اقريني امينوه – صحراء ميديا
على جادة شارع جمال عبد الناصر، في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط، اختفت الصحف اليومية المعروضة، ولم تعد تستوقف المارة لإلقاء نظرة سريعة على عناوينها التي تختزل تفاصيل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي كل يوم، لقد غابت هذه الصحف بسبب أزمة مالية خانقة تضرب « المطبعة الوطنية » الوحيدة في البلاد.
جريدة « الشعب » التي تصدر عن الوكالة الموريتانية للأنباء، وتعد الناطق الرسمي باسم الحكومة، كانت آخر الصحف اليومية التي لفظت أنفاسها الأخيرة، بعد قرابة نصف قرن من الصدور المنتظم، لقد مر أسبوع على اختفاء « الشعب »، بنسختيها العربية والفرنسية.
نهاية عصر !
تختلف الروايات فى تحديد أسباب توقف جريدة « الشعب »، إلا أن مصدرا من داخل الوكالة الموريتانية للأنباء قال لـ « صحراء ميديا » إن السبب المباشر أو المعلن على الأقل هو « قرار اتخذته الحكومة، وأبلغت به المديرة العامة للوكالة الموريتانية للأنباء بواسطة الوزير الوصي يوم الجمعة الماضي ».
يأتي قرار الحكومة توقيف جريدة « الشعب » عن الصدور، بعد محاولات عديدة لحل الأزمة الحقيقية التي تعصف بقطاع الصحف الورقية في موريتانيا، وهي الأزمة المالية التي تضرب المطبعة الوطنية، تلك الأزمة التي تفسر قرار الحكومة.
لكن الصحفي مولاي ولد أبحيده، عضو مجلس إدارة المطبعة الوطنية، يجد تفسيراً آخر لقرار الحكومة ويشير إلى ما قاله وزير الاقتصاد والمالية المختار ولد أجاي أمام البرلمان: « الجريدة لم تعد ضرورية، خاصة مع عصر الانفتاح الاعلامي ».
تلميحات الوزير دفعت أحد مؤسسي جريدة « الشعب » من الذين أفنوا زهرة شبابهم في العمل فيها، الصحفي المتقاعد محمد الحافظ ولد محم إلى كتابة مقال تساءل فيه: « هل توقفت (الأهرام) القاهرية عن الصدور في الورق، هل توقفت (لموند) الفرنسية، وحتى (لسولي) السنغالية الأكثر انتشارا في المنطقة، هل توقفت عن الصدور.. بل أن الدول الأقل منا إمكانيات كمالي وبوركينا فاسو لم تتوقف صحفها الوطنية عن الصدور ».
من جانبه يرفض الصحفي ولد أبحيده فكرة « التوقف النهائي »، ويقول: « لم تصلني معلومات مؤكدة إن كان القرار حسم فعلاً، أم أن الأمر مجرد عجز مالي؛ دفع بإدارتها إلى قرار التوقف حتى إشعار آخر ».
بالعودة إلى تاريخ صدور جريدة « الشعب » نجد أنها سبق وأن توقف عن الصدور « مرة واحدة »، كان ذلك منتصف عام 1982، إلى غاية يونيو 1983.
وحسب الأستاذ محمد الحافظ ولد محم، الذي عمل فى الجريدة منذ قرار إنشاءها وحتى العام 2015 حين استفاد من حقه فى التقاعد، فإن ذلك التوقف كان « مرده فني وليس مالي ».
وأوضح ولد محم أن المطبعة آنذاك كانت لديها مشاكل فى الحرف العربي، ما دفع لتوقف صدور النسخة العربية، وولكن النسخة الفرنسية استمر صدورها، وفق تعبيره.
ويقول ولد محم إن أول توقف يشمل النسختين العربية والفرنسية من الجريدة وقع شهر ديسمبر 2017 « عندما أعلنت المطبعة الوطنية عجزها عن سحب الجريدتين، واستمر هذا التوقف حوالي عشرين يوما ».
مطبعة خاصة
كان من اللافت فى أزمة توقف جريدة « الشعب » الأخير، لجوء الأخيرة لمطبعة خاصة من أجل سحب أعداد من الجريدة صدرت بالتزامن مع القمة الأفريقية التي احتضنتها نواكشوط مطلع الشهر الجاري، وهي المرة الأولى التي تسحب فيها الجريدة من مطبعة خاصة.
وقال أحد العاملين في الجريدة لـ « صحراء ميديا » إنه « بعد التوقف الأخير للمطبعة الوطنية، وجدت الوكالة الموريتانية للأنباء الضوء الأخضر من الوصاية بسحب الجريدتين خارج المطبعة الوطنية »، وأضاف المصدر: « استمر سحبهما من طرف مطبعة (مسك) الخصوصية إلى حين الإعلان عن وقف صدورهما ورقيا الجمعة الماضي ».
