لقد تعددت أشكال الرفض والممانعة ضد الوجود الإستعماري الفرنسي في هذه الربوع الشنقيطية وذهب سكان البلاد في ذلك مذاهب شتى فمنهم من جاهد بيده وحمل السلاح وبذل دمه الغالي وروحه الزكية في سبيل تخليص بلاده من قبضة النصارى ومنهم من جاهد بلسانه فانبرى يحث الناس على مواجهة الخطر الداهم بتوحيد الصفوف لدفع العدو بالقوة أولا أو بالهجرة أو المقاطعة ثانيا وثالثا وجاهد الجميع أو – إن شئت – أنكر بقلبه احتلال دار الإسلام واستباحة بيضتها من قبل غرباء لا يدينون بدينهم ولا يتكلمون لغتهم ويرتبطون معهم بتاريخ ولا بجغرافيا ، وهناك من وُفِّق ليجمع بين ذلك كله فجاهد بيده ولسانه وقلبه وجاد بروحه وبماله طيبة بذلك كله نفسه .
لقد واكب رجال الدين والعلم هذه النماذج كلها تأصيلا واجتهادا وتطبيقا وتنظيرا وقد سطروا من ذلك صفحات مُشرّفة ومُشرِقة سأستعرض إحداها من خلال قصة معبرة تترجم بجلاء الممانعة والصدود التام عن التعامل أو التواصل مع المستعمر تحت أي ظرف وبأي صفة أو على أي مستوى ، كان ذلك تحديدا عام 1332 هـ الموافق 1913 م أي تقريبا منذ مائة سنة خلت حينما كان العلامة الشيخ محمد أحمد بن الشيخ محمد بن محمود بن الرباني التندغي الحلي (1266 هـ – 1353 هـ ) قد حلّ منذ بعض الوقت ترافقه محظرته المتنقلة الضخمة بمنطقة شكار في وسط ولاية لبراكنة وما أن تنامى إلى مسامع ساكنة المنطقة نبأ حلول الشيخ بها حتى توافد عليه المئات من طلاب العلم والأدب والحكمة ومن طلاب الفتاوى والأقضية وغيرها ليصيبوا نصيبا مما حبى الله به الرجل من علم وحكمة وفصل خطاب وهو ما كان لهم بل وأكثر من ذلك لقد أذهلهم سمت الرجل وورعه وموسوعيته الفريدة فتداعى أكابر وأعيان المنطقة لانتهاز الفرصة السانحة وسعوا إلى السلطات الإستعمارية طالبين منها تنصيب الشيخ قاضيا عاما في مدينة بوكي وهو الأمر الذي استجاب له الفرنسيون دونما إبطاء وسرعان ما أصدروا بذلك مرسوما وأرسلوا للشيخ سجل القضاء ” الكناش” لمباشرة عمله ، نزل الخبر كالصاعقة على الشيخ المسكون بكراهية وبغض الغزاة ، لقد كان برِماً بهم لا تسعه الدنيا غيظا وحنقا عليهم وهو ناء عنهم فكيف به إذا أصبح أحد المقربين منهم بل وأحد أعوانهم يكتب باسمهم ويقضي باسمهم ويوقع باسمهم ، لم يكن ليرضخ أو يستسلم لما اعتبره مكيدة ومؤامرة وإن كان المتهمون بالوقوف خلفها لم يقصدوا بكل تأكيد إلا الخير للشيخ خاصة ولسكان المنطقة عامة فقرر الإستعانة بصديقه وشيخه وبن أشياخه الأثير عند الفرنسيين الشيخ سيدي باب بن الشيخ سيدي ( ت. 1342 هـ ) فأرسل إليه شاكيا ومستنجدا ومادحا برسالة جاء في نصها:
مُوافيك للإرشاد أصلحتَ أمرَهُ ,,,,, ومن يعشُ عن إرشادِ أمركَ أمرَهُ
شكوتكَ مَكْرًا من عدو مخادعٍ ،،،،، قد اعمل بي عند الفَرانِسِ مكــــرَهُ
فيُظهر لي نصحًا ولست بآمـنٍ ،،،،، إذا استحكمت فينا القضيةُ غـــدرَهُ
جعلتكَ من دون المكاره جُنّــةً ،،،،، فكن منصفي مما أخافُ وأكـــــرَهُ
لِتَكسبَ من تخليصنا أجر محسنٍ،،،،، فلا ضيّع الله المهيمن أجــــــــره
أيا مبتغي مرآى إمامٍ منوطـــة ،،،،، أمور جميع المسلمـين بــــــــه رَهُ
فحيا محياه الإله وحاطـَــــــــهُ ،،،،، سلامٌ يوازي في الكمالات قـــدرَهُ
