محمد عبد الله محمد محمود*
ثارت هذه الأيام ضجة إعلامية كبيرة حول شرعية وعدم شرعية الإجراء المتخذ من لدن شرطة الموريتانية ضد اثنين من أعضاء البرلمان الموريتاني، وبما أن جل ما كتب في الموضوع إن لم يكن كله، لم يتناول المسألة من الوجهة القانونية وخلط بين الرأي والخبر والقانوني والسياسي..عن وعي أو بدون وعي، مما جعل الرأي العام الذي ينبغي أن يطلع علي الحقيقة يسمع جعجعة ولا يري طحينا فوقع في حيص بيص واختلط حابله بنابله، الأمر الذي جعلني أراني ملزما بصفتي متخصصا في الموضوع بتناول هذه المسألة من الناحية القانونية، إنارة للرأي العام وحتي الخاص بما في ذلك البرلمانيين أنفسهم، والذين أعرف أن جلهم حسب تكوينهم قد لا يكون ملما بالقدر الكافي بهذه المسألة التي تعتبر من أهم حقوقه بصفته برلمانيا. فماهي إذن الحصانة البرلمانية؟ وما هي حدودها؟
إن معظم دساتير دول العالم بما فيها دستورنا الوطني تتضمن نصوصاً تكفل الاستقلال لأعضاء المجالس البرلمانية، والحماية لهم ضد أنواع التعسف والتهديد والانتقام، سواء من جانب السلطات الأخرى فـي المجتمع أم من جانب الأفراد، وتحقق لهم الطمأنينة العامة والثقة الكاملة عند مباشرة أعمالهم النيابية، هذه النصوص تجسد ما يعرف باسم “الحصانة البرلمانية”
وهي ” ضمانة دستورية بعدم اتخاذ أي من الإجراءات الجنائية فـي غير حالة التلبس بالجريمة ضد أحد أعضاء البرلمان أثناء انعقاده بغير إذن من المجلس التابع له ذلك العضو”[1] من الناحية الإجرائية.
وهي نوعان: حصانة موضوعية وحصانة إجرائية وقد فصلتهما المادة: 50 من دستور 20 يوليو المعدل 2006 وهذا نصها :
لا يرخص في متابعة عضو من اعضاء البرلمان ولا في البحث عنه ولا في توقيفه ولا في اعتقاله ولا في محاكمته بسبب ما يدلي به من رأي أو تصويت أثناء ممارسة مهامه.
كما لا يرخص في متابعة أو توقيف عضو من أعضاء البرلمان أثناء دوراته لأسباب
جنائية أو جنحية ما عدا التلبس بالجريمة إلا بإذن من الغرفة التي ينتمي إليها.
لا يرخص في توقيف عضو من أعضاء البرلمان خارج دوراته الا بإذن من مكتب الغرفة التي ينتمي إليها سوى في حالة التلبس بالجريمة والمتابعات المرخص فيها أو حكم نهائي بشانه.
يعلق اعتقال عضو البرلمان أو متابعته إذا طلبت ذلك الغرفة التي ينتمي اليها[2] .
يتضح من هذه المادة أن مبدأ الحصانة الموضوعية هو امتياز مقرر لمصلحة الوظيفة البرلمانية، وليس امتيازا شخصياً لمصلحة عضو البرلمان ولذا لا يمكنه التنازل عنها.
فالحصانة الموضوعية تعني عدم مسئولية أعضاء البرلمان عن الأقوال أو الأفكار والآراء التي تصدر منهم أثناء ممارستهم لوظائفهم النيابية.
وأجمع فقهاء القانون الدستوري على أن الحصانة الموضوعية من النظام العام، ومستمرة ودائمة سواء أثناء مدة العضوية أم بعد انتهائها، وأن للعضو حق التمسك بها في أي وقت وفي أي حالة كانت عليها الدعوى، فهي تمنع كلتا المسئوليتين المدنية والجنائية من أصولها فلا يعد هناك أمراً يعاقب عليه أصلاً .[3]
أما الحصانة الإجرائية فتعني عدم جواز اتخاذ أية إجراءات ضد أي من أعضاء البرلمان فـي غير حالة التلبس بالجريمة إلا بعد إذن المجلس التابع له، ولهذا يطلق عليها الحصانة ضد الإجراءات الجنائية وعادة :” يقررها الدستور لأعضاء المجالس التشريعية ومؤداها عدم جواز اتخاذ الإجراءات الجنائية ضدهم قبل الحصول على أذن المجلس “[4]
إن الحصانة البرلمانية الإجرائية لا تمتد إلى حالة التلبس بالجريمة، إذ أن الأمر يتطلب تدخلاً فورياً من جانب مأموري الضبط القضائي، فكان لابد من الاعتراف لهم باتخاذ الإجراءات المناسبة للمحافظة على أدلة الجريمة من العبث أو الضياع.
وذهب الفقه في مصر إلى أن الحصانة الإجرائية تمتد إلى منزل النائب فلا يجوز تفتيشه، لأن ذلك التفتيش فيه اعتداء على حرية النائب واستقلاله [5].
وتمتاز بأنها محددة المدة : حيث تسري خلال فترة انعقاد المجلس فقط، وهي لا تنفي الجريمة ولا تمنع العقاب أصلاً بل تحول فقط دون اتخاذ إجراءات جزائية تمس شخص النائب أو عضو المجلس أثناء انعقاد المجلس، فهي حصانة محددة المدة [6].
كما أنها قاصرة على الدعاوى الجنائية، وبناء عليه فهي لا تمانع من اتخاذ أي إجراء مدني مهما كان نوعه، فيمكن لأي فرد أن يرفع أي دعوى مدنية أمام القضاء ضد أي من الأعضاء وأثناء دورات الانعقاد دون إذن من المجلس، ويدخل ضمن ذلك الدعاوى التي يطلب فيها المدعون تعويضاً عن جرائم ارتكبها أعضاء البرلمان وحكم بإدانتهم فيها، أو التي ترفع عليهم بصفتهم مسئولين عن الحقوق المدنية .[7]
هذا بالإضافة إلي الحالات التي تزول فيها الحصانة البرلمانية الإجرائية والتي يجوز فيها تحريك الدعوى الجزائية ضد عضو البرلمان وهي أربع حالات :
1- صدور إذن من المجلس.
2- انتهاء دورة انعقاد المجلس.
3- التلبس بالجريمة (الجرم المشهود).
التفرقة بين الحصانة البرلمانية الموضوعية والبرلمانية الإجرائية :
تختلف الحصانة الموضوعية عن الحصانة الإجرائية في الأمور التالية :
الحصانة الموضوعية تمنع أصلاً المسئوليتين الجنائية والمدنية عن كل ما يبديه عضو البرلمان من الأقوال والآراء بمناسبة عمله البرلماني، أما الحصانة البرلمانية الإجرائية فهي لا تنفي الجريمة ولا تمنع العقاب أصلاً، بل تحول دون اتخاذ إجراءات ضد عضو البرلمان بدون إذن المجلس أثناء دورة الانعقاد، وإذن رئيس المجلس في غير حالة الانعقاد .
الغرض من الحصانة الموضوعية هو ضمان حرية المناقشة والرأي والتصويت، أما الحصانة الإجرائية فالغرض منها عدم انتزاع العضو من مقعده أثناء الدورة .
الحصانة الموضوعية حصانة دائمة ونهائية فلا يصح مؤاخذة نائب سابق عما أبداه من الآراء والأفكار في المجلس مدة نيابته بحجة أن العضوية زالت عنه، والحصانة البرلمانية الإجرائية مؤقتة وتزول بزوال صفة النائب .
والحصانة الموضوعية والإجرائية وإن اختلفتا في بعض النواحي إلا أنهما يتفقان بأنهما من حقوق المجلس والوظيفة البرلمانية لا العضو ذاته، فلا يجوز للعضو أن يتنازل عنهما . [9]
وتمثل الحصانة سواء كانت موضوعية أو إجرائية استثناء من القانون العام، اقتضته ضرورة جعل السلطة التشريعية ـ الممثل الحقيقي للأمة ـ بمنأى عن اعتداءات السلطات الأخرى وطغيانها، وهي وإن كانت فـي ظاهرها تخل بمبدأ المساواة بين الأفراد، إلا أن عدم المساواة هنا لم يقرر لمصلحة النائب بل لمصلحة سلطة الأمة، ولحفظ كيان التمثيل النيابي وصيانته ضد كل اعتداء، ولكن ليس معنى ذلك أن يصبح أعضاء البرلمان دون بقية الأفراد ـ فوق القانون لا حسيب عليهم ولا رقيب. فالحصانة فـي الواقع ليست طليقة من كل قيد أو حد؛ بل هناك ضوابط وقيود عديدة تحد من نطاقها إذا ما تجاوز عضو البرلمان الحدود المسموح بها، أو الحدود المشروعة لها، فهي عندما تقررت إنما كان لهدف محدد وواضح لا يجوز تجاوزه أو الخروج عليه، وإلا تعرض عضو البرلمان للمسئولية كاملة.
ورغم أهمية موضوع الحصانة البرلمانية على هذا النحو ورغم أنه موضوع قديم إلا أنه يكاد يكون من الموضوعات التي لم تُطرق بشكل متعمق من جانب رجال الفقه الإسلامي عامة، وعلماء السياسة الشرعية، إلا أن التشريعات الوضعية كفلت لاعتبارات معينه لبعض الأشخاص التمتع ببعض الحصانات ومن هؤلاء رئيس الدولة وأعضاء البرلمان والقضاة والدمبلوماسيين حيث يتمتع الجميع بالحصانة الجنائية، والحكمة من حصانتهم هي عدم تمكين الحكومة من التأثير عليهم في عملهم أو منعهم من أداء واجبهم.
ويجمع الفقه الوضعي على أن الحصانة البرلمانية فـي أي من الدساتير التي تضمنتها ليست امتيازاً للعضو، ولكنها ضمان للهيئة التشريعية نفسها فـي مجموعها باعتبارها ممثلاً للشعب لتحقيق استقلالها، وفـي الوقت نفسه تعتبر ضماناً لحرية العضو فـي القيام بواجباته داخل المجلس الذي يتمتع بعضويته، وهو فـي مأمن من خصومه السياسيين أو تعنت السلطة التنفيذية معه.
وعلى ذلك فإن القصد من الحصانة البرلمانية هو عدم تمكين السلطة التنفيذية من التأثير على أعضاء السلطة التشريعية عن طريق القبض والحبس أو المحاكمة الكيدية حتى تتجنب أو تؤجل معارضتهم لها، وتضفي الدساتير على أعضاء البرلمان حصانة تمنع من اتخاذ إجراءات جنائية نحوهم دون إذن من المجلس التابعين له في غير حالة التلبس. وترى تلك الحصانة إلى وضع الأعضاء تحت حماية البرلمان،ومن البدهي أن عدم المسئولية لا يشمل إلا ما يبديه العضو من الآراء والأفكار “[10] التي يبديها عضو البرلمان داخل قبة البرلمان أو خارج المجلس بمناسبة قيامه بعمل برلماني. كأن يكون منتخباً في لجنة تحقيق برلمانية مثلا منتدبة للعمل خارج المجلس.كما تشمل المناقشات والمداولات التي تتم في الجلسات أو اللجان واقتراح مشروعات القوانين، والأسئلة الشفوية والمكتوبة التي توجه إلى الوزراء، فاصطلاح الآراء والأفكار لا يجسدان في الواقع سوى الأسلوب أو النهج العادي واليومي لأعضاء البرلمان، فهو يغطي أنشطة أعضاء البرلمان في كافة الأجهزة التي يشتمل عليها، ويلاحظ أن عدم المسئولية لا يتعدى إلى ما يصدر من النائب من أفعال كالضربويتمتع بهذه الضمانة ولو شملت الأقوال والآراء قذفاً أو سباً أو دعوة لارتكاب جريمة أو تحبيذ لها [11].
وأري أن الحصانة في التشريعات الإسلامية يجب أن تقتصر علي عدم مساءلة النائب عما يصدر عنه من نقد لسياسة الحكومة وما يتعلق بها، ولا تمتد هذه الحصانة إلي ما يصدر من البرلماني من شتم وقذف.. لأن ذلك يصادم الشريعة الإسلامية حيث أن التشريع الجنائي الإسلامي لا يفرق في نصوصه ولا في تطبيقاته بين الناس نظرا إلي اختلاف مناصبهم أو أجناسهم.. وإنما الجميع أمامه سواسية، كما أن ذلك يفتح الباب بصراعيه أمام ضعاف النفوس من البرلمانيين – وما أكثرهم – إلي الشطط في استعمال هذه الحصانة لأغراض شخصية قد تصل حد الابتزاز والاعتداء علي أفراد الشعب والذي هو مصدر كل السلطات. وأعقتقد أن التوسع في الحصانة في الأنظمة الغربية يعود إلي ترسبات الماضي، حيث كان-ولا يزال – شخص الملك مقدسا باعتباره لا يفعل إلا خيرا؟ بينما النظام الإسلامي كما أسلفنا الجميع أمامه سواسية. فهل أن مشرعنا الوطني يدرك تلك الفروق في المرجعيات والخصوصيات التي تتمتع بها كل حضارة بل وكل دولة بل وكل أقليم من أقاليمها، وما يكتنف ذلك من ظروف طبيعية واجتماعية.. أم أن مشرعنا سيظل يستورد التشريعات والمناهج التربوية.. كما لو أنها مأكولات من إنتاج الطبيعة؟
3- رمضان محمد بطيخ ، الحصانة البرلمانية وتطبيقاتها فـي مصر( القاهرة، دار النهضة العربية،ط1، 1994م) ص15
[2]– أمر قانوني رقم : 022 يتضمن دستور الجمهرية الإسلامية الموريتانية جامعة انواكشوك كلية العلوم القانونية والاقتصادية السلسلة القانونية 1 النصوص التشريعية (الكتاب الأول) منشورات مركز البحوث القانونية والاقتصادية أبريل 1996 سحب المدرسة الوطنية بالمعهد التربوي الوطني ص 13
[3]– وحيد رأفت , ووايت إبراهيم ، القانون الدستوري ( القاهرة، المطبعة العصرية ، 1937م) ص441،و فؤاد كمال بك ، الأوضاع البرلمانية ( القاهرة ، مطبعة دار الكتب المصرية ، ط1، 1927)ص337
[4]– مجمع اللغة ، معجم القانون ، ص 313 مادة (حصانة برلمانية ) .
[7]– محمد أبو العينين ، الحصانة البرلمانية ( القاهرة ، مجلة القضاء، عدد يناير ـ ابريل ، 1981م)، ص133، ومحمود مصطفى ، شرح قانون الإجراءات الجنائية ( الإسكندرية، مطبعة دار نشر الثقافة ، 1976 م) ص99، والعرابي باشا
2- وتفاصيله انظر. محمود مصطفى ، شرح قانون الإجراءات الجنائية ، ص100 – 101 ، وعقل يوسف مصطفى مقابله ، الحصانات القانونية في المسائل الجنائية ، ص405-413 ، والهام محمد العاقل ، الحصانة في الإجراءات الجنائية ، ص318- 320 ،436-452، وأحمد حبول ، أحكام الحصانة البرلمانية ، ص88
-[9]انظر محمد عبدالسلام الزيات ، وهاني خير ومحمد حسن مازن ، أحكام الدستور (عمان ، مطبعة القوات المسلحة ، ط1،1971م)ص59
[10]– انظر محمد عبدالسلام الزيات ، وهاني خير ومحمد حسن مازن ، أحكام الدستور (عمان ، مطبعة القوات المسلحة ، ط1،1971م) ص58
[11]– إسماعيل الخلفي ضمانات عضو البرلمان ( القاهرة ، كلية الحقوق بجامعة القاهرة ، 1999 م)ص119
* باحث متخصص في القانون العام