا تلك المرحلة وهم بصدد وسائل أخرى للحصول على السلطة.
حسب فهمك ماذا تريد المعارضة بالضبط”، قلت له: “أنه ما دام الأمر هكذا لا أعرف”، قال: “هل تعرف أن جشع البيظان من أكبر معوقات التنمية والإستقرار، أنظر إلى أسلوب مسعود وبيجل في التعاطي مع الشأن العام، هؤلاء حريصين كل الحرص بغض النظر عن من يحكم أو سيحكم على أمن واستقرار البلد، وأنت تعرف أن هناك اختلالات كبرى سببها، التباين الكبير في الثروة والمستوى العلمي والتشغيل ومستوى المعيشة“.
وقال لي أنه يفكر في خلق طبقة من رجال الاعمال من “الحراطين”، وكذلك إنشاء مصرف أو هيئة مالية يديرها أطر من طبقتهم، كما ينوي مضاعفة المدارس والمستوصفات ومرافق أخرى في آدوابه. ذكرته بقضية بيرام ولد الداه ولد اعبيدي، وقد ادرجت ملفه سابقا في مبادرتي التي تقدمت بها أصلا.
كان ولد عبد العزيز معجبا ببيرام ولد اعبيدي وحركة “إيرا”، ويعتبر أنها حركة انعتاقية لها ما يبررها، إلا أنه قال أن جل مشاكل هؤلاء تكمن في التحرر من الجوع والفقر والمرض وحين يزول ذلك الداء لن يعود للتبعية مبرر. ثم تعهد لي بالنظر في الملف، وأفرج عن بيرام ورفاقه لاحقا، وكان حينها قد حملني رسالة شفهية إلى بيرام مفادها أن المقدسات ومشاعر المسلمين خط احمر.
لقد أدركت من خلال هذه المقابلة الثانية، أن السيد الرئيس يتابع ما أصدره من بيانات وتصريحات حول الشأن العام، ففعلا سبق أن أصدرت بيانا أيام إزاحة أخي الجنرال محمد ولد الهادي من إدارة الأمن وما شاع من تفتيش لسفارتنا في بلجيكا والسفير ابن خالتي محمد محمود ولد ابراهيم اخليل، وكذلك إلغاء اتفاقيات المحامين مع مؤسسات الدولة، ومن ضمن المستفيدين حينها ابن عمي الاستاذ محمد يحيى ولد عبد القهار شيخ مقاطعة أوجفت. كتبت في هذا الصدد أن الجنرال أو السفير سارا أمام الرئيس فــ”كرشهما”، ونائب وشيخ المقاطعة صارا خلفه فصفطهما، على أساس شعار يكرره الساسة الموريتانيين على الدوام وهو: نحن أمامكم ووراءكم يا سيادة الرئيس”. وأضفت في هذا البيان أن نظارات السيد الرئيس قد تهشمت لما أزاح ولد الهادي عن الامن.
قابلته بعد ذلك للمرة الثالثة، وكان موعدي على تمام الساعة الثامنة صباحا ودخلت القاعة الثامنة إلا ربعا، فوجدت أمامي الوزير الأول الدكتور مولاي ولد محمد لقظف، والوزير سيدي ولد التاه، والجنرال أحمد ولد بكرن المدير العام للأمن الوطني، ووزير آخر اعتقد أنه وزير المالية، ثم دخل العلامة محمد المخطار ولد امباله.
كان السيد الرئيس ذلك اليوم مرتاحا وبشوشا، وأول ما سألني عنه ما ذكر من حمى وادي المتصدع أو الحمى النزيفية، فحدثته عن وضعية ولاية آدرار ومقاطعة أوجفت بصفة خاصة، وأمر الوزير الأول بإرسال سيارة إسعاف للمقاطعة وفرق طبية لعلاج الناس ومراقبة الأوضاع، وكذلك فرق من مكافحة الجراد للقضاء على الباعوض.
كما أمر بتجهيز المراكز الصحية، وطلب مني البقاء على اتصال مع الوزير الأول، وفعلا أرسلت سيارة إسعاف توجد حاليا في أوجفت، واتخذت كافة التدابير لمكافحة الملاريا، كما شدد على العناية بالأماكن التي تضررت قبل السنة الماضية في بلدية المداح وانتيركنت، وأرسلت على الفور الفرق المذكورة.
ثم سألني بعد ذلك عن صحة رجال الأعمال وخص بالذكر أحمد ولد سيدي أحمد ولد الطايع الأخ الشقيق لمعاوية، وأثنى عليه قائلا إنه: “شخصية وطنية مثالية لا يكذب ولا يخدع. لقد عارضني منذ اليوم الأول ومازال على موقفه دون تطرف ولا ذم ولا أذى“.
ثم قال: “هل علمت أن أصدقاءك وقعوا ميثاقين”. قلت: “منهم أصدقائي؟”، رد قائلا: “قيادات المعارضة”. ولم يذكر حزبا باسمه ولا شخصية بعينها، قلت له: “ليس لي علم بذلك، منذ أن تقدمت بمبادرتي لم أحضر لإجتماع ولا لندوة، وحتى أنني لم أزر مقر حزبي”. فقال: “لعلمك، لقد تم توقيع ميثاق شرف للإستهلاك الإعلامي، وهناك ميثاق آخر تقاسموا من خلاله السلطة، وكلهم يعرف الآن حصته من الحكومة الخيالية، والدليل أنهم لن ولم ينزلوا للشارع. والصمت الذي نلاحظه إنما هو استنتاج لما قد حصل“.
وما قد حصل بمفهوم السيد الرئيس، أن هناك قرار مسبق تم اتخاذه لإختزال الطريق، ولا داعي بعده لأي نشاط سياسي.
إن محمد لد عبد العزيز رجل شجاع وجريء، قاس في ظاهره بسيط في باطنه لا يؤمن بضرورة الحارس ما دامت تقيد الحرية في الحركة. لذا رأيناه أكثر من مرة يخرج في أحياء الصفيح، وسط مئات المساكن المتشابكة وأفواج الجماهير دون حراسة ولا تمشيط للمنطقة قبل القدوم، رأيناه كذلك يتحاشى السير على السجاد الأحمر، ليترك الرسميين والحراس ويغوص في بحر من البشر بعاصمة تغص بالأجانب وغيرهم، إنه ببساطة لا يؤمن إلا بالقدر وإذا قدر الله أمرا هيأ له الأسباب.
إن حادثة “اطويله” كما أعتقد وكما أكد الرئيس صحيحة لكن الحلقة المفقودة تكمن في هاجس السيد الرئيس الأمني، وقد تخيل نظرا للشبهة في السيارة الصغيرة ولوحتها الاجنبية وركابها المدنيون أنها محاولة اغتيال تجسد عمليا ما كان يصبو إليه من يفترض أنهم أعداء، وكان ذلك سببا في محاولته الإفلات لتفادي الخطر، ليقع ما وقع. ومن هذا المنطلق فعلينا جميعا أن نسأل الله تبارك وتعالى بالشفاء العاجل للسيد الرئيس وعودته سالما، وحينها سيتضح للرأي العام السبيل الأمثل للخروج بالبلد إلى بر الأمان، دون اللجوء في الوقت الحالي إلى الحديث عن عجز الرئيس أو نبش النصوص لأي غرض كان.