باحث بمجال العلوم السياسية
لعل الكل يدرك مدى الحساسية التي تحيط بما يعرف اليوم بمعالجة ملفات حقوق الإنسان ،وهذه الحساسية لا تنصرف إلى حقوق الإنسان كحقوق يجب الاعتراف بها غير قابلة للنفي أو التعطيل ، والدول مطالبة باتخاذ كافة السياسيات والتدابير للتجاوب معها ،وإنما تتعلق غالبا باستخدامات هذه الحقوق وتوظيفها لخدمة أغراض منافية للمصالح العليا والحقيقية لشعب معين ؛ وموريتانيا كغيرها من دول العالم – يستوي في ذلك أوله وثالثه – لها تاريخ غير أنيق في التعاطي مع هذه الحقوق ، وإن كان أقل من حيث الدرجة والحجم والأثر، وهو ما يطرح مشاكل خطيرة تتعلق بكيفية معالجة هذه الوضعية ، والتي تنقسم حولها اتجاهات النخب الوطنية انقساما شديدا ، مابين رافض لها أصلا ، وما بين مثبت بشكل مطلق لانتهاكات يصفها بأنها عنصرية وخطيرة ، وما بين متحفظ يدخلها ويصنفها في إطار الصراع السياسي (داخل الأنظمة السياسية والنخب العسكرية الحاكمة ) والذي لم يتورع عن توظيف كل ما هو اثني وإيديولوجي في هذا الصراع ، فضلا عن أصوات ترى في جانب من هذه القضية ( معترف بها ، أو مشكك حولها ) عمليات حدثت طبقا للقانون والقضاء ،ومن ثم لا يمكن النظر إليها كتصفيات أو كجرائم ميز عنصري ….إلخ.
المهم هنا ليس تبرير أو مساندة أو رفض إحدى الدعاوى ضد الأخرى ، ذلك أننا كموريتانيين نمر بلحظات حساسة من تطورنا السياسي والتاريخي والاجتماعي على ضوء هذه القضايا ، وأمام قرار قد يكون هاما لكنه خطير بنفس القدر ، ويثير من القلق المشروع ضعف ما يثير من الفرح المشروع.
في تقديري الخاص – ناصحا لا مزايدا – أن النظر إلى أسلوب القرار ،ومآلات القرار( الآثار الارتجاعية) ، والبنية التي يتخذ فيها (سياسيا اجتماعياقانونيازمنيا) ، والمنفذين له، أهم بكثير – أخطر- من القرار في حد ذاته ؛ النخبة الوطنية مدعوة لكثير من التبصر والتعقل كي لا يستغل هذا الموضوع في اتجاهات لا تخدم المصلحة الوطنية والمصالح العليا للوطن.
وسنكتفي هنا بملاحظتين توجيهيتين :
الأولى ، تعني كيفية إدارة هذا القرار (معالجته)
الثانية ، مقترح يتعلق بالتنفيذ
أولا : نظن أن هذه القضية هي قضية عابرة للانتماءات والمصالح الضيقة ، وآثارها ذات بعد وطني عام ،لذا وتمشيا مع منطق دولة الحق والقانون التي تتخذ من المؤسسات ومن قيم الديمقراطية شعارا لها ،يجب أن يفتح هذا الملف أمام أطراف وطنية عديدة وليس أمام الطرف الحكومي فقط، إذ لا بد – عاجلا – من استحداث آلية معينة تسمح لكل المعنيين بالمصلحة الوطنية بالمشاركة في إدارة هذا القرار ومتابعته ، على رأس هذه الأطراف القطاعات المعنية في الدولة كما لاحظنا- تنقصهم الخارجية – ولكن أيضا مختلف الفاعلين الحقوقيين والمدنيين والسياسيين ( خصوصا الهيآت الحقوقية النظيفة ،والإعلام المستقل النزيه ،والعلماء المستنيرين ، والمثقفين والمفكرين ) ، وقبل هذا وبعده وضع هذه الآلية تحت الوصاية الفعلية للقضاء الموريتاني للإشراف والتسيير والمصادقة على النتائج؛ وليس أي جهة أخرى . بهذا تعالج هذه المسألة الحيوية والهامة والحساسة في نطاق رسمي ومجتمعي وقانوني واضح، بعيدا عن الارتهان لمناطق الظل ، والمصالح الخاصة والتسويات السطحية والمؤقتة ؛ بالضرورة ستحاول الجهات الأجنبية العديدة التدخل في هذا الملف سرا أو علانية ، فموضوع حقوق الإنسان هو المادة النفاثة والمثيرة للرياء العالمي والتي تفوح منها رائحة المصالح أكثر من أي شيء آخر ، وهنا على الحكومة أن تكون – ولو لمرة – على قدر المسؤولية والمبدئية ، وترفض أي نوع من أنواع التدخل الأجنبي فالموضوع موريتاني أولا و أخيرا ، وإن كان لا بد من كسر هذه الرغبة لدى كل وطني ، على اعتبار وبحجة أن حقوق الإنسان لم تعد مسألة وطنية فحسب بل أصبحت تمثل مضمونا للعلاقات الخارجية للدولة ، وبالتالي ضرورة إشراك المنظمات الحقوقية الدولية ، فلا بد من تبني مقاربة وخيارا عقلانيا يولف بشكل ايجابي بين المبدأ و لبراغماتية في التعاطي مع هذا التدخل ، وحجز مقاعد للهيآت والمنظمات الإقليمية والدولية الأكثر قربا وفهما للواقع الموريتاني ، سواء المنظمة العربية لحقوق الإنسان ، أو الآليات الحقوقية التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، وجامعة الدول العربية ، وكذا آلية الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب ، وبعدها يأتي دور سوبر ماركت المصالح الكبير (الأمم المتحدة ومجلسها لحقوق الإنسان ) والإتحاد الأوروبي ؛ وهو أسلوب للاحتياط والتحسب لكي لا تفسد النية الصالحة لصانع القرار ، والتي نقدر أنها تنعقد لحفظ السلم المجتمعي والحفاظ عليه.
