أستاذ تعليم عالي
بلاد شنقيط، أرض البيظان، بلاد التكرور أو موطن المليون شاعر؛ تسميات كلها تحيل إلى موروث حضاري ثر، ومنظومة من قيم التسامح والإباء والكرامة ميزت أبناء شعبنا الذي تعايش لآلاف السنين بكل مكوناته في إخاء ومحبة على هذه الأرض الطيبة.
ورغم التسمية الطارئة مع المشروع الاستعماري في نوفمبر 1897 لم تكن (موريتانيا) إلا اسما جامعا جسد وحدة شعب متشبث بحضارته وهويته العربية الإسلامية وانتمائه الإفريقي، منسجما في حركته، موحدا في تطلعاته، متمسكا بثوابته، مستقلا في خياراته؛ فكانت الشخصية الموريتانية، مزيجا بين نقاء طبيعة الصحراء والقدرة على استيعاب متطلبات المدنية الحديثة والتفاعل الإيجابي مع ما يستجد من تطور علمي وتقني.
ولئن كانت عوامل الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي والقهر السياسي والفساد الإداري التي مورست على هذا الشعب لأكثر من مائة عام، كان نصفها في ظل استعمار خارجي، في حين ظل الشعب لأكثر من خمسين عاما تحت استغلال طبقة سياسية جشعة، كرست مجموعة من الممارسات والمسلكيات الشاذة مثلت عوائق حقيقية للتنمية في بلادنا.
إن عدم وجود سلطة مركزية في البلاد منذ سقوط دولة المرابطين وحتى مجيء الاستعمار الفرنسي، وعزوف شعبنا عن كل ما له صلة بسلطة الدولة؛ قد يكون أثر على نحو ملموس في تكوين من تولوا المسؤولية أو تطلعوا إليها، وبالتالي تشكلت طبقة سياسية مختلفة إن لم نقل مناقضة للشعب في قيمه ومثله واتجاهاته..!! فأحيانا يختبئ حملة بعض الأفكار خلف مسميات اختاروها لعيب يعتقدون بوجوده في أسمائهم الحقيقية، وأحيانا يتسمي آخرون بأسماء يتناقضون معها يوميا.! ولكي ابتعد عن التعميم وأكون مباشرا فيما أقول أورد مثالا على ذلك:
فعندما يقرر البعض أن يتبنى أفكار ماوتسي تونع أو لينين ومن قبلهما ماركس وهيغل لماذا يهرب من تسمية (الشيوعي) ويلجأ إلى (الاشتراكي) وليس وحده اشتراكيا، أو (الديموقراطي) وليس وحده ديموقراطيا، أو (الوطني) وليس وحده وطنيا، أو (الكادح) وليس وحده كادحا، في حين أن تسمية (الشيوعي) هي الوصف الدال فعلا على فكره ومنهجه، وإذا كان في فكره ومنهجه ما يعيب لماذا لا يملك الشجاعة لاتخاذ موقف وخيار منسجم مع قناعته؟؟
إن هذا المثال سينطبق باختلاف الوصف والدلالة على أكثر من رأي سياسي في بلادنا، إلا أن المجال لا يتسع لذكر أكثر من مثال، ويمكن القول إن سياسيينا هم حملة شعارات مرحلية أكثر منهم حملة أفكار ونظريات، فالطبيعي أن يكون السياسي صاحب فكر ورؤية وموقف إلا أن قادة السياسة والأحزاب عندنا (قديما وحديثا) لا يهمهم تأصيل الفكر ولا وضوح الرؤية ولا ثبات الموقف بقدر ما تستهلكهم مغريات المنافع الآنية التي امتطوا صهوة السياسة بحثا عنها منذ عقود ولا زالوا..!
ولو عاد أغلب القادة (التاريخيين) للحركات السياسية في بلادنا لوقفة ومراجعة مع الذات وتقييم مسارهم، وقبله التفكير في مدى استيعابهم وتمسكهم وانسجامهم مع الأفكار التي بشروا بها وروجوا لها لعقود لأدركوا كما يدرك الكثيرون من حولهم حجم الفراغ الفكري والسياسي الذي يتخبطون فيه، وهذا الحال لا تسلم منه جهة سواء من دعاة الأممية كالشيوعيين أو الإسلاميين، أو دعاة القومية كالبعثيين والناصريين، أما غير هؤلاء فهم في الغالب مجموعات انتهازيين لا فكر لهم…
لكن ينبغي أن لا يفهم هذا الكلام على أنه استهانة بالقوى المذكورة ودورها، فقد قلت: (أغلب القادة التاريخيين لهذه الحركات).
