
طالبوا السلطات ببناء مواقفها السياسية على ضوء مصالح الجاليات في الخارج
باماكو ـ الشيخ ولد محمد حرمه
في أحد المحلات الموريتانية بالعاصمة المالية باماكو جلس (الداوَ) وسط حلقة من التجار يستذكرون الأحداث التي شهدتها المدينة خلال الشهرين الماضيين، ولم تكن طمأنينتهم لتخفي مسحة من الخوف المبطن والمغلف بعبارات المديح في حق الشعب المالي “الطيب” والثناء على العلاقة بين الشعبين.
المصطفى ولد أحمد طالب أو (الداوَ) كما ينادونه هنا في السوق، يقول إنه يعمل في باماكو منذ ثماني سنوات وكان شاهداً على الأحداث الأخيرة حيث كان من القلة الذين أصروا على البقاء رغم إلحاح الأهل والأصدقاء وتحذيراتهم المتواصلة.
في الوقت الذي بقي فيه الداوَ وقليل من التجار الذين رفضوا المغادرة وهم يراهنون على “طيبة الشعب المالي”، كان أغلب التجار في سوق بغداد والذي يعرف محلياً بسوق “بغجادجي”، قد أغلقوا محلاتهم وغادروا إلى موريتانيا.
يصر المصطفى ولد أحمد طالب (42 عاماً) على أن الشعب المالي “طيب ومتسامح ولا يسعى إلى استهداف الموريتانيين”، مضيفاً بأنه في اليوم الأول من الأحداث 02 فبراير، كانت هنالك مسيرة نظمتها عائلات الجنود متوجهة إلى الجمعية الوطنية القريبة جداً من محلات الموريتانيين بسوق بغداد.
يواصل الداوَ في حديثه لصحراء ميديا “نعم.. لقد استهدفتْ محلاتنا في نهاية تلك المسيرة ولكن ليس من طرف السكان، وإنما من طرف لصوص معروفين في السوق تحينوا الفرصة لذلك، بينما دافع عنا سكان الحي الذين نقلوا تاجرا أصيب في الأحداث إلى المستشفى”، ليضيف “إننا نتمتع هنا بسمعة جيدة ولا خوف علينا”.
ويستطرد بعد برهة من التفكير “نعمْ.. لقد تعرض دكان واحد للنهب من طرف السكان، وعندما قمنا بالتحقق من مالكه وجدناه تاجراً موريتانياً كثيراً ما أعلن -وبكل صراحة وعلى مسمع من السكان- أنه يميل إلى المجموعات المسلحة في الشمال، وفي كثير من الأوقات كان يستفز السكان بكلامه عن الأزمة في الشمال”، مؤكداً أن الموريتانيين الذين يتجنبون الاحتكاك واستفزاز العواطف الشعبية المشحونة “يعيشون بسلام ولم يتعرض لهم أحد”، وفق تعبيره.
ما بعد الانقلاب..!
في يوم 22 مارس سيطر ضباط من الجيش المالي على السلطة في باماكو وأعلنوا حل مؤسسات الدولة وإيقاف العمل بالدستور، فانتشرت حالات من النهب في عدة مناطق من باماكو تورط فيها الجيش العائد من المواجهات في الشمال مع المتمردين الطوارق.
يستعيد ولد أحمد طالب ذكريات ذلك اليوم قبل أن يقول “في يوم الانقلاب كنت أمر من وسط المدينة رفقة قريبين لي فأوقفنا عدد من الجنود الغاضبين، كانوا يشهرون أسلحتهم ويتحدثون عنا بعبارات أثارت الرعب فينا، نزلت من السيارة وأخبرتهم أننا موريتانيون ولكن ذلك لم يوقفهم عن تهديدنا، قبل أن يتدخل أحد كبار الضباط ويفحص هوياتنا ليعطيهم الأوامر بعد ذلك بأن يخلوا سبيلنا، بل إنه رافقنا بإحدى السيارات العسكرية حتى أخرجنا من وسط المدينة“.
تتعدد القصص لدى التجار الموريتانيين الذين لم يغادروا العاصمة خلال الفترة التي غابت فيها الدولة وانتشرت حالة من الفوضى في باماكو، ويقول محمد ولد امبارك (23 عاماً) إن “من أشهر تلك القصص تلك التي حدثت مع تاجر موريتاني كان يستعد لإغلاق محله قبيل منتصف الليل قبل أن يأتيه عدد من الجنود وطلبوا منه مساعدة لأنهم مرهقين وعائدين من الجبهة“.