لم يخيب الشيخ باب رحمه الله ظن صاحبه فأوعوز إلى الفرنسيين بإعفاء الشيخ محمد أحمد من تلك المهمة غير المرغوب فيها ، وانزاح الكابوس المزعج وعاد الشيخ إلى حياته المعهودة بين طلبته وكتبه ولكن بعض الهواجس ظلت تلاحقه بين الفينة والأخرى كلما رأى سجل القضاء الذي بعث به الفرنسيون إليه مركوما بين كتبه وكأنه لا يريد له أن ينسى أنه تماما مثل من أرسله لا زال هنا رغما عنه ، كان بطبيعة الحال يحتاج إلى تلك الأوراق وتلك الكراريس ولكنه كان يخشى أن يكون استخدامها يعني شيئا للفرنسيين وأن ضررا ما قد يلحق به جراء ذلك ، لم يجد بدا من الكتابة مرة أخرى للشيخ باب فهو الشيخ المستشفع به وهو الصديق المستشار والمؤتمن عنده فكتب إليه :
حَبِيكُ كاغدٍ لديّ للفـــــــــــــرا ،،،،، نسة عام “شَبْلَسٍ” على الورى
راموا به اسْتقضاءنا وما اتّفق ،،،،، ذاك لنا بفضل فالق الفلــــــــق
عناية منكم بنا لا زلتــــــــــمُ ،،،،، ملاذ كل ملتـــج إليكـــــــــــــم
فهل به أفعل ماليَ بـــــــــــدا ،،،،، ولن ينلني منه ضُر أبـــــــــدا
أو لا ، فأوضحوا لنا الجوابا ،،،،، بما يكون عندكم صــــــــــوابا .
وأحس الشيخ أخيرا بالطمأنينة والدعة حين علم أنه يستطيع استخدام أوراق السجل الثمينة دون أن يترتب على ذلك ضرر يلحقه أو يعني ذلك قبوله بالمنصب المرفوض أو أن يترك ذلك للنصارى يدا أو منّة عليه .
لم يكن الشيخ ثريا ولا ميسورا أبدا ولا صاحب قطعان ولا مزارع وكان يتحمل في عنقه أعباء المقلين والمحتاجين من الطلبة المؤبدين في محظرته وما هم بالقلة في ظرف زماني ومكاني يتسم بالقسوة والتقلب ، هذا بالإضافة للإلتزامات الأسرية والإجتماعية خاصة لمن هو في مكانة كمكانته ، ولا شك أن منصبا كذلك الذي أعرض عنه الشيخ كان سيمنحه امتيازات كثيرة تساعده على تذليل عديد الصعوبات وتجاوز الكثير من التحديات وإيجاد الحلول لأشدها إلحاحا وتعقيدا ولكنه فضل عن وعي وبإصرار الإنتصار لمبدإ الرفض والصدود عن كلما له علاقة بالمستعمر الذي لا يرى فيه إلا شرا متمحضا تجب مقاطعته و اتقاؤه بكل الوسائل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدوحة – دولة قطر
07-12-2012
لقد واكب رجال الدين والعلم هذه النماذج كلها تأصيلا واجتهادا وتطبيقا وتنظيرا وقد سطروا من ذلك صفحات مُشرّفة ومُشرِقة سأستعرض إحداها من خلال قصة معبرة تترجم بجلاء الممانعة والصدود التام عن التعامل أو التواصل مع المستعمر تحت أي ظرف وبأي صفة أو على أي مستوى ، كان ذلك تحديدا عام 1332 هـ الموافق 1913 م أي تقريبا منذ مائة سنة خلت حينما كان العلامة الشيخ محمد أحمد بن الشيخ محمد بن محمود بن الرباني التندغي الحلي (1266 هـ – 1353 هـ ) قد حلّ منذ بعض الوقت ترافقه محظرته المتنقلة الضخمة بمنطقة شكار في وسط ولاية لبراكنة وما أن تنامى إلى مسامع ساكنة المنطقة نبأ حلول الشيخ بها حتى توافد عليه المئات من طلاب العلم والأدب والحكمة ومن طلاب الفتاوى والأقضية وغيرها ليصيبوا نصيبا مما حبى الله به الرجل من علم وحكمة وفصل خطاب وهو ما كان لهم بل وأكثر من ذلك لقد أذهلهم سمت الرجل وورعه وموسوعيته الفريدة فتداعى أكابر وأعيان المنطقة لانتهاز الفرصة السانحة وسعوا إلى السلطات الإستعمارية طالبين منها تنصيب الشيخ قاضيا عاما في مدينة بوكي وهو الأمر الذي استجاب له الفرنسيون دونما إبطاء وسرعان ما أصدروا بذلك مرسوما وأرسلوا للشيخ سجل القضاء ” الكناش” لمباشرة عمله ، نزل الخبر كالصاعقة على الشيخ المسكون