ارتبط قدر موريتانيا خلال العقود الأربعة الأخيرة، بأقدار رجال المؤسسة العسكرية، فمنذ «حرب الصحراء» ومصير موريتانيا يتحكم فيه هؤلاء الرجال، ذلك ما تأكد مساء أمس الاثنين، عندما نسي الموريتانيون خطر «كورونا» ومؤتمر وزارة الصحة، لأن مراسيم رئاسية حملت تعديلات في أعلى هرم المؤسسة العسكرية والجيش.
كانت التعديلات مفاجئة للجميع، إن لم تكن صادمة، ولعل من أبرزها تعيين الفريق محمد ولد مكت قائداً للأركان العامة للجيوش، فمن هو «ولد مكت» الذي سيقود المؤسسة العسكرية في أتون الحرب ضد فيروس «كورونا».. حرب ضد عدو غير مرئي أصاب أعضاء في الحكومة والجيش، وتجاوز عدد المصابين به في البلد عتبة الألف مصاب.
على غرار العديد من رجال موريتانيا الذين يقفون الآن على عتبة التقاعد، منهم من تجاوزها ومنهم من ينتظر، عاصر «ولد مكت» سنوات الاستقلال الأولى صبياً، وشهد حرب الصحراء مراهقاً، وشب في المؤسسة العسكرية قبل أن يشيب فيها، وها هو الآن يتربع على هرم السلطة في الجيش، بعد مضي 44 عاماً من الخدمة العسكرية.
البدايات
ينحدر «ولد مكت» من أسرة كانت تتنقل في منطقة لبراكنه، وتحديداً في محيط مدينة «شكار» حالياً، غير بعيد من «ألاك»، وفي تلك المضارب كان مسقط رأسه عام 1957 تحت خيمة بسيطة، كأغلب مواليد ذلك العصر، وفق ما أفاد أحد أقاربه لـ «صحراء ميديا».
ذات المصدر أضاف أن «ولد مكت» تربى وفق النمط السائد آنذاك، دراسة ما تيسر من القرآن والعلوم المحظرية، مع اهتمام مبكر بالشعر وثقافة سكان الصحراء (البيضان)، سعياً وراء فتوة هي زاد الشبان في مجالس ذلك الزمن، وقد أظهر «ولد مكت» في سنوات مراهقته الأولى حباً لحفظ وقرض الشعر، وخاصة شقه الشعبي، وذلك ما أكده المصدر العائلي حين قال: «يمكن وصفه بأنه مغني !».
كانت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي سنوات مخاض سياسي عسير في موريتانيا، وعاش أغلب الموريتانيين وسط استقطاب حاد بين مثقفي البلد وسياسييه، فيما وجد الشاب «ولد مكت» نفسه وهو يحمل ميولاً سياسية «قومية»، وإعجاباً بسيرة الضباط الأحرار في مصر، فقد كان لوفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر (1970) تأثيراً كبيراً في نفوس شباب بلد يتلمس هويته العربية الضائعة، وقد دفعت كاريزما «الزعيم الراحل» عدداً منهم إلى اعتناق فكره.
ولكن التجربة القاسية لـ«حرب الصحراء» التي اشتعلت بين الإخوة عام 1975، أعادت الأعناق المشرئبة نحو المشرق إلى الوطن المهدد في وجوده، فقرر الشاب وهو في التاسعة عشر من العمر أن يدخل المؤسسة العسكرية (1976)، عبر بوابة المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة بمدينة أطار.
المسار العسكري
تخرج «ولد مكت» من المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة ضابط احتياط برتبة ملازم (1977)، قاد بعدها الوحدات العملياتية، قبل أن يعود إلى المدرسة العسكرية ليخوض دورة تطبيق في سلاح الإشارة (الاتصال اللاسلكي)، تخرج منها ضابط عون برتبة ملازم، ثم ترقى بعد ذلك ليصبح ضابط قيادة.
خدم «ولد مكت» في المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة في مدينة أطار، قائداً لفصيل الطلبة الضباط، ليبدأ من هناك مساراً مهنياً قاده إلى مختلف أنواع المناصب العسكرية والمهام الأمنية، وقاد الكثير من الوحدات والتشكيلات والمناطق العسكرية، فتولى عام 1994 إدارة مركز التكوين الفني للجيش بروصو، قبل أن يقود المنطقة العسكرية في كل من كيدي ماغا والحوض الشرقي ثم في تيرس الزمور، وتولى أيضاً إدارة الاتصال في قيادة الأركان العامة للجيوش، وظهر اسمه في قائمة الضباط الذين اتهمتهم حركة “افلام” بالتورط في تصفية الضباط الزنوج مطلع تسعينيات القرن الماضي.
