يُجمع الموريتانيون على تدني مستوى التعليم في البلاد، وترتفع الدعوات المطالبة بإصلاحه، فيما أعلن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني فور وصوله إلى الحكم أنه سيعمل على تأسيس ما سماه «مدرسة جمهورية»، ولكن تجارب إصلاح التعليم في هذه البلاد كثيرة ولم تكلل في أغلبها بالنجاح، وحده إصلاح 1973 يوصف من طرف الخبراء بأنه «أول إصلاح جذري وجدي»، فما هي قصة هذا الإصلاح.
بدأت القصة شهر أكتوبر من عام 1972، حين قرر حزب الشعب (الحزب الحاكم آنذاك) تشكيل «لجنة وطنية لإصلاح التعليم»، وعهد برئاستها إلى الدكتور محمد المختار ولد اباه، مع عدد من الشخصيات البارزة التي دخل أغلبها الحكومة قبل أن تحضر أول اجتماع للجنة.
يقول الدكتور محمد المختار ولد اباه، في تقرير حول أعمال اللجنة اطلعت عليه «صحراء ميديا»، إنه بدأ عمله كرئيس للجنة «بدراسة الوضع، ورسم الأهداف وتصور الاقتراحات الممكنة»، وهو ما أخذ شهرين (بداية عام 1973) من المشاورات الداخلية وزيارة دول المغرب العربي للاطلاع على تجاربها لإصلاح التعليم، وختم عمله بلقاءات مع وفود الهيئات الدولية (اليونسكو والبنك الدولي).
وضعت اللجنة مع نهاية العام (1973)، الخطوط العريضة لما سمته «رؤية شاملة» للإصلاح يمكن تلخيصها في عشر نقاط بارزة تتقدمها عملية «تعريب شاملة للعلوم الإسلامية، وإنشاء قطب معرب من التعليم العلمي»، كما تضمنت أيضاً «إنشاء شهادات موريتانية في الأدب والعلوم والتعليم الأصلي والاقتصاد، وإنشاء باكلوريا أدبية أصلية يمكن النجاح فيها للمتفوقين في العربية»، هذا بالإضافة إلى «الاعتناء بتعليم البنات وخلق الظروف الملائمة له، والاعتناء بالتعليم الديني المتمثل في المحاضر ومعهد أبي تلميت والمعهد العالي للدراسات الإسلامية».
رؤية الإصلاح (يمكن الإطلاع عليها بالضغط هنا: اصلاح التعليم) تضمنت أيضاً إنشاء المعهد التربوي وإنشاء خمس مؤسسات في التعليم العالي تضم: المدرسة العليا للتعليم، والمدرسة الإدارية، ومعهد الزراعة، ومعهد العلوم الإسلامية، ومعهد التعليم الفني.
ولضمان متابعة عملية الإصلاح وتحسينها، اقترحت الخطة تشكيل خلية للتخطيط، وإنشاء هيئة خاصة بمتابعة تنفيذ الإصلاح وفق الجدول الزمني المقترح في الخطة.
الإصلاح المنعطف
من بين كل تجارب إصلاح التعليم، يبقى إصلاح 1973 عالقا في أذهان الموريتانيين، ويصفه الخبراء بأنه «أول إصلاح حقيقي» للتعليم في موريتانيا، رغم العيوب التي شابت تطبيقه وسرعة التراجع عنه في «إصلاح» آخر كانت تغلب عليه الارتجالية.
الباحث الموريتاني سيدي محمد بن محمد عبد الله بن عرفه، ورئيس قطاع الإنتاج التربوي في موريتانيا، يقول معلقاً على إصلاح 1973: «يعتبر الأخصائيون أن هذا أول إصلاح للتعليم الموريتاني تتوفر فيه الخصائص النظرية للإصلاح التربوي، حيث اتسم بالشمولية – نسبياً – وتضمن الإشارة إلى ضرورة ربط التعليم بمتطلبات التنمية».
ويضيف الباحث في ملف منشور في عدد من مجلة (التعليم) صادرة عام 2016 عن المعهد التربوي الوطني، أن الإصلاح المذكور «اعتمد على مرجعية الخصوصية الثقافية للبلد عند رسم أهدافه، إذ صرح في ديباجته بالغاية التربوية المتمثلة في (خلق مواطن متشبع بروح الإسلام ومتمثل لقيمه السامية)، ونص على أن اللغة العربية لغة رسمية للبلاد وأن الفرنسية لغة أجنبية».
لقد تضمن إصلاح 1973 نقاطاً جوهرية ميزته عن الإصلاحات التي سبقته وتلك التي أعقبته، وكان هو الإصلاح الذي اقترب من حسم الجدل حول اللغة والهوية، ووضع أسس منظومة تربوية ذات طابع وطني، تماشياً مع متطلبات الساحة آنذاك، الراغبة في إحداث قطيعة تامة مع بقايا الاستعمار.