بكراهية وبغض الغزاة ، لقد كان برِماً بهم لا تسعه الدنيا غيظا وحنقا عليهم وهو ناء عنهم فكيف به إذا أصبح أحد المقربين منهم بل وأحد أعوانهم يكتب باسمهم ويقضي باسمهم ويوقع باسمهم ، لم يكن ليرضخ أو يستسلم لما اعتبره مكيدة ومؤامرة وإن كان المتهمون بالوقوف خلفها لم يقصدوا بكل تأكيد إلا الخير للشيخ خاصة ولسكان المنطقة عامة فقرر الإستعانة بصديقه وشيخه وبن أشياخه الأثير عند الفرنسيين الشيخ سيدي باب بن الشيخ سيدي ( ت. 1342 هـ ) فأرسل إليه شاكيا ومستنجدا ومادحا برسالة جاء في نصها:
مُوافيك للإرشاد أصلحتَ أمرَهُ ,,,,, ومن يعشُ عن إرشادِ أمركَ أمرَهُ
شكوتكَ مَكْرًا من عدو مخادعٍ ،،،،، قد اعمل بي عند الفَرانِسِ مكــــرَهُ
فيُظهر لي نصحًا ولست بآمـنٍ ،،،،، إذا استحكمت فينا القضيةُ غـــدرَهُ
جعلتكَ من دون المكاره جُنّــةً ،،،،، فكن منصفي مما أخافُ وأكـــــرَهُ
لِتَكسبَ من تخليصنا أجر محسنٍ،،،،، فلا ضيّع الله المهيمن أجــــــــره
أيا مبتغي مرآى إمامٍ منوطـــة ،،،،، أمور جميع المسلمـين بــــــــه رَهُ
فحيا محياه الإله وحاطـَــــــــهُ ،،،،، سلامٌ يوازي في الكمالات قـــدرَهُ
لم يخيب الشيخ باب رحمه الله ظن صاحبه فأوعوز إلى الفرنسيين بإعفاء الشيخ محمد أحمد من تلك المهمة غير المرغوب فيها ، وانزاح الكابوس المزعج وعاد الشيخ إلى حياته المعهودة بين طلبته وكتبه ولكن بعض الهواجس ظلت تلاحقه بين الفينة والأخرى كلما رأى سجل القضاء الذي بعث به الفرنسيون إليه مركوما بين كتبه وكأنه لا يريد له أن ينسى أنه تماما مثل من أرسله لا زال هنا رغما عنه ، كان بطبيعة الحال يحتاج إلى تلك الأوراق وتلك الكراريس ولكنه كان يخشى أن يكون استخدامها يعني شيئا للفرنسيين وأن ضررا ما قد يلحق به جراء ذلك ، لم يجد بدا من الكتابة مرة أخرى للشيخ باب فهو الشيخ المستشفع به وهو الصديق المستشار والمؤتمن عنده فكتب إليه :
حَبِيكُ كاغدٍ لديّ للفـــــــــــــرا ،،،،، نسة عام “شَبْلَسٍ” على الورى
راموا به اسْتقضاءنا وما اتّفق ،،،،، ذاك لنا بفضل فالق الفلــــــــق
عناية منكم بنا لا زلتــــــــــمُ ،،،،، ملاذ كل ملتـــج إليكـــــــــــــم
فهل به أفعل ماليَ بـــــــــــدا ،،،،، ولن ينلني منه ضُر أبـــــــــدا
أو لا ، فأوضحوا لنا الجوابا ،،،،، بما يكون عندكم صــــــــــوابا .
وأحس الشيخ أخيرا بالطمأنينة والدعة حين علم أنه يستطيع استخدام أوراق السجل الثمينة دون أن يترتب على ذلك ضرر يلحقه أو يعني ذلك قبوله بالمنصب المرفوض أو أن يترك ذلك للنصارى يدا أو منّة عليه .
لم يكن الشيخ ثريا ولا ميسورا أبدا ولا صاحب قطعان ولا مزارع وكان يتحمل في عنقه أعباء المقلين والمحتاجين من الطلبة المؤبدين في محظرته وما هم بالقلة في ظرف زماني ومكاني يتسم بالقسوة والتقلب ، هذا بالإضافة للإلتزامات الأسرية والإجتماعية خاصة لمن هو في مكانة كمكانته ، ولا شك أن منصبا كذلك الذي أعرض عنه الشيخ كان سيمنحه امتيازات كثيرة تساعده على تذليل عديد الصعوبات وتجاوز الكثير من التحديات وإيجاد الحلول لأشدها إلحاحا وتعقيدا ولكنه فضل عن وعي وبإصرار الإنتصار لمبدإ الرفض والصدود عن كلما له علاقة بالمستعمر الذي لا يرى فيه إلا شرا متمحضا تجب مقاطعته و اتقاؤه بكل الوسائل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدوحة – دولة قطر
07-12-2012