كان الشاعر الراحل علي الجندي، يتحدث عن الباهي محمد بحب شديد كواحد من سلالة الصعاليك الكبار الذين انقرضوا في زمن غابر، ولم نعد نعثر على واحد منها إلا نادرا. وحين نلتقي أحدهم فإن ذلك يحصل على نحو خاطف وسريع، وكأن عبور هؤلاء بـ”نعال من ريح” على حد تعبير الشاعر رامبو. وتعود ذكريات علي الجندي عن الباهي محمد إلى نهاية الستينات من القرن الماضي حين جاء شاب يساري من موريتانيا إلى دمشق، وهناك وجد نفسه في هوجة اللغط العروبي العالي النبرة، فأخذته الحمية ليصبح واحداً من نخبة القوميين الذين وقفوا في منتصف الطريق إلى الماركسية، وانهمكوا في حروب السلطة والحكم. وكان الباهي مؤسساً على عروبة صافية آتية من عصبية عمر بن كلثوم، وزادها ذخيرة لغوية فقهية وشعرية عمادها القرآن والمعلقات والمتنبي ومرجعيات شنقيط. لكنه تبحر أكثر من ذلك إلى عموم النتاج المعرفي والثقافي العربي وخصوصا عصر النهضة العربية، وتوسع نحو التنوير الأوروبي والرواية الفرنسية الكلاسيكية من ستندال وبلزاك وزولا حتى مارسيل بروست.
حين رحل الباهي في يونيو/حزيران 1996، رثاه صديقه الروائي عبد الرحمن منيف بكتاب كامل “الباهي: عروة الزمان”. تحدث فيه عن رحلته الحياتية ومحطاتها المتشعبة من مكان ولادته في الصحراء الموريتانية من أبرز القبائل العربية هناك، وبعد ذلك انتقاله للمغرب ليقاتل في صفوف جيش التحرير المغربي، والتحاقه بصفوف المعارضة المغربية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، ومن ثم مغادرة المغرب الى الجزائر بعد الاستقلال عن فرنسا العام 1962. وهناك عمل في الصحافة (المجاهد)، ومن بعدها كانت سيرة طويلة ذهبت طرقاتها نحو سوريا والعراق وفرنسا ومنظمة التحرير الفلسطينية وجبهة تحرير ارتيريا واليمن الجنوبي وحتى كوبا. وفي الجزائر عرف الباهي اغلبية قادة الصف الأول لثورة التحرير الذي فاوضوا فرنسا على الاستقلال، أو حكموا البلاد لاحقا، من أحمد بن بلة وحتى عبد العزيز بوتفليقة، وفي اكتوبر/ تشرين الأول 1990 سافرنا من باريس كوفد صحافي دولي مع أحمد بن بلة حين عاد الى الجزائر، بعد أعوام طويلة من النفي وكان معنا الباهي، وهناك قدمنا إلى بوتفليقة الذي كان في شبه اقامة جبرية، وعلى عدد كبير من قادة الجزائر الذين لم يبق منهم أحد اليوم على قيد الحياة.
محطة باريس كانت أطول محطات حياة الباهي، وهو قدم إلى هذه المدينة واستقر فيها في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، بعد خصومة مع القيادة الجزائرية التي عرضت عليه رئاسة جبهة البوليساريو، ولكنه رفض العرض من منطلق إيمانه بأن الصحراء مغربية. وفي باريس عمل في الصحافة، وبرز على نحو خاص في يومية السفير اللبنانية، واسبوعية “اليوم السابع” حيث تعرفت عليه عن كثب في منتصف الثمانينات، وعملنا معا عدة سنوات. وكان في الوقت ذاته يكتب صفحة اسبوعية في صحيفة الاتحاد الاشتراكي المغربية المعارضة تحت اسم “رسالة باريس”، والتي كانت تقدم بانوراما اخبارية تحليلية، وتعرج على آخر ما صدر من كتب. وقد احتفظت هذه المادة بقيمتها رغم مرور السنوات، وصدرت في كتاب في الذكرى العشرين لرحيله بمبادرة من صديقه الوفي عباس بو درقة. ويجدر التوقف عند علاقة الباهي بالكتب التي احتلت في حياته مكانة أثيرة. وليس هناك ما يشد الباهي أو يجذبه أكثر من الكتاب، ويأتي بعده الهاتف والطعام. كان مرجعا في الكتاب التراثي، وعلى معرفة لا ينافسه فيها أحد بكل مكتبات باريس، وإذا التقيت الباهي صدفة فهذا لن يكون خارج الحي اللاتيني ومكتباتها، ونادرا ما يمشي من دون أن يحمل أكياساً عديدة من الكتب ومن آخر الاصدارات.
