ثمّة حرب “لذيذة” تجري منذ عقود طويلة بين الشعراء العرب دون أن تسمع بها العامةّ، لأنها لا تحظى بتغطية إعلاميّة إلاّ فيما ندر، حربٌ بلا ضحايا تقريبًا، ولكنّها مستمرّة في الزمن، لا تكبرُ ولا تشيخ. هذهِ الحربُ هي حربُ الموسيقى في الخطاب الشعري العربي المعاصر، حربُ الإيقاع، التي وضعت شعراء قصيدة النثر في مواجهة مفتوحة مع إخوتهم في الفطام، شعراء قصيدة التفعيلة.
والمعلومُ أنّ الإيقاع يظلّ أحد خصائص الخطاب الشعري الدقيقة، فهو بالنهاية ما يجعلُ من الشعر شعرًا ويخرجهُ من دائرة الكلام العادي. لكنّ شعراء قصيدة النثر، أو شعراء ما بعد الحداثة نسفوا هذه الخصيصة تماما في إطار نزعة إعلائية لجماليات أخرى جديدة، تخرجُ عن دائرة الإيقاع والأوزان العروضيّة.
وفي هذه الحرب اللذيذة، يصر شعراء العمودي والتفعيلة المعاصرين على إيمانهم الثابت في أن الإيقاع يؤدي دورا هاما في تحديد مخارج الانفعال الشعري، واعتبار القالب الموسيقي المحرك الأساسي للذات الشاعرة، بل ثمّة من يؤمن بأن قصيدة التفعيلة بموسيقاها الموزعة على أبحر الخليل الصافية، لم تستنفذ بعد إمكانياتها الجمالية. بالمقابل أعلن شعراء الحداثة (قصيدة النثر تحديدا) خروجهم من أقمطة الخليل كما يسميها محمد الماغوط، ولم يكتفوا بالتمرّد على ما يسمونه بالموروث الشعري فحسب، بل تجاوزوه إلى حدّ تفعيل آلية “قتل” كل شكل شعري خارج عن دائرة “الحرية”، بل وكل شكل شعري يرفض الصدمات القادمة من وراء البحار.
بين النثر والتفعيلة
ولعل الحرب التي يقودها كتاب قصيدة النثر على قصيدة التفعيلة، تدخل في باب المفارقات “العربية”، ذلك أن كتاب هذا الشكل الجديد وإن أعلنوا نيتهم عن التمايز التام، وجدوا أنفسهم ضمن دائرة “التقليد” إياها. ذلك أنهم اقتفوا، دون إرادة منهم، أثر كبار الشعراء “التفعليين” الذين أعلنوا يوما مّا خروجهم أيضا عن “رتابة” الشعر العمودي، كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وأدونيس ويوسف الخال وغيرهم، هؤلاء الآباء الكبار لقصيدة التفعيلة الذين وقفوا يوما على ضحالة النهر ومحدودية التجديد في القصيدة الكلاسيكية.
ولقد بان تأثر الشعراء التفعليين الأوائل بالصدمات الحضارية التي أحدثها انفتاحهم المبكر على الشعر المترجم. ومن نزعت شعرية الريادة صوب مراجع أجنبية كالمراجع الأنجلو – أمريكية (ت.س. إليوت، إديث سيثويل، ديلان توماس، عزرا باوند..) والمراجع الروسية (فلاديمير ماياكوفسكي..) والمراجع الإيبيرو – أمريكية (فديريكو غارسيا لوركا، رفائيل ألبيرتي، بابلو نيرودا..)، والمراجع الفرنسية (شارل بودلير، آرثور رامبو، إيزودور دوكاس لوتريامون، سان جون بيرس، بول إيلوار، يوجين غلليفيك، فرانسيس بّونج..)…
بل أنّ ثمّة من شعراء التفعيلة من سيجنح إلى التقليد الأعمى لخبرات شعرية بعينها في إطار تبعية شبه مطلقة لنموذجها الإبداعي المائز ممّا قد يجوز معه القول بالشاعر الأجنبي وظله العربي، وهو ما يصدق، بكيفية أو أخرى، على كلّ من شارل بودلير/حسين مردان؛ وت. س. إليوت/بدر شاكر السياب؛ ولويس أراغون/عبد الوهاب البياتي؛ وسان جون بيرس/ أدونيس؛ ويانيس ريتسوس/سعدي يوسف؛ وألكسندر بلوك /حسب الشيخ جعفر… وما حصل مع شعراء الريادة التفعليين، استنسخه في ما بعد شعراء قصيدة النثر، في إطار حربهم على “أسلافهم”، من خلال جنوحهم نحو مدارس شعرية بعينها، كالسريالية والدادائية والطليعية وغيرها.