ثانيا: فيما يتعلق بتنفيذ القرار نقترح أن يدخل ضمن مسعى عام يروم التعجيل بحل مختلف الإشكالات العالقة في مجال حقوق الإنسان ولا بأس أن يكون ذلك في إطار ما يسميه البعض ” المصالحة الوطنية” ؛ بهذا يجب النظر إلى هذا الموضوع كجزئية في إطار أعم – لكي لا تبنى عليها ما من شأنه تعقيد الأمور – الدولة إذن مدعوة بالبدء من جديد بشكل جدي ومدروس وتشاركي الاستثمار في المجال الحقوقي (آليات ومضامين) لسد هذه القضايا المؤرقة للبناء الوطني وبشكل دائم ، وقد يكون الاقتباس من التجارب الناجحة ( مغربيا وإفريقيا) أمر لا بأس به ،بالرغم من الفوارق البينة بين الحالات ، فلا يمكن – إلا لمغرض – أن يدعي أن موريتانيا شهدت سياسات ممنهجة للإقصاء أو الإبادة ، أو وجود سياسات ممنهجة أو موافق عليها علنا أو ضمنا من المجتمع الموريتاني تتذرع بالنفي أو الاغتصاب أو التعذيب …ضد جزء آخر من المجتمع ، الذي لا شك فيه أن هناك تجاوزات المسئول الأول عنها هو الأنظمة السلطوية وليس المجتمع الذي عانى هو الآخر من نفس السلطوية . وهي ممارسات وجدت ولكنها لم ترقى إلى مستوى ما حدث في دول عديدة وليس هذا للتهوين بالطبع ( فمن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ) فحقيقة النفس الواحدة كالأنفس الكثيرة في الإسلام ، لكن التوظيف السياسي ، والأجندات التدميرية لدى البعض ممن أصبحت السلطة تعيره سمعها واهتمامها ، هي ما سيحاول استثمار هذه القضية إلى أقصى حد ممكن لتعظيم أرباحه وتخسير الوطن .( والله المستعان )
– أخيرا إن هناك حقوقا يجب أن تعلن وتسترد وطريق ذلك الآمن هو: الاعتراف والتعويض والمصالحة والعفو والتسامح والتعارف.
وإن هناك محاذير يجب التحسب لها ، وهناك وسائل لا بد من التذرع بها من أهمها كما أشرنا من قبل الإشراف القضائي ، فتح الملف أما كل الفاعلين دون إقصاء ومعالجته في النور إعلاميا وثقافيا ودينيا، والمهم أن يعالج بحسن نية لكن بحزم ورشد وعدل ورحمة . يا صانع القرار(خذ الكتاب بقوة) .
المطلوب من الموريتانيين تكبير عقولهم ومساحات وعيهم لترى بصائرهم الفرص التي تلوح لبناء مستقبل زاهر ومشترك لصالح الجميع، فهناك من الدول التي يتجاوز عدد نسماتها مئات الملايين وفيها من اللهجات والأعراق والثقافات والديانات المئات ، والمساحات والموارد فيها شحيحة ، وتاريخها القريب والبعيد دموي بكل معاني الكلمة ، ومع ذلك استطاعت أن تأسس بمنطق العقل والتعقل وبمنطق المصلحة والضرورة ، دولا للحق والقانون والتنمية؛ علينا كمواطنين شرفاء أن لا ننغمس في التناقضات وأن نتسامح ، وأن ندرك المشتركات ، وأن نحثوا في وجوه السياسيين التراب . وأن نرجع إلى ما كنا فيه من الإخوة ومن الدينامية السياسية والاجتماعية والنضال لنيل الحقوق وبناء المستقبل جنبا إلى جنب وليس التلهي بقضايا ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.