كتب المختار السالم:
يضعنا الرئيس محمد ولد عبد العزيز دائما في مواقف محرجة، فعندما تجتاح المعارضة الشارع الموريتاني، وتصبح على بعد “خطوة ونصف” من الثورة، وتشتعل البلاد بقراها ومدنا وأريافها بلهيب الاحتجاجات المطلبية والتظلمية، على وقع الجفاف والعطش والفقر والبطالة واليأس… يخرج الرئيس ملقيا بـ”قشة” اللوم على صنفين محددين: الشعراء والصحفيين..
لا يرى الرئيس في مصائب موريتانيا إلا أنها من صنع الشعراء وعبارة “بلاد المليون شاعر” بالتحديد هي ما يؤرقه، وكذلك الصحفيون المساكين الذين “تتعطل سياراتهم باستمرار” و”يظهرون بحال سيء”.
إذا كانت مشكلة الرئيس مع الصحفيين هي أنهم منابر للجميع، وناقل للوضعية العامة، التي لا يراد لها أن تظهر.. فيمكن فهم مشاعر الرئيس إزاء هذه “الكائنات الخبرية” التي تنقل أخبار الإنس والجن..
لكن ما لا يمكن فهمه هو حساسية الرئيس من الشعراء، وتحميلهم مسؤولية تخلف البلاد وعدم “تقنيتها” أو “تقانتها”.. يبدو الرئيس مصمما على إيجاد “بلاد المليون ميكانيكي”.. يبدو غاضبا من الشعراء إلى حد لا يوصف.. يبدو ساخطا منهم.. وكأنهم “سرقوا” شعاراته، واستولوا عليها.. في كل شيء يظهر الشعراء وكأنهم كابوس الرجل.. في كل الخطابات التي يلقيها الرئيس من بين بقايا أطلال الوطن لم ينس الشعراء.. فتارة لدينا منهم “فائض”، وتارة الفنيون أهم منهم، وتارة أخرى هم سبب بلاء موريتانيا.. وتسمية البلاد بالشعراء عار عليها..
لا أحد يعرف مشكلة الرئيس مع الشعراء.. إن هؤلاء أيضا لا يعرفون، لا هم ولا من يتبعهم من غاوين، سبب نقمة الرئيس عليهم وحساسيته المفرطة منهم..
إن شعراء البلاد لا يتعدون مائتي شاعر.. وحملة الشهادات العاطلون يعدون بالآلاف.. ومن يثورون اليوم طلبا للرحيل أو الماء ليسوا شعراء، ولا أدباء.. إنهم متخصصون في كل المجالات.. من أطباء الأسنان الذين تبعوكم إلى المطار، إلى خبراء ومهندسي التنقيب الذين تجاهلتهم شركة “تازيازت” وجاءت بنظرائهم من الدول الإفريقية… وهي كغيرها من الشركات التي تنهب خيرات البلد بـ”توقيع وطني”..
إن هاجس الرئيس اتجاه الشعراء يكاد يكون أحجية مغلقة في متاهة ذهنية.. إنه يرد على مطالب العطاش والجياع والمرضى والعاطلين بالهجوم على الشعراء..
السيد الرئيس لعل “مشكل الشعراء” بدأ يتجاوز الحدود المعقولة في خطاب شخص رئيس الجمهورية، الذي كان يجب أن يتفاخر بهؤلاء الشعراء الذين رفعوا راية البلاد في محافل الشعر الدولية.. فقلدوا إمارة الشعر، ومثلوا البلاد أحسن تمثيل من بغداد إلى بيروت وأبوظبي والرباط وباريس..
إن مواجهة هؤلاء الشعراء بالسخرية اللاذعة، والإهانة، وعدم الاحترام، أمر يبعث على الدهشة.. ولعله لا يعدو أن يكون من باب سخرية زوجة سقراط من الفلسفة والفلاسفة..
لقد شهد محمود درويش، أحد أكبر شعراء العالم، بموهبة الشعراء الموريتانيين، وهو الذي لا يجامل، واعترف بها القاصي والداني، ومعاجم الشعراء.. إن أدب هؤلاء الشعراء الموريتانيين يدرس في الجامعات العربية والعالمية، وترجم العديد منه إلى اللغات: الفرنسية، الانجليزية، الاسبانية، والبرتغالية وحتى “الصينية”..
وحققنا كل ذلك ونحن فقراء مدقعون و”مدقوعون”، لا نملك كسرة خبزنا ولا حبة دوائنا، ولا سيارة “متعطلة”، ولا فلسا، ولا نحمل “إثما عموميا” ولا مآخذ على أحد..
أنجزنا كل ذلك، ونحن نتخطف أقدامنا في الكبات، تحت “حمام” الشمس الحارقة، ووسط عواصف الغبار، ورياح السموم، ونعيق الطيور، ونهيق الحمير، ومواء القطط.. أي كل البيئة المعادية للشعر والشعور..
ومع ذلك لم نسرق من هذا البلد اللهم إلا نظرات من نساء الكبة، حيث تغطي التعاسة الجمال.. تلك النظرات هي زادنا الروحي نحو الإلهام.. فلعلكم لا تنشئون مفتشية للقلوب تسلط على رقاب وذمم ضعاف الناس.. و”طلبتهم”..
إن ما يحير المرء هو جرأة الرئيس على الشعراء، فقد هابهم ملوك وسلاطين العالم وجنرالاته، بل قدمهم خاتم الأنبياء وساوى بين ألسنتهم وبين سيوف المجاهدين، بل أقسم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، أن قصائدهم أشد وقعا من السيوف.
لا شك أن لجرأة الرئيس على الشعراء سبب، ومبرر.. فالشعراء هم الذين خلدوا العدل والجمال والحرية في تاريخ البشرية…
أم أن الرئيس يرغب في مناوشات مع الشعراء، وملاسنات.. وهل أعد العدة لذلك، وقد بادر.. أم أن في الأمر طلسما لا نعرفه..
السيد الرئيس، في هذا الواقع السيزيفي، وهذا البلد البرزخي، الذي بنينا سمعته ومجده بأقلامنا، حتى صار معلما يعرف بأرض المعرفة وحضارة الشناقطة…يجب أن يفهم البعض أننا نختلف عن نوعية الضباط الذين نالوا رتبة جنرال وهم جالسون بين حوالات محصلية الضرائب حيث لم تطأ أقدامهم أبدا جبهة القتال..