ويشير الصحفي مولاي ولد ابحيده إلى أن فاتورة السحب من المطبعة الخاصة وصلت إلى « نصف مليون أوقية قديمة »، بحسب ما بلغه من مصادر قال إنه يتحفظ عليها، إلا أن أحد مصدراً في المطبعة الخاصة تواصلت معه « صحراء ميديا » رفض التعليق على المبلغ المذكور.
وفى هذا الصدد تطفو على السطح المشاكل المالية التى تعاني منها المطبعة الوطنية، وهي التي تطالب العديد من الوزارات والإدارات العمومية بديون كبيرة، ساهمت بشكل كبير في إصابتها بالشلل ثم الموت السري.
نسبة كبيرة من هذه الديون على الوكالة الموريتانية للأنباء، وقال مصدر من داخل المطبعة إن « إدارة المطبعة تتهم الوكالة فى المماطلة فى التسديد، رغم تحسن مداخليها من الاعلانات الثابتة للجريدة ».
مستقبل غامض
إذا تأكدت تلميحات وزير الاقتصاد والمالية، وتخلت الحكومة عن إصدار جريدة « الشعب » بنسختيها، فإن أسئلة كثيرة تطرح حول مستقبل الصحفيين والفنيين العاملين في الجريدة، وحتى أولئك العاملين في المطبعة الوطنية.
تتنوع السيناريوهات، ولعل من أكثر هذه السيناريوهات قتامة ذلك الذي يذهب إليه الصحفي مولاي ولد أبحيده حين يقول: « أعتقد أن مستقبل عمال الشعب، رسميون ومتعاونون مع الوكالة سيكون صعبا، نظرا للتسريح الذي ينتظرهم فى حال صدر قرار التوقف رسمياً ».
إلا أن ولد أبحيده يرى أنه يمكن أن « يتم تحجيم أجورهم ومرتباتهم بشكل يتناسب مع الوضع الجديد، وهو واقع كارثي يشبه واقع أمثالهم فى المؤسسات التى تعرضت للتصفية »، على حد وصفه.
في المقابل يشير مصدر رفيع تحدث لـ « صحراء ميديا » من داخل إدارة الوكالة الموريتانية للأنباء إلى « احتمال دمج عمال الجريدة الورقية فى مشروع الجريدة الإلكتروني »، وقال المصدر إن « قرار الحكومة وقف إصدار الجريدتين ورقيا، صاحبه كذلك أمر للوكالة الموريتانية للأنباء الجهة الناشرة لجريدتي الشعب وأوريزوه، بأن تعد تصورا حول الشروع في تحول الجريدتين الورقيتين إلى جريدتين رقميتين ».
وأوضح المصدر أن التوجه الحكومي يقضي بأن « طاقم الجريدة سيواصل نفس المهمة رغم بعض الفوارق والاختلافات التي تقضيها طبيعة التحول »، قبل أن يضيف: « ثم إن الجريدتين جزء من كل تمثله الوكالة الموريتانية للأنباء »
إلا أن أحد العاملين فى الجريدة فضل عدم البوح باسمه، قال إنه « لا يملك أي معلومات حول جزئية مستقبلهم المهني ».
وأمام الغموض الذي يلف المستقبل، يستعيد عمال الجريدة ذكريات الماضي الجميل، ذلك ما عبر عنه محمد الحافظ ولد محم في مقاله حين قال: « في يوليو الحالي (2018) تكمل جريدة (الشعب) العام الـ 43 من عمرها، كصحيفة يومية إخبارية جامعة، احتضنت عبر تاريخها العشرات من الكتاب والمبدعين الموريتانيين الذين نشروا فيها من درر أفكارهم ما هو ذخر لهذا الوطن العزيز ».
ويضيف ولد محم: « اختصت (الشعب) بكونها السجل المكتوب للأحداث الوطنية في عقدين من الزمن، كانت فيهما اليومية الوطنية الوحيدة، وهي بذلك تشكل جزءا أساسيا من مكونات (الذاكرة الوطنية) للدولة الموريتانية ».
لم يشفع هذا التاريخ للجريدة، ولم يمكنها من الصمود فى وجه التحديات المالية، فها هي سفينتها تترنح فى وجه عاصفة قد تقتلعها من الجذور، ولن يبقى في الذاكرة إلا مجرد اسم قد لا يعني للأجيال القادمة الكثير، لأنهم ببساطة لم ينتظروا صدور عدد يحمل خبر نجاحهم فى مسابقة دخول السنة الأولى إعدادية، على غرار أجيال كثيرة سبقتهم.