إن من يعتقد بسلبية دور هذه القوى في حركة المجتمع الموريتاني ليس فقط جاهلا بحقائق الأمور، إنما أيضا جاحدا وناكرا للجميل حيث ساهمت هذه الحركات بالفعل في نشر الوعي، والنهوض بالمجتمع ولعبت أدوارا إيجابية لتحقيق كل ما وصلت إليه الدولة والمجتمع .
إلا أنها هي ذاتها أيضا كانت في أحيان كثيرة ضحية لانتهازية بعض من تولوا مسؤوليتها، وفي الوقت الذي قدمت فيه تضحيات جسام، إلا أن تجربة عشرين سنة من الانفتاح والتعددية والعمل السياسي العلني أظهرت اختلالات كبيرة في تفكير ومنهج ومواقف رجال كثيرا ما اختبأوا خلف شعارات ومواقف مفتعلة .
لا أنكر أنني لم أفاجأ قبل أسابيع ببعض التصريحات لزعامات حزبية معروفة، لكنني بالفعل فوجئت بتصريحات مماثلة لقيادات حزبية أخرى نحت نفس المنحى، وعدم استغرابي من الأولى ليس لعدم غرابتها، إنما لأننا ألفنا من تلك الزعامات مثل هذا الحديث، أما أن يستفحل الأمر ويصل إلى حد اللعب على عواطف المواطنين وبالبحث عن منطقة رخوة كي يطعن منها هذا البلد باستغلال شرائح كالمراهقين وغيرهم ممن يستهويهم تقليد الآخر، بغض النظر عن العواقب والمخاطر التي تنتج عن هذا الفعل، فذلك ما اعتقد جازما أنه يستحق أن نقف عنده جميعا لنسأل أنفسنا في أي اتجاه نسير وأي مصير نريده لموريتانيا؟؟
إن محاولة تشبيه الوضع في موريتانيا اليوم بالوضع في بلدان كتونس ومصر والدعوة إلى أن يهب الشعب لحمل شعارات كالتي رفعت هناك قصد الحصول على نفس النتائج، قد لا يعاب على من في سن ووعي أولئك الذين حضروا مساء يوم الجمعة الماضي قبالة البنك الموريتاني للتجارة الدولية، لكنه بالفعل مخجل لمحرضيهم الذين يفترض -وفق ما رتبوه لأنفسهم- أن تكون لديهم رؤى سياسية ثاقبة، وأن تكون أقوالهم وتصريحاتهم مصانة عن العبث.
ولكي أبين وجه العبثية في الموضوع أناقشه من زاويتين اثنتين: الأولى تتعلق بثورتي تونس ومصر؛ أسبابهما ومسارهما وغاياتهما. والزاوية الثانية تتعلق بالوضع الحالي في موريتانيا كيف وصلنا إليه وماذا ننتظر منه؟ّّّّ
فالذي حصل في تونس ومصر هو ثورة شعبية ضد نظامين حكما لعقود من الزمن بشكل استبدادي لم يجلب السوء لبلديهما فقط، إنما تجاوزهما لمناطق أخرى في الوطن العربي على الأقل، لذلك كانت القاعدة الأساسية الرافضة للنظامين هي القوى الشعبية المحرومة والطبقات الكادحة من الشعب التي ثارت ضد رئيسين فرضا نفسيهما فرضا كل هذه المدة دون تناوب.
أما في حالة موريتانيا فإن الدستور يقر بأن مدة رئاسة أي شخص هي لدورتين فقط والرئيس الحالي منتخب منذ أقل من سنتين، وخاض انتخابات ديمقراطية ترشح فيها كل خصومه وخضعت لرقابة محلية ودولية حاز فيها على ثقة الشعب بأغلبية مطلقة .
وسؤال بسيط لأي عارف بأحوال الموريتانيين اليوم عن إمكانية تحرك سكان الرياض وعرفات ودار النعيم والميناء وتوجنين وغيرها من مدن وحواضر موريتانيا على النحو الذي يريده دعاة الشغب ستظهر الإجابة الموضوعية عليه مدى العبثية في هذا السؤال، لا لشيء أكثر من أن هذه الطبقات هي اليوم أكثر وعيا وإدراكا بحقيقة ما يدور وربما تكون متقدمة في فهمها ووعيها على من يريدون تحريكها.
كما أن الكبت السياسي ومصادرة الحريات الفردية والجماعية للمواطنين سمة مميزة للنظامين في تونس ومصر، وشكل هذا التضييق في الحريات العامة ضغطا قويا حفز الشارع على الإسراع بالثورة التي خلصت في تونس وحدها أكثر من ثلاثين ألف سجين رأي من مصير ليس بالإمكان تقديره. واليوم يعرف الجميع أن سجون موريتانيا خالية بالمطلق من أي سجين رأي .