صرخة الحداثة
صحيح أنّ المحاولات الأولى لكتابة قصيدة النثر تعودُ، في بداية استقرار شكلها، إلى سنوات الأربعينات، إلا أنه كان من الواضح أيضا أنها تعبيرة أخرى عن صدمة حضارية ووجهت بسيل من الانتقادات إلى درجة اعتبارها “خدعة لغوية” أكثر منها شكلا شعريا متمايزًا، قبل أن تصبح في السنوات الأخيرة “مطية” لكلّ عاجز وهو ما أنتج بالنهاية آلاف الشعراء العرب ولكن بلا شعر.
وحرب الإيقاع هذه دفعت شاعرًا كبيرًا كمحمود درويش إلى إطلاق صرخته المدوية:” ماذا جرى للشعر؟ إن سيلا جارفا من الصبيانية يجتاح حياتنا ولا أحد يجرؤ على التساؤل هل هذا شعر؟ نحن في حاجة للدفاع ليس فقط عن قيمنا الشعرية، بل عن سمعة الشعر الحديث الذي انبثق من القيم ليطورها لا ليكسرها حتى شمل التكسير، بدافع الإدراك أو الجهل، اللغة ذاتها. فكيف تطور الحداثة الشعر بلا لغة ، وهي حقل الشاعر وأدواته ؟ يقولون إن الإيقاع يخلق نمطا متشابها ورتيبا. إذن ما نقول عن هذه القصيدة التي نقرأها كل صباح منذ عشر سنين بمئات الأسماء؟ أليست هي نموذج النمط؟” بل إن هذه الصرخة، التي أطلقها أحد أعمدة الحداثة، وجدت لها صدى في “نكوصية” أدونيس الذي عاد إلى قصيد “التفعيلة” وهو من نظّر طويلاً إلى قصيدة النثر. وبالمثل نجد أن أحد الآباء المؤسسين لقصيدة النثر، الشاعر أنسي الحاج، يقول متحسّرا “أية علبة باندورا فتحناها للآخرين؟”. صحيح أننا لا نعدم وجود تجارب شعرية جيدة، ضمن فضاء قصيدة النثر، كتجارب أدونيس ووديع سعادة وسركون بولص وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وغيرهم، إلا أن الأجيال اللاحقة بإيغالها في الرمز والغموض بحثا عن جماليات أخرى، بعيدا عن الايقاع والموسيقى، فقدت علاقتها بالشعر، بل إنا نعتقدُ أنهم وقعوا صدفة على شكل تعبيري جديد، ولكنه ليس شعرًا بأية حال.
إن هذه الخلاصة تدفعنا جديا الى التساؤل إن كانت هذه الحرب المستمرة منذ اربعينيات القرن العشرين بين شعراء “التفعيلة” و”النثر” ساهمت في إثراء المدونة العربية وفي تطوير الخطاب الشعري أم فتحت الباب أمام وجه جديد من الاستعمار الثقافي أخرج الشعرية العربية من استثنائياتها إلى ما يشبه “الهجين” الذي يحاول عبثا قطعَ سرّته مع الجغرافيا المحليّة والانتماء إلى نصّ كوني؟
وليد أحمد الفرشيشي (حروب الشعراء اللذيذة!)