غادر صباح اليوم الأربعاء آخر الوفود المشاركة في قمة مجموعة دول الساحل الخمس، وطويت ملفات قمة خاطفة ولكنها استثنائية، نظراً إلى الظروف التي جاءت فيها والملفات التي ناقشتها، فقد كانت «قمة نواكشوط» فرصة لتقييم ومراجعة ما أسفرت عنه «قمة بو» بفرنسا قبل ستة أشهر.
وإن كانت «قمة بو» قد وضعت أسس استراتيجية جديدة للحرب الدائرة في منطقة الساحل، إلا أن «قمة نواكشوط» جاءت لتضع أسس وهياكل هذه الاستراتيجية، تلك كانت هي الصورة البارزة لما حدث، ولكن ماذا جرى خلف الكواليس.
نقاط عديدة وأسئلة بقيت عالقة بعد قمة نواكشوط، حاولت «صحراء ميديا» أن ترصدها خلال أحاديث على هامش القمة مع مصادر قريبة من دائرة صنع القرار.
قيادة أركان مشتركة
إن قيادة الأركان المشتركة الجديدة التي يوجد مقرها في عاصمة النيجر (نيامي)، كانت محل احتفاء من طرف المشاركين في قمة نواكشوط، بسبب الدور الذي تلعبه في تنسيق العمليات العسكرية المشتركة التي تجري على الأرض، بالتعاون بين قوة الساحل والقوات الفرنسية «برخان».
وكان واضحاً أن «قيادة الأركان المشتركة» قد ساهمت في حل مشكلة التنسيق الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الفرنسيين من جهة، ودول الساحل من جهة أخرى، ولكن أيضاً بين دول الساحل الخمس فيما بينها، وهي مشكلة ظلت تعيق التعاون العسكري خلال السنوات الأخيرة.
الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، كان واضحاً حول هذه النقطة، عندما قال في مقابلة مع الوكالة الموريتانية للأنباء (رسمية)، إن «الإرهابيين في مختلف المناطق ينسقون بشكل أفضل من الدول التي تحاربهم»، وهنا جاءت «قيادة الأركان المشتركة» في نيامي لتعويض هذا النقص.
ولكن هذه القيادة الجديدة بحكم موقعها (يوجد مقرها داخل القاعدة العسكرية الفرنسية في نيامي)، وارتباطها المباشر بالفرنسيين والأوروبيين (تتبع مباشرة للائتلاف من أجل الساحل)، أصبحت تمثل «القيادة الأقوى» للقوة العسكرية المشتركة لدول الساحل، وهنالك مخاوف من أن تسحب البساط من تحت قيادة القوة العسكرية المشتركة الموجودة في باماكو.
نقطة أثارت النقاش وراء الأبواب الموصدة لقمة نواكشوط، فيما تمسك البيان الختامي للقمة بتزكية «قيادة الأركان الجديدة»، ووجه التحية إلى الدور الذي تلعبه في تنسيق العمليات العسكرية الميدانية، وهو ما يعيد طرح السؤال القديم حول مدى استقلالية دول الساحل عن فرنسا، خاصة فيما يتعلق بقرارها العسكري والأمني.
الائتلاف الجديد
إن دول الساحل تدرك بما لا يدع أي مجال للشك حاجتها الكبيرة لغطاء ودعم دولي واسع لمساندتها في مواجهة «خطر الإرهاب»، وكثيراً ما عبرت عن هذه الحاجة في جميع قممها ومؤتمراتها، ومن هنا جاء قرار تشكيل ائتلاف دولي موسع من أجل الساحل في قمة «بو» بفرنسا، يناير الماضي.
الائتلاف الدولي الجديد عند الإعلان عنه قيل إنه يهدف إلى توحيد الجهود التي تبذلها دول الساحل مع تلك التي تقوم بها المجموعة الدولية، ما دامت «المصالح متبادلة» وهناك احترام تام «لمعايير الأمم المتحدة ومبادئها».
ولكن الائتلاف عند تأسيسه شدد على أنه «لا يحل محل الآليات القائمة لاتخاذ القرارات»، وهي آليات عديدة من أبرزها «مجموعة دول الساحل الخمس» التي أسستها دول الساحل عام 2014، و«تحالف الساحل» الذي تقوده فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي منذ 2017، بالإضافة إلى «لشراكة من أجل الأمن والاستقرار في الساحل» التي أطلقتها فرنسا وألمانيا العام الماضي.
لقد كانت قمة نواكشوط فرصة لوضع تصور لملامح «الائتلاف من أجل الساحل»، وتحديد هيكلته وآليات عمله، بصفته العمود الفقري للاستراتيجية الجديدة من أجل الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل، وفق أربع محاور رئيسية هي: مكافحة الجماعات الإرهابية المسلحة، تعزيز القدرات العسكرية لدول المنطقة، مساندة عودة الدولة والإدارات للعمل على الأرض، المشاريع التنموية.