ثم إن ارتباط النظامين في مصر وتونس بالأجندة الأجنبية التي كبلتهم باتفاقيات مهينة كانت لها انعكاساتها الخطيرة على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وجعلت الشعب يثور ضد النظامين انطلاقا من حقيقة أن (ليس بالخبز وحده يحيى الانسان).
والشعب الموريتاني بأسره يحتفظ لرئيس الجمهورية بتقدير خاص لإقدامه دون تردد على قطع العلاقات المشينة مع الكيان الصهيوني.
كما أن البؤس الاجتماعي والفقر والفساد الإداري وغلاء المعيشة أمور هي الأخرى كان لها الحضور والأثر الكبير في حركة الشعبين التونسي والمصري، وتبين من الوضع فيمها وفي بقية بلدان المغرب والمشرق العربيين ونقاط أخرى من العالم أن هناك مشكلة حقيقية متمثلة في غلاء الأسعار على امتداد هذه الساحات…
إن نظرة موضوعية لأسباب ومسار ثورتي مصر وتونس وما آلتا إليه يجعل الواحد منا يتردد أكثر من مرة قبل الحديث عن وجه شبه مع واقعنا في موريتانيا اليوم.
ولا أريد أن أقول مطلقا إن موريتانيا اليوم واحة غناء، وأن كل ما نبغيه فيها قد تحقق، لكن يضيق الوقت أيضا عن تعداد ما قيم به من أجل التغيير والإصلاح، ولا ننسى أن سورة الفتح نزلت بعد صلح الحديبية -بما فيه من بنود- وقبل عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وقبل ذلك ود المسلمون لو أنهم ظفروا بأبي سفيان وقافلته ولم يعترضهم جيش المشركين.
والأمثلة هنا تضرب ولا تقاس، إلا أن أفضل ما نستند إليه ونقيس عليه هو سيرة ومنهج سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
فالصراع قبل كل شيء صراع إرادات، إرادة تعمل بتفاؤل وأمل لأجل مستقبل أفضل، وبتصميم على بناء موريتانيا مختلفة عن تلك التي غادرناها. وفي المقابل إرادة تسعى لتحقيق مآرب ذاتية، حتى ولو كلف الأمر التضحية بمقدرات البلد والعودة إلى سياسة التجهيل والتيئيس والتجويع والتخويف…
كنت وما زلت أرفض الدفاع عن أي موقف لا ينسجم مع قناعتي وما أراه صوابا، لكنني لا أجد غضاضة في الإفصاح عن حقيقة تتعرض للتزييف والنكران، فبأي عقل أو حتى بأية أذن ينتظر منا زعماء بعض الأحزاب السياسية أن نسمع حديثهم عن التناوب وهم قابعون في رئاسة تلك الأحزاب منذ تأسيسها، حتى أصبحت تتسمى بأسمائهم، أليس في قيادة تلك الأحزاب ومن بين مناضليها من يمكنهم التناوب مع (الزعيم)؟ أم أنهم ينتظرون هبات داخل أحزابهم تطالب برحيل (الزعيم).
وأود أن أقول إن موريتانيا ظلت وستبقى بلد المحبة والأخوة والتسامح، وسيبقى شعبها متشبثا بثوابته وقيمه، واعيا لحاضره تواقا إلى نهضة شاملة، وتلك هي موريتانيا التي نريدها انسجاما مع هذه الإرادة الشعبية، لكن أية موريتانيا تريدون أيها السادة إذا ما ظل الخطاب خطاب عنف وتجاوز وتخوين وتدمير ورعب؟؟
إن شعبنا يعتقد أن الأسباب الموضوعية للإنتفاض والثورة على نحو ما حصل في تونس ومصر تم تجاوزها في موريتانيا منذ أغسطس 2005 بوعي وحزم وإرادة صلبة التف حولها الشعب وسايرها السياسيون، وأن كل معاني شعار (ارحل) وجهها الشعب إلى أكثر من شخص وأكثر من جهة في 18 يوليو 2009 عبر صناديق الاقتراع.
قبل سنوات كنت أقرأ عمودا لصحفي عربي هو صديق لي وزميل دراسة عنوان عموده الأسبوعي (نصف الحقيقة)، وعندما فرغت من القراءة قلت له: هذه حقيقة، فلماذا لا يكون عنوان عمودك (الحقيقة)؟
قال : لا يمكن قول الحقيقة كاملة .
قلت : ربما من يقول الحقيقة يسقط من أعين الآخرين .
قال : أبدا، في داخلهم يحترمونه لكنهم في الواقع يكرهونه…
معذرة لأن ما قلته يمثل جانبا مهما من الحقيقة، ولكن ليس كل الحقيقة…