بالتوازي مع مساره المهني، تلقى «ولد مكت» دورات عسكرية مكثفة في الخارج، أغلبها في نهاية التسعينيات ومطلع الألفية، فعندما كان قائداً للمنطقة العسكرية الثانية في افديرك عام 1999 توجه إلى فرنسا حيث تلقى دورة تطبيق في الأركان الحربية وأخرى في التمهر، قبل أن يعود عام 2002 قائداً لنفس المنطقة العسكرية.
المسار السياسي
عندما كان «ولد مكت» قائداً للمنطقة العسكرية الثانية في الشمال الموريتاني، شنت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» الجزائرية، أول هجوم ضد الجيش الموريتاني في «لمغيطي»، يوم الخامس من شهر يونيو 2005، وخلف الهجوم 17 شهيداً في صفوف الجيش.
كان ذلك الهجوم هو الشرارة الأولى لانطلاق ما عرف بعد ذلك باسم «الحرب على الإرهاب في الساحل»، ولكنه أيضاً كان من الأسباب التي عجلت بالانقلاب على الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع، في الثالث من أغسطس من نفس العام، أي بعد شهرين فقط من الهجوم.
تتحدث المصادر عن دور لعبه «ولد مكت» في فتح الباب أمام انقلاب الثالث من أغسطس، وهو الذي يقود واحدة من أهم المناطق العسكرية وأكثرها تسليحاً، جاءت مشاركته في الانقلاب بحكم علاقة خاصة تربطه بالراحل اعل ولد محمد فال وعبد الرحمن ولد ببكر، سببها الزمالة والانتماء لأجيال متقاربة.
ظهر اسم «ولد مكت» بعد الانقلاب عضواً في «المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية»، وعمل في تلك الفترة مفتشا عاما للقوات المسلحة (2007)، والتي كانت قبله إدارة تابعة لوزارة الدفاع، وتحولت معه لتصبح تابعة لرئاسة الجمهورية.
بعد ذلك شغل «ولد مكت» منصب قائد مكتب التوثيق والأمن الخارجي (الاستخبارات العسكرية) عام 2008، وهو المنصب الذي بقي فيه لعدة سنوات، ومنه شارك في انقلاب السادس من أغسطس 2008، ضد حكم الرئيس الأسبق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وانتدب من طرف المجلس لمفاوضة ولد الشيخ عبد الله في إقامته الجبرية بقصر المؤتمرات، خلال الأزمة التي أعقبت الانقلاب.
عقد الأمن
في منتصف 2014 تم تعيين «ولد مكت» مديراً للأمن الوطني، منصب بقي فيه حتى تعيينه على قيادة الأركان.
ويعد أكبر تحد واجه «ولد مكت» خلال إدارته للأمن هو مظاهرات النصرة، التي أعقبت مقالا مسيئا للجناب النبوي الشريف، واستمرت لعدة سنوات، انطفأت بعدها جذوة المتظاهرين، ونجح الأمن في أن ينهي واحداً من أكثر الملفات الشائكة في العقود الأخيرة.
خلال هذه السنوات العشر اقترب «ولد مكت» عدة مرات من التقاعد، وفي كل مرة ينال ترقية تمنحه سنوات إضافية من الخدمة، ليصبح بذلك الضابط الأعلى رتبة والأكثر تجربة في البلد، إنه «الساموراي الأخير» قد أصبح قائد الأركان العامة للجيوش بعد 44 عاماً من الخدمة العسكرية.
يرى كثيرون أن تعيين «ولد مكت» في أعلى هرم المؤسسة العسكرية، حدث طبيعي ومتوقع، لأنه يأتي لتصحيح خلل سابق كان نشازاً في أعراف المؤسسة العسكرية، بينما يرى آخرون فيه تكريماً للرجل وهو يستعد لمغادرة المؤسسة، فأراد له الرئيس أن يخرج من الباب الكبير.
يصفه مقربون منه بأنه «عسكري طيب»، لعب أدواراً سياسية على المستوى الوطني والمحلي في لبراكنه، ولكنه حاول دائماً أن يبقى خلف الستار، ولكن المصادر تتحدث عن وقوفه القوي العام الماضي في وجه مأمورية ثالثة للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
اليوم يغادر «ولد مكت» إدارة الأمن الوطني، ليقطع مئات الأمتار نحو مكتبه الجديد في قيادة الأركان، أمتار ستختزل رحلة ذلك «الشاب» البسيط القادم من سهول لبراكنه، يحفظ الشعر ويشرب الشاي ويحب الحديث العفوي… خطوات قليلة ويذوب الشاب في «رجل» تلقى أول ضربة من الإرهاب وخطط للحكم وقلبه، أدار الاستخبارات والأمن، وها هو يختم مسيرته بقيادة أركان الجيوش.