وحول الظروف التي عملت فيها اللجنة يقول رئيسها الدكتور محمد المختار ولد اباه: «كنا نعمل بكل استقلالية فكرية، دون أي تأثير سياسي أو ارتباط إيديولوجي، فكان الهدف عندنا هو ما يعيد إلى بلاد شنقيط هويتها الإسلامية وثقافتها الأصلية».
ويصف الباحث الموريتاني سيدي محمد بن محمد عبد الله بن عرفه الإصلاح بـ «المنعطف»، ويقول: «لا مراء في أن هذا الإصلاح يعتبر منعطفاً جوهرياً في مسيرتنا التربوية الحديثة، وأن مخرجاته كانت بمثابة دعامة بشرية لبناء الدولة على أسس أكثر تمثيلاً لمكونات الشعب».
مشاكل التطبيق
عندما سلمت اللجنة وثيقة الإصلاح إلى السلطات، تلقى رئيسها تهنئة من طرف المكتب السياسي الوطني لحزب الشعب، أعلى هيئة سياسية وتنفيذية في البلاد آنذاك، وذلك في رسالة بعث بها وزير التهذيب الوطني آنذاك عبد العزيز صال.
وأحدثت وثيقة الإصلاح آنذاك حالة من الارتياح، رغم التململ في صفوف أنصار اللغة الفرنسية، وبعض المتعصبين من دعاة التعريب، إلا أن ذلك لم يمنع السلطات من الشروع الفوري في تطبيق خطة الإصلاح.
ولكن الطريق لم تكن مفروشة بالورود، فقد واجهت خطة الإصلاح الكثير من العراقيل، إذ يقول الدكتور محمد المختار ولد اباه: «إذا كنت مسؤولا عن تصور هذا الإصلاح ومحررا لمضامينه، فذلك لا يعني أني أعتقد أنه كان عملا لا نواقص فيه، كما أني أعترف أن تطبيقه لم يتم على الصورة المقررة في وثيقته».
وأضاف: «نعترف أن وثيقة الإصلاح ليست سوى اقتراحات نظرية، ولو كانت محددة»، مشيراً إلى أن «النتائج تتعلق أساسا بحسن التطبيق، وهو من مسؤولية الدولة سياسيا وماليا، ومهمة المؤسسات فنيا وعمليا».
وأشار ولد اباه إلى أن مشاركته في تطبيق الإصلاح «كانت محدودة تتلخص فيما عُهد إلي من إدارة مدرسة التعليم العليا التي كونت مئات الأساتذة وعشرات المفتشين»، مؤكداً أن «صلاحية كل إصلاح لا تتجاوز نحوا من عشر سنين، وقد تم تغيير مجرى الإصلاح سنة 1979 فيما يخص البرامج والمناهج».
في غضون ذلك يقول الدكتور سيدي محمد ولد المصطفى، وهو مختص في علوم التربية والقيادة ومفتش تعليم أساسي إن إصلاح 1973 «كان يسير بخطى ثابتة، وإن شابته بعض النواقص التي يمكن تداركها مثل: نقص التعبئة والتحسيس به في أوساط المصالح المعنية به»، مشيراً إلى أن الرئيس المختار ولد داداه وجه آنذاك رسالة لوزير التهذيب الوطني حول ذلك.
ويتحدث الخبراء عن نواقص كبيرة شابت تطبيق الإصلاح، إذ يشير الباحث الأكاديمي والوزير السابق البكاي ولد عبد المالك، في مقالة حول إصلاح التعليم إلى أن «إصلاح 1973 المنشئ لشهادة الباكالوريا الوطنية، تضمن شهادة باكالوريا اقتصاد لكن لم يتم العمل بها».
ولكن الضربة القاصمة جاءت عام 1979 حين أصدرت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني ما سمته «إجراءات انتقالية» تفصل بين الدارسين باللغة العربية والفرنسية، وذلك لتهدئة الأجواء بعد مظاهرات طلاب التعليم الثانوي في انواكشوط التي انقسمت بين دعاة ترسيم اللغة العربية وآخرين يصرون على ترسيم اللغة الفرنسية.
ويقول الدكتور سيدي محمد ولد المصطفى إن هذه الإجراءات الانتقالية استمرت لأكثر من عشرين عاماً وتم بموجبها «تقسيم الشعب الواحد في الدولة الواحدة إلى فئتين تدرسان بلغتين مختلفتين وتنهلان من ثقافتين متباينتين !!».
ويضيف ولد المصطفى إنه «بموجب هذا الإجراء تم التخلي عن إصلاح 1973 الذي تم تبنيه في ظروف عادية وجرى الإعداد له لفترة قبل اعتماده، وهو الإصلاح الذي كرس ازدواجية التعليم لجميع الموريتانيين ومحض السنة الأولي ابتدائية للغة العربية».
ورغم العيوب الكبيرة التي شابت تطبيق إصلاح 1973 إلا أنه ترك بصمات كبيرة في المنظومة التربوية الموريتانية، وذلك ما يشير إليه رئيس اللجنة حين يقول إنه بعد إجراءات 1979 «استمرت المؤسسات في العمل على ما تقرر في الإصلاح الأول، فيما عدا الفصل بين نظام التعليم العربي والفرنسي».