حرب تكتيكية ما بين المعارضة والأمن.. والشباب من التحمس للمواجهة إلى التذمر من الانسحاب
نواكشوط ــ الشيخ ولد محمد حرمه
عند تمام الساعة الثالثة فجراً.. كان أحد الشباب بلثامه المحكم يجمع بعض الحجارة ويقول “ستعرف الشرطة أنه ليست كل ليلة جمعة” وهو يستعيد ذكريات اقتحام الشرطة لاعتصام المعارضة الأربعاء الماضي، قبل أن يلتحق به أحد رفاقه ليخبره بتعليق الاعتصام.. وضع الحجارة وبدأ في طرح الأسئلة.
استطاع هذا الشاب وعشرات الشباب الآخرين المتحمسين لمواجهة الشرطة، أن يتزعموا المشهد ويختطفوا الأضواء من المنصة الرسمية منذ منتصف الليل عندما بدأت بوادر صدام أكيد بين الشرطة والشباب تخيم على شارع جمال عبد الناصر وساحة ابن عباس.
كان الإصرار على البقاء والمواجهة حاضراً بقوة في خطاب المنصة كما في حوارات الشباب الجانبية، وبدا ذلك أكثر وضوحاً في التركيز الزائد على تثقيف المعتصمين حول طرق الصمود في وجه مسيلات الدموع.
“خذ هذه قد تنفعك”.. عبارة يكررها شاب يرتدي قميصاً أحمر عاكساً للضوء وهو يوزع كمامات الهواء ومناديل مرشوشة بخل التفاح، فيما كان قليلون من الذين يتزعمون التخطيط للمواجهة من الشباب يرتدون نظارات سباحة من أجل حماية أعينهم من تأثير مسيلات للدموع يتوقعون إطلاقها بكثافة.
كان عدد من الناشطين في حركة 25 فبراير يتخذون مجلساً في الجهة الغربية من الساحة، يحملون معهم ما يعتبرونه “عدة الحرب” من تجهيزات تقي من مسيلات الدموع من بينها كمامات يستخدمها عادة العاملون في شركة (MCM) المعدنية للوقاية من السموم، إضافة إلى مواد أخرى تنفع الإغماء والاختناق، وتدور مجمل أحاديثهم عن آليات الوقوف في وجه الشرطة التي يراهنون على أن تدخلها لن يتأخر.
في تلك الأثناء كان الجو داخل الساحة تنعشه خطب سياسيي الصف الثاني من المعارضة بعد أن أنهى الزعماء مداخلاتهم واتخذوا مجلساً أسفل المنصة على أرض ما تزال طرية من المياه التي فرقتهم الأسبوع الماضي.. إسلامي يتهكم من ولد عبد العزيز وقيادي في التكتل ينكت عليه.. وطالب في جامعة نواكشوط يتوعده !
وبين هذا وذاك كان أحد “المنشدين” يحاول بأناشيد “ثورية وطنية” أن يلهب الجماهير التي بدأ التعب ينال منها ويجبرها البرد على الانسحاب أو الاحتماء بحائط مسجد ابن عباس وبعض البنايات المجاورة، خاصة وأن الخيام التي ميزت اعتصام الأربعاء الماضي كانت أبرز الغائبين عن اعتصام هذا الأربعاء.
يصعد شاب منفعل إلى المنصة ويقول عبر مكبر الصوت “الزعماء موجودون وصامدون”، محاولاً بذلك نفي شائعة مغادرتهم الساحة، يواصل الشاب بنفس درجة الانفعال “على المتواجدين فوق الرصيف أن يلتحقوا بالمنصة”، ولكن نداءه لم يجد آذانا صاغية لدى شباب منهمك في التخطيط للمواجهة.
كانت الأنباء تأتي بين الفينة والأخرى لتؤكد تحرك الشرطة من جهة الإذاعة، فيما تقول شابة ترتدي زياً رياضياً أسفل الملحفة التقليدية وهي تخاطب أحد الشباب “إنهم قريبون جداً ولديهم كلاب خاصة ومدربة”، يثير النبأ مخاوف البعض فيما يراهن آخرون على أنه “مجرد شائعة”.
يبدأ الشباب في الاستعداد للمواجهة على مستوى جبهتين، الأولى في الجانب الغربي من الساحة على الشارع المحاذي لابن عباس، حيث سيطر الشباب ووضعوا متاريس على طول الشارع حاول أمن الطرق أن يزيلها قبل أن يتراجع أمام صيحات الشباب واحتجاجاتهم التي كادت أن تتطور إلى اشتباكات.
أما في الجهة الشرقية من الساحة، قبالة الشارع الذي يمر بمحاذاة مقر اتحاد أرباب العمل، كان شبان يتأهبون في صمت لمواجهة الشرطة التي سبق وأن اعتمدت على هذا الشارع في تقدمها نحو الساحة الأسبوع الماضي.
وفي خضم ذلك.. كان كل شيء جاهز وينذر بقرب المواجهة خاصة عندما انسحبت سيارات أمن الطرق مفسحة المجال أمام الشباب ليقطع شارع جمال عبد الناصر ويحرق بعض الإطارات في لحظات كادت أن تخرج فيها الأمور عن السيطرة.
أجواء من التوتر والترقب كان شارع جمال عبد الناصر هو قلب الحدث النابض فيها، بينما انزاحت المنصة الرسمية إلى الخلفية بعد سحب مكبرات الصوت وإطفاء أغلب المصابيح، تراجع انتهى بإعلان قادة منسقية المعارضة تعليق اعتصامهم والانسحاب.. قرار اعتبره الشباب “مفاجئاً لهم”.
أعلنت المعارضة الانسحاب وبدأت الجموع تتفرق من حول المنصة وتلتحم بالشباب المتحمسين للمواجهة على شارع جمال عبد الناصر لتخبرهم بنهاية الاعتصام، فيما كان يبدو خللا في التنسيق بين المنصة الرسمية والشباب المستعدين للمواجهة.
“لقد انتهى الهدف التكتيكي”، يقول السالك ولد سيدي محمود، النائب البرلماني عن حزب تواصل الإسلامي، في تصريح لصحراء ميديا وهو يغادر الساحة، مؤكداً أن “المسيرة رفعت التحدي من خلال تعبئة الجماهير الكبيرة والإنعاش حتى وقت متأخر من الليل”.
كان ولد سيدي محمود يتحدث لصحراء ميديا وسط تعليقات لبعض الشباب الغاضبين من قرار قادة المعارضة بالانسحاب، وهو ما رد عليه بأن “الزعماء صمدوا في المرة الماضية رغم القمع الذي تعرضوا له على يد الشرطة، واليوم بتقدير ذاتي منهم، قرروا الانسحاب ليس استجابة لنداءات الشرطة ولا بداعي الخوف والتهيب وإنما لأنهم يريدون شباباً متحمساً قادرا على الاستمرار والسهر الليلة وليلة غد وليالي أخرى كثيرة قادمة”.
خلت الساحة من قادة المعارضة كما خلت بعد ذلك من فلول الشباب، لتدخلها الشرطة بعد ذلك فيما يشبه مسيرة احتفالية شاركت فيها سيارتين من فرقة “الوجار” التي تستخدم الكلاب المدربة في التفتيش وملاحقة المجرمين والبضائع المهربة، والتي كانت على ما يبدو تستعد للمشاركة في اقتحام ساحة ابن عباس.