ومع قطع خطوات كبيرة نحو تعزيز وتطوير العمل داخل «الائتلاف من أجل الساحل»، اثار متابعون للشأن في منطقة الساحل، مخاوف من أن يكون الائتلاف الجديد بديلاً عن مجموعة دول الساحل الخمس، رغم التشديد والتأكيد على أهمية الإبقاء على المجموعة كشريك محلي لا غنى عنه.
الرئيس الموريتاني قال إن النقاشات التي دارت وراء الأبواب المغلقة في قمة نواكشوط كانت «تطبعها الصراحة والتشاور»، من دون أن يكشف تفاصيل أكثر حول النقاط التي أثارت النقاش، فيما تفيد بعض المصادر أن ملامح الائتلاف الجديد كانت حاضرة بقوة في النقاشات السرية للقمة.
الأمانة التنفيذية !
واحدة من النقاط التي تثير الأسئلة داخل مجموعة دول الساحل الخمس هو «الأمانة الدائمة للمجموعة» التي حولها قادة دول الساحل إلى «أمانة تنفيذية» رغبة في منحها دوراً أكبر في تنفيذ الاستراتيجية المعتمدة لمحاربة الإرهاب، سواء في الجانب العسكري والأمني، أو في الجانب التنموي.
إلا أن «تنفيذية» هذه الأمانة الدائمة ما تزال محل الكثير من التساؤلات، في ظل رفض الأمريكيين للتعاون معها إلا في حدود ضيقة جداً، وعدم ثقة الشركاء الدوليين فيها عندما يتعلق الأمر بتسيير التمويلات، وبقيت تحمل صفة «المراقب».
إن هذه الأمانة التي يوجد مقرها في نواكشوط، كانت تعقد عليها الكثير من الآمال عندما تأسست عام 2014، ولكنها اصكدمت بالكثير من العراقيل، من أبرزها العائق القانوني، فهي لا تملك حق توقيع أي اتفاقيات تمويل مع الجهات المانحة، وبالتالي فالدول هي التي توقع، وتتولى الأمانة مراقبة ومواكبة المشاريع عن بعد.
تشير الأرقام الرسمية إلى أن «تحالف الساحل» يسعى إلى تمويل أكثر من 800 مشروع في منطقة الساحل، بغلاف مالي يصل إلى 11,7 مليار يورو، وذلك عبر مساهمات من 23 عضواً، من ضمنهم 10 مراقبين، وستنفذ هذه المشاريع بالتعاون مع «الأمانة التنفيذية» لدول الساحل، التي ستتولى مهمة «تحديد الأنشطة والتأكد من التنسيق الجيد للجهود ومن توزيع الأدوار ومناطق العمل».
كما أسندت إلى الأمانة التنفيذية مهمة «العمل على ضمان فعالية إجراءات تحقيق التنمية بصورة عامة، بما ينسجم مع الشق السياسي والأمني والعسكري».
ولكن تبقى الأدوار المسندة إلى هذه «الأمانة التنفيذية»، هي أدوار «غير تنفيذية»، وأقرب ما تكون إلى دور «المراقب»، وهو ما يثير التساؤلات ويحضر دوماً في نقاشات المشاركين في قمم الساحل عندما يحضر الشركاء الدوليون.
قمة نواكشوط
أقل من أربع ساعات فقط، كانت هي مدة القمة التي احتضنتها مدينة نواكشوط، لمناقشة ما تحقق على الأرض خلال الأشهر الستة الأخيرة في منطقة الساحل، وقد كان الوقت ضاغطاً لهذه القمة، فلم يقرأ البيان الختامي، ولم يلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطابه، رغم إدراجه في جدول الأعمال، أما الاجتماعات المغلقة فقد كانت سريعة وخاطفة.
ورغم كل ذلك نجحت «قمة نواكشوط» في أن تتجاوز التحديات الأمنية والصحية، وأن تقيم مخرجات قمة «بو» وتراجع ما صدر عنها من قرارات، وهي خطوة جديدة في عمل مجموعة دول الساحل الخمس وشركائها الدوليين، إذ ظلت القمم خلال السنوات الخمس الماضية منفصلة عن بعضها، تتحكم الظروف في مواضيعها ونقاشاتها.
أحد الدبلوماسيين الغربيين المشاركين في القمة، وخلال جلسة استراحة خارج قصر المؤتمرات، أزاح كمامته مستمتعاً بشمس نواكشوط، وقال إنه لم يكن يتصور أبداً أن تنعقد هذه القمة، وأن يجد نفسه في إحدى دول الساحل بسبب ظروف الجائحة.. إنه شيء لا يتصور !