وفي منزله في باريس في الدائرة الخامسة عشر احتلت الكتب ثلاث غرف من البيت، ولم يبق له للحياة سوى غرفة صغيرة وصالون ومطبخ. وكان الباهي يتندر حول اسم ذلك الشارع الذي سكن فيه، حيث توجد دائرة خاصة تابعة للشرطة متخصصة بالمفقودات التي تم العثور عليها ووصلت إلى يد الدولة، من اوراق رسمية ومفاتيح ..إلخ. وكان يقول من يبحث عني يستطيع أن يجدني هناك. ومن هناك سافر إلى المغرب في مايو/ايار 1996 كي يستقر نهائياً، لكنه ضاع في المسافة بين الحلم والواقع، وتوقف قلبه حين لم يجد باتنظاره ما كان يحلم به. كان يريد أن يريد أن ينقل خبرته وتجربته للشباب الجديد، ولكنه وجد صدا فأصابه الاحباط، وانفجر قلبه في لحظة غضب وهو في النصف الأول من الستينات. وتجدر الاشارة إلى أن الباهي قرر مغادرة باريس وشد الرحال إلى المغرب بعد أقنعه بذلك الرجل الذي رحل منذ ايام (29 مايو) عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان امينا عاما للاتحاد الاشتراكي أقوى أحزاب المعارضة وأكثرها تأثيرا، وكان اليوسفي في تلك الفترة دخل في مفاوضات مع الملك الحسن الثاني من أجل تجربة الانتقال الديموقراطي التي على أساسها تولى رئاسة الحكومة (1998-2002) في أهم مرحلة من تاريخ المغرب الحديث، والتي قاد فيها حكومة التناوب والانتقال بالمغرب من مرحلة الحسن الثاني الذي رحل في عام 1999 إلى مرحلة نجله الملك الحالي محمد السادس، وما كان للبلد أن ينتقل بسلاسة من عهد الأب إلى عهد الابن لو لم يتولى قيادة الحكومة شخصية في خبرة اليوسفي وحنكته وتفانيه وقدرته على لعب دور القاسم المشترك. وكان الباهي يطمح من موقع الصحافي والكاتب أن ينقل خبرته إلى بلده، متحمسا للمشاركة في هذه التجربة، ولكن الموت لم يمنحه الفرصة وفارق الحياة قبل أن يبدأ اليوسفي التجربة التي تشكل علامة فارقة في التاريخ المغربي.
لم يسبق لصحافي أو كاتب مقال سياسي مثل الباهي محمد، أن تعرف على هذا القدر من صناع القرار والسياسيين في بلدان المغرب العربي، وحتى العراق وسوريا واليمن وفلسطين. وكانت لديه صداقات فعلية مع شخصيات شاركت في صنع التاريخ: عبد الرحمن اليوسفي، عبد الرحيم بوعبيد، احمد بن بلة، شريف بلقاسم، حسين آيت أحمد، علي الكافي، بلعيد عبد السلام، عبد العزيز بوتفقلية، احمد بابا مسكي، أبو إياد (صلاح خلف)، طارق عزيز، سعدون حمادي، نزار حمدون، نوري الويس، صلاح عمر العلي، هاني الفكيكي، يوسف زعين، عبد الرحمن منيف، فواز طرابلسي، جوزيف سماحة، محمود درويش.. وتطول القائمة.
ولأنه صاحب تكوين ثقافي سياسي متين كان ينتقل بسرعة من السياسة إلى الادب وبالعكس، وهذا أمر سهّل عليه الكتابة وجعلها أقرب إلى القارئ، حيث وظف ثقافته وقراءاته في كتابته الصحفية فكان من كتاب الزاوية المتميزين والمقالة الشاملة التي تأخذ القارئ إلى المعلومات والمصادر في وقت لم يكن فيه الانترنيت والموبايل. وفي كل مراحل حياته كان يلتقي دائماً الذاتي بالموضوعي. وكان من كتاب التحقيقات المتميزين. وهو من أقدر الكتاب على كتابة كتابة التحقيق التاريخي الصحافي الذي يتطلب معرفة وثقافة ذاتية، وكتب في اليوم السابع تحقيقا ممتعا كان يحظى بمتابعة كبيرة تحت عنوان “اكتشاف باريس”، كان يقود فيه القارئ إلى تاريخ المدينة منذ أول حجر، ويشرح كل التفاصيل التي جعلت منها مدينة الأنوار. ومن تحقيقات الباهي الجميلة والطريفة تحقيقه عن تكاثر الجراد الذي عرفه في الصحراء ودرسه دراسة علمية مستفيضة، واكتشف أن الجراد يتزاوج جوا، ويصل إلى المنطقة التي يقصدها وقد انهى العملية ليضع بذوره هناك ويفرخ.
ولد في مضارب قبيلته البدوية حيث تعلم القرآن والشعر، وكان أول عمل قام به هو عبور النهر نحو السنغال إلى داكار، ومن هناك إلى المغرب، ومن بعدها للجزائر فباريس. هو موريتاني ومغربي، متعدد إلى حد أن دوائر الاقامة في باريس كانت تحتار في نسبه إلى جهة واحدة، وفي نهاية الأمر قبلوا خياره الأخير وهو المغرب، حيث توفي ودفن هناك، وكان ينقص أن يكتبوا على قبره “من معجزات الصحراء”، هو الذي رفض الرئاسة التي عرضتها عليه الجزائر حين أسست ما يسمى الجمهورية الصحراوية الخاصة بجبهة البوليساريو، ورحل إلى باريس كي يحيا قريبا من فولتير. عاد إلى المغرب ليلقى الوعد الديموقراطي، ولكن قلبه لم يتحمل كل هذا الرحيل فقرر أن يتوقف في الدار البيضاء في يونيو 1996.
الباهي محمد أحد أكثر المثقفين العرب، الذين اشتغلوا في الصحافة، شهرة في بلاده بفضل إخلاصه للمهنة. وفي المغرب يشكل حالة مرجعية. وكونه عاش متنقلاً بين المشرق والمغرب وأوروبا، نقل إلى المغرب لغة صحافية جديدة من خلال صحيفة “الاتحاد الاشتراكي” ومجلة “اليوم السابع”. ورغم ان المغرب شهد تجربة صحافية متطورة في العقود الثلاثة الأخيرة، وبرزت اسماء صحافية مرموقة بالعربية والفرنسية، لكن الوسط الاعلامي والثقافي يقف باحترام وتقدير أمام تجربة الباهي محمد.
(مقال منشور على موقع المدن)