ويواصل ولد امبارك “الجنود كانوا يدركون أن التاجر موريتاني، ولذا طلبوا منه أن يساعدهم فيما كانوا قادرين على نهب محله كما فعلوا مع بعض المباني الحكومية”، قبل أن يضيف “التاجر أعطاهم بعض الشراب ونقوداً لشراء الطعام فشكروه وغادروا”، وفق تعبيره.
الخوف من السياسة..!
“لا نريد سوى أن تعترف السلطات في موريتانيا بوجودنا، وأن لا تقدم على تصرفات تضر بمصالحنا وقد تودي حتى بحياتنا”، هكذا يتحدث امباب ولد امحيمد (30 عاماً) وهو يصر على أن ننقل رسالته إلى السلطات، قائلا: “إننا تجار نكدح في هذه الأرض لنعيل آلاف الأسر في موريتانيا ومنا من يرفض أن يغادر هذه الأرض حتى ولو أشهر السلاح في وجهه”، وفق تعبيره.
نفس الرأي يبديه الداوَ الذي تدخل ليقول “ما نطلبه من السلطات الموريتانية هو أن تدرك أن هنالك جالية كبيرة في مالي وفي غيرها من الدول، وأن تبني مواقفها السياسية على ضوء مصالح هذه الجاليات المهمة”، كما قال.
وأضاف أن “للسياسيين مصالحهم وأجنداتهم الخاصة، ولكن عليهم أن يضعوا مصالحنا نحن أيضا في الحسبان، فإذا كانوا يودون دعم أي طرف فعليهم أن يقوموا بذلك بشكل سري حتى لا نتضرر وندفع ثمن تصرف يقوم به أشخاص جالسون في نواكشوط وليس لديهم ما يخسرونه إذا غضب الشعب المالي هنا في باماكو“.
وأشار إلى أنهم كثيراً ما نفوا للمواطنين الماليين أن تكون موريتانيا تدعم المتمردين في الشمال، مؤكدا أن “الماليين أصبحوا لا يصدقوننا بعد ظهور متحدثين باسم الحركة الوطنية لتحرير أزواد من العاصمة نواكشوط“.
ولكننا أكدنا لهم -يقول ولد أحمد طالب- أن موريتانيا لن تغلق حدودها مع مالي حتى ولو فرضت عقوبات من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وقلنا لهم إننا سنهرب لهم كل ما يحتاجونه إذا ما أغلقت هذه الحدود، وفق تعبيره.
أما عن استهداف الطوارق ومصالحهم من طرف السكان وكيف يفرقون بينهم والموريتانيين يقول ولد أحمد طالب “حوالي 70% من المتعلمين والمثقفين ومن الذين احتكوا بنا يدركون الفرق بين الموريتانيين والطوارق، وطبعاً هنالك أقلية لا تدرك ذلك الفرق وتخلط بين جميع ذوي البشرة البيضاء”، وقال: “لكن هذه الأقلية عاجزة عن تحريك الأغلبية التي تعمل على حمايتنا حين يتم استهدافنا”.
أكبر جالية موريتانية في الخارج..
يقول التجار إن الجالية في مالي هي أكبر جالية موريتانية في الخارج، مؤكدين أن تقديرات أجريت سنة 2004 كانت تشير إلى أنها تصل لحوالي 400 ألف نسمة ولا شك أنها تضاعفت خلال السنوات الأخيرة، بحسب قولهم.
ورغم غياب إحصائية رسمية لهذه الجالية إلا أن عدة ولايات كالحوضين ولعصابه وكيدي ماغه تعتمد بشكل كبير على الحركة التجارية في مالي، ويستفيد التجار الموريتانيون في هذه الولايات من بيع الأقمشة والمواد الغذائية التي يجلبونها إلى محلاتهم في باماكو والمدن الداخلية.
بينما يلجأ أغلب المنمين الموريتانيين إلى الأراضي المالية بحثا عن الماء والمرعى خاصة في ظل موجة الجفاف التي تضرب موريتانيا، حيث يقول ناشطون في الجالية إن نصف الثروة الحيوانية الموريتانية موجود على الأراضي المالية.