الزمان: ربيع الأول 1432 الموافق فبراير 2011. المكان: مدينة شنقيط التاريخية. كانت قاعة الاجتماعات بمقر الهيئة الوطنية لحماية المدن القديمة – دار الكتاب سابقا – تعج بالمشاركين في أحد أنشطة مهرجان المدن القديمة الذي كانت “أم البلاد” كما يحلو لأهل شنقيط أن يسموها، تحتضنها آنئذ؛ كان ينطلق من القاعة صخب ناتج عن الأحاديث الجانبية قبل بدء النشاط الذي لم أعد أذكر عنه شيئا، ومثل الجميع كنت أتحدث مع جاري في المقعد دون سابق معرفة، وتطرق حديثنا في إحدى مراحله لممتهني مهنة المتاعب. جاري الذي فهمت أن له منصبا لم استطع تحديده، كان ساخطا من امتهان البعض (من المهانة) لشرف المهنة واتخاذها مجرد وسيلة للتكسب والاستجداء. ولا أدري لم ذكرني كلامه بالزميل زيدان ولد التراد، الذي كان أوانها في شنقيط. لم يكن الأمر مجرد تشابه أفكار، بل كان مزيجا من الصراحة والوضوح والطرافة، كان يجعل من انتقاد زيدان لما يراه خاطئا باعثا لأمرين متناقضين: الضحك والألم! وسرعان ما بدأ النشاط الذي كنت مهتما بتغطيته، والتحق بي المرحوم زيدان الذي كان يغطي المهرجان للنشرة الفرنسية، وهو الذي عين أيامها مديرا للتكوين فلم يعن ذلك له أكثر من تكليف جديد؛ وانتهزت الفرصة وسألته: زيدان، هل تعرف ذلك الرجل هناك؟ وأشرت باتجاه جاري السابق، فسألني مستغربا: ألا تعرفه؟ ودون أن ينتظر مني الرد قال: هذا واحد من الرجال الصادقين القلائل في البلد. كان زيدان صادقا ويعجبه الصدق أكثر من أي شيء. عرفت أن الرجل عسكري سابق خلع البذلة ونال شهادة عالية في الاتصال، وأنه إضافة إلى أمور أخرى، يشغل منصب مكلف بمهمة في وزارة الاتصال، وأنه يدعى محمد الأمين ولد سيدي حامد، وأنه تربطه بزميلي صداقة قوية ربما مردها التشابه حد التطابق في بعض الرؤى والمواقف. وفي رحلة العودة من شنقيط إلى نواكشوط بعد ختام المهرجان، توقفنا في سوق أطار لشراء بعض الأغراض ولوداع زميلنا الذي قضينا أول ذلك اليوم في ضيافته الكريمة السعد ولد المصطافي، فتحولت للسيارة التي بها زيدان ومحمد الأمين، إذ كنت الأقرب لهما في السن وفي محاربة التدخين. وكان لي مع الرجلين سفر لا ينسى، وددت لمتعته لو طال أكثر، فليس كالسفر فرصة لمعرفة طباع الرجال، ولقد كانت لهما أحلى الطباع. بعد ذلك بسبعة أشهر مرت دون أن أشعر بها، ولمحض المصادفة رن هاتفي النقال وأنا في نفس الموقع من سوق أطار، وكان المتحدث صديقي الشاعر بدر ولد موسى، الذي نعى إلي وبدون مقدمات زميلي الذين قضيا جراء حادث سير. ولوهلة صعقت للخبر، ثم فزعت إلى التسليم بقضاء الله وقدره، فهو سبحانه لايفعل بعبده المؤمن إلا خيرا. واليوم بعد عام على رحيل الرجلين الصادقين، أتذكرهما فأسأل المولى الرحيم أن يسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء.