شاءت الأقدار أن يفجع المغرب، وهو يستعد للاحتفال بالذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء؛ في واحد من أكبر شعرائه وأغزرهم إنتاجا وأكثرهم حضورا في المنتديات الثقافية: الراحل مولاي علي الصقلي الحسني، سليل مدينة فاس حيث ولد عام 1932، وفي رواية أنه رأى النور بها قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ.
ومهما كانت صحة ودقة الرواية، فإن ما خلفه الراحل من شعر وأدب لا يقاس بسنوات عمره المديد؛ فالقريض لم يفارق لسانه، متطرقا إلى كل المواضيع والأغراض التقليدية التي اشتهر بها ديوان العرب.
ولا مبالغة في القول في هذا الصدد إن الصقلي يضاهي أكابر شعراء اللغة العربية أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد مهدي الجواهري. هؤلاء الأعلام النوابغ الذين منحوا الشعر العربي أروع القصائد، مبنى ومعنى، خيالا وموسيقى وامتدادا في الزمان والمكان.
برزت موهبة الصقلي مبكرا من خلال قصائده الأولى ذات المنحى التقليدي الأصيل، تجلى فيها امتلاكه لناصية اللغة العربية التي نهل أصولها وعلومها من جامعة القرويين حيث أجازه علماؤها مطلع خمسينيات القرن الماضي، بالشهادة التي كان يطلق عليها اسم « العالمية »، إشارة إلى أن المتخرج الحاصل عليها، بلغ ذروة المعارف، وصار جديرا بلقب العالم.
فإلى جانب رصانة السبك وجزالة اللفظ ورهافة الإحساس، وهب الله الفقيد قدرة هائلة على الارتجال العفوي للشعر، وأذنا موسيقية قادرة على التمييز الدقيق بين الجرس الرنان أو الخفي للكلمات، ما أضفى على أغلب إنتاجه الشعري -وكله عمودي- مسحة موسيقية عذبة وجذابة، هي التي أغرته لاحقا لخوض تجربة كتابة الأغاني، وخاصة بعد أن تيسر له لقاء في العاصمة المغربية، مع موهبة موسيقية فذة ممثلة في شخص الراحل عبد القادر الراشدي.
فكما أن الصقلي هو مؤلف النشيد الوطني الذي صار المغاربة يتغنون به في المناسبات الوطنية، تختتم وتفتتح به برامج الإذاعات ومحطات التلفزيون في المغرب؛ فإن الموسيقار الراشدي، هو أيضا ملحن المقطوعة الرائدة والخالدة « رقصة الأطلس » التي شاعت مشرقا ومغربا، ويتغنى بها المغاربة في لحظات الفرح والنشوة.
الولع بالجمال، وطد العلاقة بين الشاعر المبدع والموسيقار المجدد؛ ليثمر اللقاء بينهما أعمالاً فنية جميلة لعل أشهرها أغنية في مديح الرسول تحت عنوان « من ضي بهاك، كحلت عيني بالليل والنهار » التي أداها بشجن مؤثر المطرب الراحل محمد الحياني، صاحب الصوت الشجي الرخيم. قطعة لم ينل توالي الزمن منها، تهز النفس وتصعد بها في عوالم روحية صوفية.
متنوعة هي الآثار الأدبية التي خلفها الشاعر الصقلي، لكنه من الضروري الإشارة إلى أن هذا الشاعر وقد بلغ ذروة الكلاسيكية بل جددها، كتب القصائد الكثيرة للأطفال والفتيان في قالب قصصي؛ بث فيها قيماً أخلاقية، فقد كان رجل تربية وتعليم، ما أهله للفوز بجائزة الملك فيصل العالمية لأدب الأطفال، مناصفة مع شاعر مغربي زميل له، هو الراحل أحمد عبد السلام البقالي، ابن مدينة أصيلة.
لم يكف الصقلي، عن قول الشعر إلى آخر أيامه، فكان القصيد يأتيه دون عنت أو تكلف، يرتجل في المناسبات الثقافية والوطنية والاجتماعية، وما حضر مجلسا إلا وأتحف الحاضرين بقصيدة، ولو كانت قصيرة وموجزة، ينشدها تحت إلحاح المعجبين.
وبالعودة إلى قصة النشيد الوطني، يتذكر الجميع أن المغرب وحتى عام 1970 لم يكن لديه نشيد وطني مكتوب، حتى أمر الملك الراحل الحسن الثاني، وقد استشعر هذا النقص، بتنظيم مباراة بين أفضل الشعراء المغاربة لكتابة نشيد يصبح هوية بلادهم، مشترطا قيدا فنيا صعبا، يقضي بأن تساير كلمات النشيد الإيقاع الموسيقي لما كان يسمى بـ « السلام الملكي »، وهو لحن ألفه الفرنسي « ليو مورغان » في عهد الحماية الفرنسية على المغرب.
ومن المؤكد أن الحسن الثاني كان معجبا باللحن الموسيقي، وكذلك والده، فإلى جانب موهبة مؤلفه الذي استطاع أن ينقل مشاعر المغاربة الوطنية، ويسكبها في قالب موسيقي ليس غريبا على سمعهم، لذا سرعان ما أَلِفوه منذ الاستقلال.
لم يكن سهلا على أي شاعر متسابق التقيد باللحن، وتأثيثه بكلمات ذات إيقاع خاص بها، جيدة وواضحة المعنى تعبر بصدق وعاطفة قوية جياشة عن الشعور الوطني الجماعي لكل المغاربة حيال وطنهم مثلما تعكس تعلقهم ببلادهم واستعدادهم للتضحية من أجلها.
كان يحلو للشاعر الصقلي أن يروي لقلة من خُلّص أصدقائه، تفاصيل اللحظة التي أعلن فيها عن فوز قصيدته (منبت الأحرار)، حين أجازتها بالإجماع اللجنة التي اختار الملك أعضاءها بعناية، وفق معايير تضمن تحليها بالنزاهة والموضوعية.
وقبل أن يطلع الملك على ما انتهت إليه اللجنة، سأل الأعضاء إن كانوا قد احتكموا فعلا إلى ضمائرهم ومعرفتهم الأدبية، مضيفا أنه لن يقبل منهم المجاملة أو المحاباة في ترجيح عمل فني، سيبقى مدى الدهر عنوانا للمغاربة.
أقسم الأعضاء أنهم احتكموا إلى معيار الجدارة والإجادة التامة باصطفائهم لكلمات مولاي علي الصقلي.
لم يكن الاسم غريبا على الملك، فقد عمل الشاعر في الديوان الملكي بعد الاستقلال، في الكتابة الخاصة للملك الراحل محمد الخامس، وبتلك الصفة كتب عددا من الظهائر (مراسيم) الملكية التي كانت تنسخ بخط مغربي أصيل، قبل أن يطلع المغاربة على صورتها ومحتواها.
كيف صاغ الشاعر نشيد الوطن، صحيح أن العبارة لا تعوزه بل تأتيه الجمل الشعرية منقادة مطواعة، لكن المشكل في إخضاعها للحن السابق عليها وتناغمها معه.
رهان صعب دفع الصقلي إلى الاستعانة بالخبرة الموسيقية لصديقه الموسيقار الراشدي، سهر الاثنان ليالي طوال، يتدربان على البروفات حتى أحسا بتطابق الكلمات مع اللحن الأصلي تطابقا تاما واطمئنا إلى العمل فرقصا فرحا وطربا بالانجاز الذي ينتظره عاهل البلاد الراحل الحسن الثاني.
كان حدثا فنيا ووطنيا غير مسبوق، أول المبتهجين والمنوهين به الملك الحسن الثاني الذي أمر بأن يتم توزيعه موسيقيا، على يد أمهر العازفين والموسيقيين، ليكتشف المغاربة عظمة النشيد في مباريات كاس العالم عام 1970 في مكسيكو، حيث اكتملت الفرحة بتأهيل الفريق المغربي لكرة القدم وفوزه في الأطوار الأولى في تلك المنافسة الرياضية العالمية.
قبل المصادقة على النشيد، استأذن الملك الحسن الثاني الشاعر واللجنة، بأن يغير كلمة واحدة فقط من كلمات النشيد، ففي الأصل كتب الشاعر « عطر كل لسان » لاحظ الملك بأدب إن لفظة « عطر » التي قصد بها الشاعر حلاوة ومتعة التغني بالوطن، لا تناسب السياق من وجهة نظره، مقترحا على الشاعر أن يستبدلها بـ « ذكر كل لسان »، خاصة وأن اللفظتين على نفس الوزن الموسيقي.
صفق الحاضرون وغادروا القصر الملكي يرددون « منبت الأحرار.. مشرق الأنوار »، السمفونية المغربية الخالدة.
لم ينس الملك تلك التحفة الشعرية للشاعر الصقلي، كان يتصل به حسبما روى بين الفينة والأخرى ليطلب منه عملا ثقافيا، وفي إحدى المرات عبر الملك عن رغبته في الاستماع إلى المصحف الشريف بتلاوة الشاعر على الصقلي لفصاحته ونطقه السليم ونبرات صوته الشجي، رحمه الله.
ـــــــ
- يُنشر هذا الموضوع بموجب اتفاق تعاون ما بين صحراء ميديا وصحيفة إيلاف وإيلاف المغرب